حرية النفس وعتق العبيد في الإسلام
مقدمة
جاء الإسلام ليرُدَّ للبشر -على اختلاف أجناسهم وألوانهم- كرامتهم، فساوى بين بني البشر جميعًا، وجعل مبدأ التقوى هو عِلَّة المفاضلة بينهم، وحَطَّمَ الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة فوارق اللون والجنس، وقضى على التمييز العنصري قضاءً تامًّا؛ عندما رفع بلالَ بن رباح على ظهر الكعبة صادحًا بكلمة التوحيد، وآخى قبل ذلك بين عَمِّه حمزة ومولاه زَيْدٍ.
حجة الوداع ومبدأ المساواة
وفي حجَّة الوداع أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبدأ المساواة، فقال: "أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، وَأَنَّهُ لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، وَلا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى"[1].فكانت الدعوة إلى حرية النفس، وإلى القضاء على العبودية.
فالأصل في الإسلام أن الناس أحرار وليسوا عبيدًا، وذلك بحكم انتمائهم لأبٍ واحد، وبطبيعة ولادتهم هم أحرار.. وقد جاء الإسلام بإقرار هذا الأصل في زمنٍ كان الناس فيه مُسْتَعْبَدِينَ، وقد ذاقوا من أصناف الذُّلِّ والاستعباد ألوانًا!
الإسلام وعتق العبيد
عاشت البشريَّة قبل ظهور الإسلام في ظِلِّ مجتمعات وحضارات تشوبها نُظُمُ المواطنة الباغية، المستندة إلى النظرة القبليَّة الضيِّقة الأفق، والتباين الطبقي الصارخ الذي يُقَسِّم الجماعات الإنسانية إلى طبقات مُتَعَدِّدَة، يَتَرَبَّع على قِمَّتِهَا الأحرار المتمتِّعون بكافَّة حقوق السيادة والسلطان، ويُسْحَقُ العبيدُ -مسلوبو حقِّ الحرية والعيش الكريم- تحتها دون رحمة أو شفقة.
وجاء الإسلام يحضُّ المؤمنين على عتق العبيد، ويحسِّن إطلاقهم، ويُسَمِّيه منًّا وعفوًا، ويعتبر العتق من أَجَلِّ الأعمال، ويدعو المؤمنين إلى تحرير الأرقَّاءِ بأموالهم الخاصَّة، وجَعَلَ كَفَّارة ظلم المملوك أو ضربه إعتاقه، وندب عتق المملوك، وجعل تحريره كفَّارة لجناية القتل الخطأ، والظهار، والحنث في اليمين، والإفطار في رمضان، وأمر بمساعدة من طلب المكاتبة من الأرقَّاء، وجَعَلَ في الرقاب أَحَدَ مصارف الزكاة، وحرَّر أُمَّ الولد بعد وفاة سيِّدِهَا.
خطة الإسلام في معالجة مشكلة الرق
ويمكن تلخيص خُطَّة الإسلام الحكيمة في معالجة مشكلة الرق - هذه المشكلة الإنسانيَّة- في نقاط ثلاث؛ أولها: أنه سَدَّ منابع الرقِّ وحَرَّمه سوى رِقِّ الحرب. وثانيها: أنه وسَّع مصارف العتق. وثالثها: أنه صان حقوق الرقيق بعد الإعتاق.
فقد جاء التشريع الإسلامي بحثِّ المجتمع المسلم الناشئ على عتق العبيد وتحريرهم، واعدًا إيَّاهم بالجزاء العظيم في الآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ مِنَ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ"[2].
وقد رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في عِتق الأَمَةِ وتزوُّجها، فيُروى عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَلِيدَةٌ فَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ..."[3].وقد أعتق الرسول صلى الله عليه وسلم السيدة صفيَّة بنت حُيَيِّ بن أخطب، وجعل عتقها صداقها[4].
وقد كانت وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبيد مِفتاحًا من مفاتيح تأهيل المجتمع لتقَبُّل تحريرهم وعتقهم، فقد حضَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على المعاملة الحسنة لهم، حتى لو كان ذلك في الألفاظ والتعبيرات فقال: "لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي. كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: غُلاَمِي وَجَارِيَتِي، وَفَتَايَ وَفَتَاتِي"[5].
كما أوجب الإسلام إطعام العبيد وإلباسهم من نفس طعام ولباس أهل البيت، وألاَّ يُكَلَّفوا ما لا يطيقون، فيَرْوِي جابرُ بن عبد الله فيقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي
بالمملوكين خيرًا، ويقول: "... أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِنْ لَبُوسِكُمْ، وَلا تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللهِu..."[6]. وغير ذلك من الحقوق التي جَعَلَتْ من العبد كائنًا إنسانيًّا له كرامة لا يجوز الاعتداء عليها.
وفي مرحلة أخرى مهمَّة جعل الإسلام عقوبة تعذيب العبيد وضربهم العتق والتحرُّر؛ لينتقل بالمجتمع إلى مرحلة التحرُّر الواقعي، فيُرْوَى أن عبد الله بن عمر كان قد ضرب غلامًا له، فدعاه فرأى بظهره أثرًا، فقال له: أوجعتُك؟ قال: لا. قال: فأنت عتيق. قال: ثمَّ أخذ شيئًا من الأرض، فقال: ما لي فيه من الأجر ما يزن هذا، إنِّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ ضَرَبَ غُلاَمًا لَهُ حَدًّا لَمْ يَأْتِهِ، أَوْ لَطَمَهُ؛ فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ"[7].
وجعل الإسلامُ أيضًا التلفُّظَ بالعتق من العبارات التي لا تحتمل إلاَّ التنفيذ الفوري، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك: "ثَلاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: الطَّلاقُ وَالنِّكَاحُ وَالْعِتَاقُ"[8].
كما جعل الإسلام عتق العبيد وسيلة من وسائل التكفير عن الخطايا والآثام؛ وذلك للعمل على تحرير أكبر عدد ممكن منهم، فالذنوب لا تنقطع، وكُلُّ ابن آدم خطَّاء، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا كَانَ فَكَاكَهُ مِنَ النَّارِ؛ يُجْزِئُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ، وَأَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ كَانَتَا فَكَاكَهُ مِنَ النَّارِ؛ يُجْزِئُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُمَا عُضْوًا مِنْهُ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً كَانَتْ فَكَاكَهَا مِنَ النَّارِ؛ يُجْزِئُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهَا"[9].
وقد مكَّن الإسلامُ العبيد من استعادة حُرِّيَّتهم بالمكاتبة، وهي أن يُمْنَح العبدُ حُرِّيَّته مقابل مبلغ من المال يتَّفق عليه مع سيِّده، وأوجب أيضًا إعانته؛ لأن الأصل هو الحرِّيَّة، أمَّا العبوديَّة فطارئة، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة في ذلك؛ حيث أدَّى عن جُوَيْرِيَة بنت الحارث ما كُوتبت عليه وتزوَّجها، فلمَّا سمع المسلمون بزواجه منها أَعْتَقُوا ما بأيديهم من السبي، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأُعتق بسببها مائة أهل بيت من بني المصطلق[10].
وأكثر من ذلك، حيث شرع الإسلام عتق العبيد من مصارف الزكاة؛فقال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْـمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْـمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ}[التوبة: 60].
وقد ورد أن الرسولصلى الله عليه وسلم أعتق 63 نسمة، وأعتقت عائشة رضي الله عنها69، وأعتق أبو بكر رضي الله عنه كثيرًا، وأعتق العباس رضي الله عنه سبعين عبدًا، وأعتق عثمان رضي الله عنه عشرين، وأعتق حكيم بن حزام رضي الله عنه مائة، وأعتق عبد الله بن عمر -رضى الله عنهما-ألفًا، وأعتق عبد الرحمن بن عوف ثلاثين ألف نسمة[11].
وقد نجحت هذه السياسة الإسلامية في تقليل تجارة الرق كثيرًا، حتى توقفت تمامًا بعد ذلك، بل إنه في العهود الإسلامية المتأخرة ارتقى الإسلام بالأرقاء من العبودية إلى قمة السلطة السياسية والعسكرية، ولعلَّ خير مثال على ذلك هو حكم دولة المماليك لقطاع كبير من الأمة الإسلامية لمدة قاربت الثلاثمائة عام! وليس لهذا -دون شك- مثيل في تاريخ الدنيا.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]أحمد (23536) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. والطبراني: المعجم الكبير (14444) ، والبيهقي: شعب الإيمان (4921) ، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (2700) .
[2]البخاري: كتاب كفارات الأيمان، باب قول الله تعالى: ﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾(المائدة: 89) وأي الرقاب أزكى (6337) ، ومسلم: كتاب العتق، باب فضل العتق (1509) .
[3]البخاري: كتاب النكاح، باب اتخاذ السراري... (4795) .
[4]البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر (3965) ، ومسلم: كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاق أمة ثم يتزوجها (1365) .
[5]البخاري عن أبي هريرة: كتاب العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله: عبدي وأَمَتي (2414) ، ومسلم: كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب حكم إطلاق لفظ العبد والأَمَة (2249) .
[6]مسلم: كتاب الأيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل... (1661) ، وأحمد (21521) ، والبخاري: الأدب المفرد 1/76 واللفظ له.
[7]مسلم: كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده (1657) ، وأبو داود (5168) ، وأحمد (5051) .
[8]مسند الحارث (503) ، رواه البيهقي عن عمر بن الخطاب موقوفًا 7/341.
[9]مسلم: كتاب العتق، باب فضل العتق (1509) ، والترمذي عن أبي أمامة (1547) ، واللفظ له، وابن ماجه (2522) .
[10]الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 11/210، والسهيلي: الروض الأنف 4/18، وابن كثير: السيرة النبوية 3/303.
[11]أحصى ذلك الكتاني في كتابه: التراتيب الإدارية ص94، 95.