على الآباء والأمهات أن يعلموا أن أمر التربية ليس بالأمر اليسير، وإنما هو المحرك الأساسي لسلوك الولد فيما بعد، ولذا كان يجب على المربين سواء كانوا، آباء أو أمهات أو معلمين أن يهتموا بأمر التربية ويتقنوا أصولها، ولقد كان المسلمون الأوائل ينتقون لأولادهم أفضل المؤدبين علماً وأحسنهم خلقاً، وأميزهم أسلوباً وطريقة: وإليك طرفاً من أخبارهم:
قال عُتبة بن أبي سفيان لعبد الصَّمد مؤدِّب ولدِه: ليكن أوَّلَ ما تبدأُ به من إصلاحك بَنِّي إصْلاحُك نَفسَك؛ فإنَّ أَعينهم معقودة بعينك، فالحسَنُ عِندهم ما استحسنت، والقبيحُ عندهم ما استقبحت، علِّمْهم كتابَ اللَّه، ولا تُكرِهْهم عليه فيَملُّوه، ولا تتركْهم منه فيهجُروه، ثم روِّهم من الشِّعر أَعَفَّه، ومن الحديث أَشْرَفه، ولا تُخْرِجْهم من عِلْمٍ إلى غيره حتّى يحْكموه، فإنَّ ازدحامَ الكلام في السَّمع مَضَلَّةٌ للفهم، وعلِّمْهم سِيَرَ الحكماء وأخلاقَ الأدباء، وجنِّبْهُم محادَثة النساء، وتهدَّدْهم بي وأدِّبْهم دُوني، وكنْ لهم كالطَّبيب الذي لا يَعجَل بالدَّواء حتى يعرف الداء، ولا تَتّكل على عُذري، فإني قد اتَّكلتُ على كفايتِك، وزد في تأديبهم أزدك في برّي إن شاء اللَّه "[1]
وقال خلف الأحمر: بعث إلي الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال: " يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين. أقرئه القرآن وعلمه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم، إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد، إذا حضروا مجلسه. ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه، فتميت ذهنه. ولا تمعن في مسامحته، فيستحلي الفراغ ويألفه. وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة. انتهى " .[2]
وقال عبد الملك بن مروان لمؤدب ولده - وكان رجلاً من بني زهرة -: علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، واحملهم على الأخلاق الجميلة، وروِّهم الشعر يشجعوا وينجدوا، وجالس بهم أشراف الناس وأهل العلم منهم، فإنهم أحسن الناس رعةً وأحسنهم أدباً، وجنبهم السَّفلة والخدم، فإنهم أسوأ الناس رعة وأسوؤهم أدباً ومرهم فليستاكوا عرضاً، وليمصوا الماء مصًّا ولا يعبوه عبّا، ووقرهم في العلانية، وذللهم في السر، واضربهم على الكذب، إن الكذب يدعو الى الفجور، والفجور يدعو الى النار، وجنبهم شتم أعراض الرجال، فان الحر لا يجد من عرضه عوضاً، وإذا ولوا أمراً فامنعهم من ضرب الأبشار فإنه عار باقٍ ووتر مطلوب، واحملهم على صلة الأرحام، واعلم أن الأدب أولى بالغلام من النسب."[3]
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى أُمَرَاءِ الْأَمْصَارِ: عَلِّمُوا أَوْلَادَكُمْ الْعَوْمَ وَالْفُرُوسِيَّةَ وَمَا سَارَ مِنَ الْمَثَلِ وَمَا حَسُنَ مِنَ الشِّعْرِ .
وَكَانَ يُقَالُ مِنْ تَمَامِ مَا يَجِبُ لِلْأَبْنَاءِ عَلَى الْآبَاءِ تَعْلِيمُ الْكِتَابَةِ وَالْحِسَابِ وَالسِّبَاحَةِ.[4]
وقَالَ الْحَجَّاجُ لِمُعَلِّمِ وَلَدِهِ: عَلِّمْ وُلْدِي السِّبَاحَةَ قَبْلَ أَنْ تُعَلِّمَهُمْ الْكِتَابَةَ، فَإِنَّهُمْ يَجِدُونَ مَنْ يَكْتُبُ عَنْهُمْ وَلَا يَجِدُونَ مَنْ يَسْبَحُ عَنْهُمْ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّهْيُ عَنْ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ .[5]
وقَالَ بَعْضُ الْمُلُوكِ لِمُؤَدِّبِ وَلَدِهِ: لا تُخْرِجْهُمْ مِنْ عِلْمٍ إِلَى عِلْمٍ حَتَّى يُحْكِمُوهُ ؛ فَإِنَّ اصْطِكَاكَ الْعِلْمِ فِي السَّمْعِ وَازْدِحَامَهُ فِي الْوَهْمِ مَضَلَّةٌ لِلْفَهْمِ .[6]
وأوصى هشام بن عبد الملك سليمان الكلبي لما اتخذه مؤدباً: إن ابني هذا هو جلدة ما بين عيني وقد وليتك تأديبه، فعليك بتقوى الله وأداء الأمانة فيه بخلال: أوّلها أنك مؤتمن عليه، والثانية أنا إمام ترجوني وتخافني، والثالثة كلما ارتقى الغلام في الأمور درجة ارتقيت معه، وفي هذه الخلال ما يرغبك في ما أوصيك به، أن أول ما آمرك به أن تأخذه بكتاب الله وتقرئه في كل يوم عشراً يحفظه حفظ رجل يريد التكسب به، ثم روّه من الشعر أحسنه، ثم تخلل به في أحياء العرب فخذ من صالح شعرهم هجاءً ومديحاً، وبصِّرْه طرفاً من الحلال والحرام والخطب والمغازي، ثم أجلسه كل يوم للناس ليتذكر "[7]
------------------------------
[1] - البيان والتبيين - (1 / 142)
[2] - مقدمة ابن خلدون - (1 / 348) المحاسن والمساوئ - (1 / 244)
[3] - لباب الآداب لأسامة بن منقذ - (1 / 68)
[4] - الآداب الشرعية - (2 / 65) والكامل في اللغة والأدب - (1 / 211) وزهر الأكم في الأمثال و الحكم - (1 / 13)
[5] - الآداب الشرعية - (2 / 65)
[6] - المجالسة وجواهر العلم - (4 / 441)(1639 )
[7] - محاضرات الأدباء - (1 / 19)
وانظر : http://www.saaid.net/doat/alsaqa/24.htm
المقال السابق
المقال التالى