الحديث التاسع: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المؤلف حفظه الله تعالى:
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان أخرجه مسلم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسول الله أما بعد: أولًا قرأ الشيخ فهد فقال: قال المؤلف، وهنا فائدة يفرقون بين المصنف والمؤلف فيقولون: المؤلف هو الذي يجمع، والمصنف هو الذي ينحت من ذهنه، فإذا كان الكتاب عبارة عن جمع لأحاديث أو لنقولات فالأحسن أن يقال كما قال الشيخ قال المؤلف؛ لأن التأليف هو الجمع: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ يعني ماذا؟ جمع، وفي البخاري قال، بابٌ، تأليف القرآن، يعني ماذا؟ يعني جمع القرآن، أما التصنيف فهو أن يكتب الكاتب من ذهنه، ولا مشاحة في الاصطلاح، والأمر في ذلك سهل.
هذا الحديث من أعظم الأحاديث، بل قال: قد قال بعضهم: هذا الحديث جمع الإسلام كله؛ لأن الإسلام أمر بمعروف ونهي عن منكر، فكل أحكام الإسلام تدل على الفضائل، وفي المقابل تنهى عن الرذائل.
قوله: "من رأى" فيه أن ذلك يشمل من رأى سواء رأى بعينه الباصرة، أم بلغه الخبر علمًا، فكل من رأى أو سمع منكرًا وعنده قدرة، فعليه أن يسعى في تغيير ذلك المنكر، وفيه أن المنكر يختلف بحسب المغير له، فمن الناس من يقدر على تغيير المنكر بيده، شريطة أن يكون في ذلك أمران: القدرة على ذلك، وعدم حصول المفسدة الكبرى في ذلك، من الناس من يستطيع أن يغير بلسانه بحسب المنكر، ومن الناس من يعجز فلا يستطيع التغيير لا بلسانه، ومن باب أولى لا يستطيع بيده، وهنا قاعدة أو هنا ضابط ذكره بعض أهل العلم، قال: عند تغيير المنكر أو أحوال تغيير المنكر على أربعة أقسام:
إما أن يغير المنكر ويحل محله منكر أكبر منه، وهذا لا يجوز؛ لأن هذا إزالة مفسدة ترتب على إزالة تلك المفسدة الصغرى مفسدة ماذا؟ مفسدة كبرى، هذا لا يجوز، يبقى المنكر على هيئته إذا ترتب على تغييره منكر أكبر فليبقَ على هيئته؛ ولذا يذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية لما دخل جنود التتار دمشق أو الشام كانوا يشربون الخمر فيتساقطون أو ينتشون، ويتركون القتال، فكأن بعض تلاميذ شيخ الإسلام أو بعض المسلمين يريد أن يكسر دنان الخمر أن يريق الخمر فكان يقول لهم دعوهم، إذا شربوا سكروا وغفلوا عنا، فإذا أفاقوا قتلوا المسلمين. إذن:
الحال الأولى: أن يترتب على تغيير المنكر منكر أكبر وهذا لا يجوز.
الحالة الثانية: أن يترتب على تغيير المنكر منكر أصغر، يعني يخِفّ شيء من المنكر وهذا يجب على من قدر عليه.
الحال الثالثة: أن يزول المنكر بالكلية، ولا يترتب في ذلك شيء، وهذا أوجب.
الحال الرابعة: أن يزول المنكر ويترتب في مكانه منكر مساوٍ له، يقولون: وهذه بحسب حال المحتسب المغيِّر، أحيانًا على سبيل المثال مثل بعض المعاصرين بأن ترى قومًا يرون مجلات مثلًا، هذه المجلات فيها شُبَه عقدية تشكك في الصحابة، وتقدح في عدالة الصحابة الأطهار، وترمي أمهات المؤمنين وتشكك في مسلمات الإسلام عمومًا وثوابته، وهناك مجلات فيها قصص، إما قصص خرافات وماجنة وغزل، ولا بد من بقاء إحدى المجلتين، من أخطر على القراء الأولى ولّا الثانية؟ الأولى لا شك ولا ريب؛ لأنها فتن شبهات، أما الأخرى فتن ماذا؟ شهوات، تدرأ شر الأولى وتبقى الثانية ليس لأن فيها خير لكن لأنها أقل شرًّا، والعرب إذا فرقت بين الشرين، ما تقول هذا أحسن من هذا، تقول هذا أقل شرا من هذا.
وفي الحديث أيضًا أن براءة الذمة لا تستلزم إزالة المنكر، بل ذلك مرهون بالاستطاعة، ومن هنا يظهر خطأ بعض الناس، يوجب على الناس أن يسعوا في تغيير المنكر، ويلزم نفسه بذلك مع علمه بأنه لا يستطيع، مع علمه بأنه سيترتب مضرات أو ضرر أكبر ومضرات كبرى، هذا لا يجب عليه أن يأمر الناس بما لم يستطيعوا: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ؛ ولهذا من ضعف الفقه والسياسة الشرعية أن بعض الناس يرى أنه من لازم الأمر أن يتغير المنكر ولو ترتب ما ترتب، وهذا من الجهل: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ ماذا؟ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ .
وفيه أيضًا كمال الشريعة وسماحتها حيث لم تكلف المسلم بما لا يستطيع، وفي الحديث أيضًا أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، كما قرر ذلك أهل السنة والجماعة، فالقول من أين نأخذه، من قوله: بلسانه، والعمل من قوله: بيده، والاعتقاد عمل القلب من قوله ماذا؟ فبقلبه، وفي الحديث أيضًا أن الإيمان يزيد وينقص بحسب حال الشخص.
وهنا مسائل أذكرها باختصار:
المسألة الأولى: لا يجوز إنكار الشيء أو الأمر إلا بأمرين:
الأمر الأول: أن يتحقق المغير أن ذلك الأمر منكر.
والأمر الثاني: أن يكون ذلك الأمر منكرًا في حق الفاعل.
والثالث: ألا يترتب على ذلك مضرة أكبر، مثال ذلك: رأيت رجلًا يأكل في رمضان هذا منكر، لكن قد يكون هذا المنكر ليس منكرًا في حق الفاعل كيف ذلك؟ قد يكون الآكل ماذا؟ مسافرًا، قد يكون مريضًا، قد يكون ناسيا، فالمرض والسفر له ذلك، لكن النسيان لا، هو منكر في حقه أنه لا يجوز، لكن كون أن الآكل مسافر أو مريض يحق له ذلك، لكن إذا كان يأكل أمام الناس في مجتمع جميع أهله صيام، فهنا يقال: ينبغي احترامًا لمشاعر الناس عدم الأكل، وأن لا يترتب منكر أكبر، ترى رجلًا يفعل منكرًا إما بكذب أو بسب وتعلم أنك لو نهيته في هذا الحال سيترتب عليك أمر أكبر، إما أن يسب دينك، أو أن يسب نبيك، أو أن يسب الصحابة، أو أن يسب أهل السنة، المهم سيترتب منكر أكبر، فمن السياسة الشرعية فقه هذه المسائل؛ لأن الغرض تغيير المنكر لا إحداث منكر أكبر.
أيضًا من مسائل تغيير المنكر لم يستطع تغيير المنكر لا بيده ولا بلسانه ولا بقلبه، هناك مرتبة رابعة جاءت في القرآن والسنة، والسنة يفسر بعضها بعضا، في قوله جل وعلا: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا ماذا؟ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى قال صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر ماذا نستفيد من هذه النصوص؟ أن بعد تغيير المنكر بالقلب يستلزم ماذا؟ المفارقة، أما قول بعض الناس: أنا كاره بقلبي لكني أجلس فأسمع هذا المنكر وأرى هذا المنكر، هذا لا يسوغ له الجلوس، بل هو مشارك له في ذلك.
ثم يقال: أعظم المنكرات التي يجب تغييرها، ما تعلق بأمور الشبهات من البدع، وما يقدح في جناب التوحيد، وما يتبع ذلك، وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قام بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم، وكانت تلك الشعيرة أساس دعوتهم.
ودعاة الخير أولى الناس بإحياء هذه الشعيرة، أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما ضعفت مجتمعات المسلمين إلا بتفريط كثير من دعاة الإصلاح في هذه الشعيرة، نعم يعنون بمنكرات، لكن هناك ما هو أولى منها.
في بعض مجتمعات المسلمين، الشرك قد ضرب أطنابه، وقد رفع راياته، والتوحيد قد يكون غريبًا، التوحيد الصافي، ومما أعان على غربته بعض من يتولى دعوة الإصلاح، بعضهم يغلب جانب الشهوات، ولا يلقي بالًا لجانب الشبهات، بل يزعم أن تغيير المنكرات العقدية فيها تفريق للأمة، وما علم هذا المسكين أنه بقوله هذا يفرق الأمة، المسلمون فيهم خير كثير، وفِطَرهم تحب الخير وتبحث عن الخير، لكن إذا بلوا بمن حجب عنهم الخير بزعم الإصلاح هنا تكون المصيبة، فيا دعاة الخير أنتم من بلاد شتى، وقد تحملتم أمانة العلم، ومجتمعاتكم وأمتكم تنتظر منكم.
ذهبت إلى غير بلدك ورأيت في بعض البلاد أنك قد لا تصلي في الغالب في مسجد بل تصلي في الحدائق أو في الفنادق لكثرة الأضرحة، وكثرة الشركيات والبدع العقدية، وإذا جالست هؤلاء العامة، وجدت أن قلوبهم طيبة، وأنهم يحبون الخير، ويتقبلون، لكن علماء السوء فرطوا أو تعمدوا صرفهم، إذن فأولى الناس بإصلاح الناس بعد توفيق الله أنتم، يا من تتحملون أمانة العلم.. دخلت في بلد، في قرية يظهر عليها آثار الفقر والمرض، وإذا بمبنى شاهق، مبنى رفيع بالنسبة لبيوت القرية، وعليه أثر الاعتناء، فدخلت مع -الصاحب- أو مع صاحبي، وإذا بضريح، والرمل منتقى ومصفى، والرائحة الزكية على ستار الضريح، وإذا برجل ساجد، سجود في الضريح، فقلت له: يا هذا قم، هذا الميت لا ينفع نفسه فضلا عن أن ينفع غيره، فقام المسكين ونظر إلي واستغرب ورجع، فسألت صاحبي -وهو من أهل البلد-: لماذا الرجل خائف ورجع هناك؟ قال: لأنه رُبي ونُشئ على أن من أهان هذا الولي أو شكك في قدرة منفعته للناس أنه تنزل صاعقة عليه، فهو يبتعد حتى ما تصيبه الصاعقة منك.
مسكين، لو وجه هذا للتوحيد الصافي لرأيته من أحرص الناس، ومن أحب الناس للتوحيد.
إذن ما قامت تلك البدعة العقدية إلا بتفريط كثير من دعاة الإصلاح، لا نتشاءم، حاشا وكلا، ولكن على المسلم أن يسعى إلى الخير جهده كما قال:
على المرء أن يسعى إلى الخير جهده
وليس عليــه أن تتـم المقــاصد
التغيير لمنكرات الشبهات أولى وأوجب وأجدر، لكن بالعلم، بالإخلاص لله تعالى وبالعلم في طريقة الإنكار.