كَانَ النبيُّ صلى الله عليه و سلم رَفِيقًا بأمَّتِه, فَلَمْ يُخيَّر بَينَ أمريْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا, تَيْسٍيرًا عَلَى الأُمَّةِ وَرَغَبةً في رفعِ الحرجِ عَنْهَا, وَلِذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه و سلم: "إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتا وَلَا مُتَعَنِّتًا, وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا"[رواه مسلم].
وَقَالَ صلى الله عليه و سلم: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ, وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ"[رَواهُ أَبُوداودَ وصحَّحَه الألبانيُّ].
وَقَالَ صلى الله عليه و سلم: "مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَمَا نُزِّعَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانه"[رَواهُ مسْلِم].
وَقَدْ وَصفَ اللهُ تَعَالَى نَبيَّه صلى الله عليه و سلم بالرأفَةِ وَالرَّحمةِ فَقَالَ: لَقَدۡ جَآءَڪُمۡ رَسُولٌ۬ مِّنۡ أَنفُسِڪُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡڪُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٌ۬ رَّحِيمٌ۬[التَّوبة: 128].
وَمِنْ رِفقِه صلى الله عليه و سلم بأمَّتِه أَنَّ رَجلاً جَاء إِلى النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم فَقَالَ: هَلكْتُ يَا رَسولَ اللهِ!
قَالَ: "وَمَا أَهْلَكَكَ؟".
قَال: وقعْتُ علَى امْرأتِي فِي رَمضانَ.
قَالَ: "هَلْ تَجِدُ مَا تَعْتِقُ رَقَبةً".
قَالَ: لَا.
قَالَ: "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟".
قَالَ: لَا.
قَالَ: "فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا".
قَالَ: لَا.
قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ فأُتِي النبيُّ صلى الله عليه و سلم بِعَرَقٍ([1])فِيه تمرٌ، فقال: "تَصَدَّقْ بِهَذَا".
قَالَ الرَّجل: أَأَفْقَرُ مِنَّا؟ فَما بين لابَتَيْها أهلُ بيتٍ أحوجُ إِلَيْهِ مِنَّا. فضحِكَ النبيُّ صلى الله عليه و سلم حَتَّى بدتْ أنيابُه, ثُمَّ قَالَ: "اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ"[متفقٌ علَيْه].
فانْظُر إِلَى رِفقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم بِهذَا الرَّجُلِ المخْطِئ الَّذِي وَقَعَ عَلَى أهلِهِ فِي نَهارِ رَمضانَ, فَإِنَّ النبيَّ صلى الله عليه و سلم مَا زالَ يُرفقُ بِه ويتدرْجُ مَعه من العُقوبةِ الأشدِّ إلى العقوبةِ الأخفِّ، حَتَّى وصلَ به الحالُ إِلَى أَنْ أَعطاهُ مَا يُكَفِّرُ بِهِ عَنْ خَطِئِه, بَلْ إِنَّه سمَحَ لَهُ بأنْ يأخُذَ هَذه العطيَّةَ ويُطعِمَها أهلَه نَظرًا لحاجَتِه وفقْرِه، فَمَا أعْظَمَ هَذَا الرِّفْقَ النبويَّ، وَمَا أجملَ هَذِهِ الرأفةَ المحمَّديةَ.
وَهَذَا مُعاوِيةُ بْنُ الحَكَمِ السُّلَمِيُّ رضي الله عنه يقُول: بَينما أَنَا أُصَلِّي مَع رسُولِ اللهِ صلى الله عليه و سلم، إِذْ عَطسَ رَجلٌ مِنَ القوْمِ, فَقلْتُ: يرْحَمُكَ اللهُ. فَرَماني القوْمُ بأبْصارِهِمْ, فقلْتُ: واثُكْلَ أُمِّياه! مَا شأْنُكم تَنظُرُونَ إليَّ؟ فجَعلُوا يضْرِبُون بأيدِيهمْ عَلَى أفْخاذِهِمْ، فَلَمَّا رأيتُهم يُصَمِّتونَني, لَكِنِّي سَكتُّ، فَلَمَّا صَلى النبيُّ صلى الله عليه و سلم، فَبِأبي هُو وأمِّي، مَا رأيتُ مُعلِّمًا قبْلَه ولا بعْدَه أَحسنَ تَعْلِيمًا مِنْه، فَوَاللهِ مَا كَهرني([2])، وَلَا ضَرَبَني, وَلَا شَتمنِي, قَالَ: "إِنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ"[رَوَاهُ مُسْلِم].
قَال النوويُّ: "فِيهِ مَا كانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم مِنْ عَظِيم الخُلُقِ، الَّذِي شهِدَ اللهُ تَعَالى لَهُ بِه، وَرفْقِه بالجاهِل، ورأفَتِه وشفقَتِه عَلَيْه، وَفِيه التخلُّقُ بخُلُقِه صلى الله عليه و سلم فِي الرِّفْقِ بالجَاهِل، وحُسْنِ تَعلِيمِه, واللُّطْفِ بِهِ، وَتقْرِيبِ الصَّوابِ إِلَى فَهْمِه".
وَمِنْ رِفْق النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم بأمَّتِه أَنَّه نَهَى عَنِ الوِصَالِ فِي الصَّوْمِ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرضَ عَلَى النَّاسِ.
وَمِنْ رِفْقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم بأمَّتِه, أَنَّه صلَّى قِيامَ رَمضانَ فِي المسْجدِ ثَلاثَ لَيالٍ أَوْ أكثرَ، حَتَّى اجْتَمع خَلْفَه نَفَرٌ كَثِيرٌ, ثُمَّ إِنَّه صلى الله عليه و سلم لم يخرُجْ إِلَى النَّاسِ بَعدَ ذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ هَذِهِ الصلاةُ عَلَى النَّاسِ.
وَمِنْ رِفق النبيِّ صلى الله عليه و سلم بأمَّتِه أنَّه دخَل المسْجدَ، فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بِينَ سَارِيَتَيْنِ. فَقَالَ: "مَا هَذَا الحَبْلُ؟"قَالُوا: هَذا حَبْلٌ لِزينَبَ، فَإِذَا فَترتْ تعلَّقتْ بِه، فقال النبي صلى الله عليه و سلم: "حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ، فَلْيَقْعُدْ"[مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
_______________________________________
([1]) العَرَقُ: الزنبيل أو القفة.