وقد توالى الأنبياء وهم يبشرون بمقدم نبي آخر الزمان، ويذكرون صفاته وأحواله والتي من أهمها أنه ليس من بني إسرائيل كما أنه صاحب شريعة تدوم إلى الأبد، يسحق أعداءه، ودعوته تكون لخير جميع الأمم.
وهذه الصفات لم تتوافر في أحد ادعى النبوة سواه، ولا يمكن للنصارى حمل تلك النبوءات التي يقرون في أنها نبوءات، لا يمكن لهم أن يحملوها على غيره صلى الله عليه وسلم، إذ موسى وعيسى كانا نبيين إلى بني إسرائيل فقط، وكان موسى صاحب شريعة انتصر أتباعه على أعدائهم، وأما عيسى فلم ينزل بشريعة مستقلة، إذ هو نزل بشريعة موسى وبتكميلها، فهو القائل: «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل» متى 5/17 ، ولم يقيض له أن ينتصر على أعدائه، بل تزعم النصارى أنهم تمكنوا منه وصلبوه. فكيف يقال بأنه المختار الذي يسحق أعداءه وتترقبه الأمم؟
وأقدم النبوءات الكتابية التي تحدثت عن النبي الخاتم جاءت في وصية يعقوب لبنيه قبل وفاته حين قال لهم: « لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون، وله يكون خضوع شعوب » التكوين 49/10 .
وتختلف التراجم في ثلاث من كلمات النص، فقد أبدل البعض كلمة «قضيب» بالملك أو الصولجان، وكلها بمعنى واحد، وكذا أبدلت كلمة «مشترع» بالراسم والمدبر، وهي متقاربة بمعنى صاحب الشريعة مدبر قومه.
وأما الاختلاف الأهم فكان في كلمة «شيلون» التي أبقتها معجم الترجمات على حالها، وفي تراجم عبرانية أخرى قيل: « إلى أن يأتي المسيح » ، وقد فسر القس إبراهيم لوقا «شيلون» بالمسيح، واعتبرها ترجمة صحيحة لكلمة « شيلوه » العبرية، وذكرت الطبعة الأمريكية للكتاب المقدس في هامشها أن كلمة « شيلون » تعني: الأمان، أو: الذي له.
فما هو المعنى الدقيق للكلمة «شيلون» التي تدور حولها النبوءة؟
في الإجابة عن هذا السؤال يرى القس السابق عبد الأحد داود أن كلمة « شيلون » لا تخرج في أصلها العبري عن معان، أهمها:-
1- أن تكون من الكلمة سريانية مكونة من كلمتي «بشيتا» و «لوه» ، ومعنى الأولى منهما: «هو» أو «الذي» ، والثانية «لوه» معناها « له » ، ويصبح معنى النبوءة حسب ترجمته المفسرة: « إن الطابع الملكي المتنبئ لن ينقطع من يهوذا إلى أن يجيء الشخص الذي يخصه هذا الطابع، ويكون له خضوع الشعوب » .
2- أن تكون الكلمة محرفة من كلمة « شيلواح » ومعناها: « رسول الله » كما يعبر بالكلمة مجازاً عن الزوجة المطلقة لأنها ترسل بعيداً، وتفسير الكلمة بالرسالة مال إليه القديس جيروم، فترجم العبارة « ذلك الذي أرسل » .
وأياً كان المعنى فإن النبوءة تتحدث عن شخص تدعوه: شيلون. وليس عن المكان المسمى «شيلون» كما ادعى بعض المفسرين، فمن هو شيلون؟
لا يمكن القول بأن شيلون هو موسى، لأن ملوك يهوذا كانوا بعده بقرون، ولا يمكن القول بأنه سليمان، لأن الملك دام بعده في ذريته ولم ترفع به الشريعة، كما لم ترفع بالمسيح الذي ما جاء لنقض الناموس ولم تخضع له شعوب، بل ولا شعب اليهودية الذين بعث إليهم فقال: « لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة » متى 15 / 24 .
والمسيح لم يكن ملكاً بل هرب منهم لما أرادوا تمليكه عليهم « لما علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً انصرف أيضاً إلى الجبل وحده » يوحنا 6/15 .
ولما ادعى عليه اليهود عند بيلاطس أنه يقول عن نفسه بأنه ملك نفى ذلك، وتحدث عن مملكة روحية مجازية غير حقيقية فقال: « مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود » يوحنا 18/36 .
ولا يمكن أن يكون هذا النبي من بني إسرائيل، لأن مبعثه يقطع صولجان وشريعة إسرائيل كما يفهم من النص، فمن ذا يكون شيلون؟
إنه النبي الذي بشرت به هاجر وإبراهيم « يده على كل واحد » التكوين 16/12 والذي قال عنه النبي حزقيال: « يأتي الذي له الحكم فأعطيه إياه » حزقيال 21/27 .
وقد قال المسيح مبشراً بالذي ينسخ الشرائع بشريعته: «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإني الحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل» متى 5/17-18 . هذا «الذي له الكل» ، هو « الذي له الحكم » .
وهو النبي الذي يسميه بولس بالكامل، ومجيئه فقط يبطل الشريعة وينسخها «وأما النبوات فستبطل، والألسنة فستنتهي، والعلم فسيبطل، لأننا نعلم بعض العلم، ونتنبأ بعض التنبؤ، ولكن متى جاء الكامل، فحينئذ يبطل ما هو بعض» كورنثوس 1 12/8-10 .
المقال السابق
المقال التالى