لَا زَال الحديثُ مَوْصولاً عَنْ رِفق النبيِّ صلى الله عليه و سلم بأمَّتِه.
عَنْ أَنسِ بْنِ مَالكٍ رضي الله عنه، عَنِ النبيِّ صلى الله عليه و سلم قَالَ: بَينَما نَحْنُ فِي المسْجِد مع رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه و سلم إِذْ جَاء أعرابيٌّ فَقَام يبُولُ في المسْجِد، فَقَال أصحابُ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم: مَهْ مَهْ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم "دَعُوهُ لَا تُزْرِمُوهُ([1])"فَتركُوه حَتَّى بال.
ثُمَّ إِنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه و سلم دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: "إِنَّ هذهِ المسَاجِدَ لَا تصلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا البَوْلِ وَالْقَذَرِ، إِنَّما هِيَ لِذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ".
قَالَ: فأمرَ رَجُلاً مِنَ القَوْمِ, فَجَاءَ بِدلوٍ مِنْ مَاءٍ فشنَّه عَليه. [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
وَمِنْ صُوَرِ ذَلِكَ الرفقِ المحمَّدِيِّ أَنَّ فتًى شَابًّا أَتَى النبيَّ صلى الله عليه و سلم فَقَالَ: يَا رَسولَ اللهِ! ائذَنْ لِي بالزِّنَا!!
فَأَقْبلَ عَلَيْهِ القومُ فَزَجَرُوهُ، وَقالُوا: مَهْ مَهْ فَقَالَ النبيُّ صلى الله عليه و سلم: "ادْنُهْ"فَدَنَا مِنْهُ قريبًا.
قَال: "أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ"؟
قَال: لَا واللهِ, جَعلَني اللهُ فِداءَك.
قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ, أَفَتُحِبُّه لابْنَتِكَ؟".
قَالَ: لَا واللهِ يَا رسولَ اللهِ, جَعلنِي اللهُ فِدَاءَك.
قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ, أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ؟".
قَالَ: لَا واللهِ, جَعلنِي اللهُ فِداءَك.
قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ, أَفَتُحِبُّه لِعَمَّتِكَ؟".
قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلِني اللهُ فِداءَكَ.
قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ, أَفَتُحِبُّه لِخالَتِكَ؟".
قَالَ: لَا وَاللهِ، جَعَلنِي اللهُ فِداءَكَ.
قَالَ: "وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِـخَالَاتِهِمْ"، ثُمَّ وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَه، وَطَهِّرْ قَلْبَهُ، وَحَصِّنْ فَرْجَهُ"، فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلى شَيْءٍ. [رَواه أَحْمد].
بِهذَا الأسْلُوبِ الرَّفيقِ اسْتطاعَ النبيُّ صلى الله عليه و سلم أَنْ يَدْخُل إِلَى قلْبِ هَذَا الشّابِّ ويجعلَه يسْتقْبِحُ مَا طَلَبَهُ مِنَ الْإِذْنِ بِالزِّنَا، وَكَانَ ذَلِكَ سَببًا في صَلاحِ هَذا الشابِّ واستِقَامَتِه وعفَّتِه.
وَمِنْ رِفْقِ النبيِّ صلى الله عليه و سلم بأمتِه مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِي اللهُ عنهما قَالَ: بيْنَما النبيُّ صلى الله عليه و سلم يخطُبُ، إِذَا هُو برجُلٍ قائمٍ، فَسألَ عَنْهُ فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يقومَ فِي الشمْسِ وَلَا يقعدَ، وَلَا يستظلَّ ولا يتكلمَ, وَيصُومَ, فقالَ النبيُّ صلى الله عليه و سلم: "مُرُوه فَلْيَتَكَلَّمْ, وَلْيَسْتَظِلَّ, وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ"[رواهُ البخَارِيُّ].
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَواه عَبدُاللهِ بْنُ عمرِو بْن العاصِ رَضي اللهُ عنهما قَال: أُخْبِر النبيُّ صلى الله عليه و سلم أَنِّي أقولُ: واللهِ لَأصومَنَّ النَّهارَ، ولَأقومنَّ الليلَ مَا عِشْتُ. فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه و سلم: "أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ ذَلِكَ؟ "فقلْتُ له: قد قلتُه بِأَبِي أنتَ وَأُمِّي يَا رسولَ اللهِ. قَال: "فَإِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ, وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ, فَإِنَّ الحسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا, وَذَلِك مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ".
وَفِي رواية:"أَلَـمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ؟"قُلتُ: بَلَى يَا رسولَ اللهِ! قَالَ: "فَلَا تَفْعَلْ، صُمْ وَأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ, فَإِنَّ لجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعُيْنَيْكَ عَلَيْكَ حَقًّا, وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, وَإِنَّ بِحَسْبِكَ أَنْ تَصُومَ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَةَ أَمْثَالِهَا, فَإِنَّ ذَلِكَ صِيَامُ الدَّهْرِ"قَالَ عبدُ الله: فشددْتُ، فشُدِّد عَليَّ. قلْتُ: يا رسولَ اللهِ! إِنِّي أَجِدُ قُوَّةً. قَالَ: "صُمْ صِيَامَ نَبِيَّ اللهِ دَاودَ، لَا تَزِدْ عَلَيْهِ". قُلتُ: وَمَا كَانَ صِيامُ دَاودَ؟ قال: "نِصْفَ الدَّهْرِ"فكانَ عَبدُ اللهِ يَقولُ بَعد ما كَبُرَ: ليتَني قبِلتُ رخصةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه و سلم. [متفقٌ عليهِ].
___________________________________
([1]) لا تزرموه: أي لا تجعلوه يقطع بوله لئلا يتضرر.