وإذا كان هؤلاء جميعاً ادعوا أن عيسى عليه السلام هو المنتظر، كما قالوا من قبل عن يوحنا المعمدان، فهل ادعى المسيح أو قال لتلاميذه أنه المنتظر، وهل حقق عيسى عليه السلام نبوءات المسيح المنتظر؟
ذات يوم سأل تلاميذه عما يقوله الناس عنه، ثم سألهم « فقال لهم: وأنتم من تقولون إني أنا؟ فأجاب بطرس وقال له: أنت المسيح، فانتهرهم كي لا يقولوا لأحد عنه، وابتدأ يعلّمهم أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيراً ويرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل» مرقس 8/29-31 ، لقد نهرهم ونهاهم أن يقولوا ذلك عنه، وأخبرهم بأنه سيتعرض للمؤامرة والقتل، وهي بلا ريب عكس ما يتوقع من المسيح الظافر. أي أنه أفهمهم أنه ليس هو المسيح المنتصر الذي تنتظرون.
وفي رواية لوقا تأكيد ذلك «فأجاب بطرس وقال: مسيح الله، فانتهرهم وأوصى أن لا يقولوا ذلك لأحد قائلاً: إنه ينبغي أن ابن الإنسان يتألم» لوقا 9/20-21 ، وانتهاره التلاميذ ونهيهم عن إطلاق على اللقب عليه ليس خوفاً من اليهود، فقد أخبر تلاميذه عن تحقق وقوع المؤامرة والألم، وعليه فلا فائدة من إنكار حقيقته لو كان هو المسيح المنتظر، لكنه منعهم لأن ما يقولونه ليس هو الحقيقة.
وهو عليه السلام حرص على نفي هذه الفكرة مرة بعد مرة «فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم، وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً انصرف أيضاً إلى الجبل وحده» يوحنا6/14-15 . لماذا هرب؟ لأنه ليس الملك المنتظر، وهم مصرون على تمليكه بما يرونه من معجزاته عليه السلام، وما يجدونه من شوق وأمل بالخلاص من ظلم الرومان.
وذات مرة قال فيلبس لصديقه نثنائيل: «وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة» .
فجاء نثنائيل إلى المسيح عليه السلام وسأله « وقال له: يا معلّم أنت ابن الله؟ أنت ملك إسرائيل؟ أجاب يسوع وقال له: هل آمنت لأني قلت لك: إني رأيتك تحت التينة، سوف ترى أعظم من هذا» يوحنا 1/45-50 ، فقد أجابه بسؤال وأعلمه أنه سيرى المزيد من المعجزات، ولم يصرح له أنه الملك المنتظر.
وفي بلاط بيلاطس نفى أن يكون الملك المنتظر لليهود، كما زعموا وأشاعوا «أجاب يسوع: مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلّم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا» يوحنا 18/36 ، فمملكته روحانية، في الجنة، وليست مملكة اليهود المنتظرة، المملكة الزمانية المادية، التي يخشاها الرومان.
لذلك ثبتت براءته من هذه التهمة في بلاط بيلاطس الذي سأله قائلاً «: أنت ملك اليهود؟ فأجابه وقال: أنت تقول، فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة والجموع: إني لا أجد علّة في هذا الإنسان» لوقا 23/2-4 ، فجوابه لا يمكن اعتباره بحال من الأحوال إقراراً، فهو يقول له: أنت الذي تقول ذلك، ولست أنا.
وثمة آخرون أدركوا أنه ليس المسيح المنتظر مستدلين بمعرفتهم بأصل المسيح عيسى ونسبه وقومه، بينما المنتظر القادم غريب لا يعرفه اليهود «قال قوم من أهل أورشليم: أليس هذا هو الذي يطلبون أن يقتلوه، وها هو يتكلم جهاراً، ولا يقولون له شيئاً، ألعل الرؤساء عرفوا يقيناً أن هذا هو المسيح حقاً؟ ولكن هذا نعلم من أين هو، وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحد من أين هو» يوحنا 7/25-27 ، ذلك أن المسيح غريب عن بني إسرائيل.
وقد أكد المسيح صدق العلامة التي ذكروها للمسيح الغائب، فقال في نفس السياق: «فنادى يسوع وهو يعلّم في الهيكل قائلاً: تعرفونني وتعرفون من أين أنا، ومن نفسي لم آت، بل الذي أرسلني هو حق، الذي أنتم لستم تعرفونه، أنا أعرفه لأني منه وهو أرسلني...فآمن به كثيرون من الجمع وقالوا: ألعل المسيح متى جاء يعمل آيات أكثر من هذه التي عملها هذا!» يوحنا 7/25-31 ، فذكر المسيح أنه رسول من عند الله، وأنه ليس الذي ينتظرونه، فذاك لا يعرفونه.
وقد آمن به الذين كلمهم، وفهموا أنه ليس المسيح المنتظر، فتأمل قول يوحنا: « فآمن به كثيرون من الجمع وقالوا: ألعل المسيح متى جاء يعمل آيات أكثر من هذه التي عملها هذا؟» يوحنا 7/30-31 .
و عيسى عليه السلام هو ابن داود كما في نسبه الذي ذكره متى ولوقا، وقد دعي مراراً « يا يسوع ابن داود» مرقس 10/47 ، وانظر متى 20/31، ولوقا 18/28، وغيرها .
أما المسيح المنتظر، الملك القادم فليس من ذرية داود، كما شهد المسيح بذلك «فيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلاً: ماذا تظنون في المسيح، ابن من هو؟ قالوا له: ابن داود، قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة، ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن يسأله بتة» متى 22/41-46 .فالمسيح يشهد بصراحة أنه ليس المسيح المنتظر.
والمسيح لا يمكن أن يصبح ملكاً على كرسي داود وغيره، لأنه من ذرية الملك يهوياقيم، أحد أجداد المسيح كما في سفر الأيام الأول « بنو يوشيا: البكر يوحانان، الثاني يهوياقيم، الثالث صدقيا، الرابع شلّوم. وابنا يهوياقيم: يكنيا ابنه، وصدقيا ابنه» الأيام 1 3/14-15 ، فيهوياقيم اسم أسقطه متى من نسبه للمسيح، بين يوشيا وحفيده يكنيا.
وقد حرم الله الملك على ذريته كما ذكرت التوراة « قال الرب عن يهوياقيم ملك يهوذا: لا يكون له جالس على كرسي داود، وتكون جثته مطروحة للحر نهاراً وللبرد ليلاً... » إرميا 36/30 فكيف يقول النصارى بأن الذي سيملك ويحقق النبوءات هو المسيح؟!
ثم إن التأمل في سيرة المسيح وأقواله وأحواله يمنع أن يكون هو الملك القادم، الملك المنتظر، فالمسيح لم يملك على بني إسرائيل يوماً واحداً، وما حملت رسالته أي خلاص دنيوي لبني إسرائيل، كذاك النبي الذي ينتظرونه، بل كثيراً ما هرب المسيح خوفاً من بطش اليهود، فأين هو من الملك الظافر الذي يوطئه الله هامات أعدائه، وتدين الأرض له ولأمته.
فالنبي الآتي يسحق ملوك وشعوب زمانه كما أخبر يعقوب «يأتي شيلون، وله يكون خضوع شعوب» التكوين 49/10 ، وقال عنه داود: «تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار، جلالك وبهاءك، وبجلالك اقتحم. اركب من أجل الحق والدعة والبر، فتريك يمينك مخاوف، نبلك المسنونة في قلب أعداء الملك، شعوب تحتك يسقطون. كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك » المزمور 45/1 - 6 .
أما المسيح عليه السلام فكان يدفع الجزية للرومان «ولما جاءوا إلى كفر ناحوم تقدم الذين يأخذون الدرهمين إلى بطرس وقالوا: أما يوفي معلمكم الدرهمين؟ قال: بلى، فلما دخل البيت سبقه يسوع قائلاً: ماذا تظن يا سمعان، ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له بطرس: من الأجانب، قال له يسوع: فإذا البنون أحرار، ولكن لئلا نعثرهم اذهب إلى البحر وألق صنارة والسمكة التي تطلع أولاً خذها، ومتى فتحت فاها تجد أستاراً، فخذه وأعطهم عني وعنك» متى 17/24-27 .
والمسيح رفض أن يكون حتى قاضياً بين اثنين يختصمان، فهل تراه يدعي الملك والسلطان، «قال له واحد من الجمع: يا معلّم، قل لأخي أن يقاسمني الميراث، فقال له: يا إنسان من أقامني عليكما قاضياً أو مقسّماً» لوقا 12/13-14 .
وقد يشكل هنا ما جاء في قصة المرأة السامرية التي أتت المسيح ورأت أعاجيبه وآياته فأخبرته بإيمانها بمجيء المسيا، فكان جوابه لها أنه هو، « قالت له المرأة: أنا أعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي، فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء، قال لها يسوع: أنا الذي أكلمك هو» يوحنا 4/25-26 .
ولست أشك في وقوع التحريف في هذه العبارة، بدليل أن هذا النص يخالف ما عهدناه من المسيح، وبدليل أن أحداً من التلاميذ – بما فيهم يوحنا كاتب القصة- لم يكن يسمع حديثه، وهو يتحدث مع المرأة، فلا يعرفون عن موضوع الحديث بينهما « قال لها يسوع: أنا الذي أكلمك هو، وعند ذلك جاء تلاميذه وكانوا يتعجبون أنه يتكلم مع امرأة. ولكن لم يقل أحد: ماذا تطلب؟ أو لماذا تتكلم معها » يوحنا 4/26-27 .
وأوضح الأدلة على وقوع التحريف في ادعاء أنه المنتظر أن المرأة التي رأت أعاجيبه، وقال لها هذا القول المدعى، لم تكن تؤمن أنه المسيح المنتظر، لأنها لم تسمع منه ذلك، ولو سمعته لآمنت وصدقت، فقد انطلقت تبشر به، وهي غير متيقنة أنه المسيح المنتظر «فتركت المرأة جرتها ومضت إلى المدينة وقالت للناس: هلموا انظروا إنساناً قال لي كل ما فعلت، ألعل هذا هو المسيح؟» يوحنا 4/28-29 .
ومما تقدم ظهر جلياً أن المسيح لم يدع أنه المسيح الذي تنتظره اليهود.
المقال السابق
المقال التالى