الفصل الثاني
الدعوة الإسلامية في مسيرتها الكفاحية
المسلمون الأوائل وسرية الدعوة
لقد كان قميناً بتلك الدعوة الإسلامية أن تكون كفاحية المسيرة ، وخاصة فيما يتصل بانطلاقتها التي بدأت سراً ، ومن ثم بالمجاهرة والعلانية ، إذ أقصرت بادىء ذي بدء على قلة من المسلمين ، في طليعتهم زوج الرسول خديجة من النساء وأبو بكر من الرجال ، وعلى بن أبي طالب من الفتيان ، وزيد بن حارثة من الموالي ، و بلال من العبيد .
ومن ثم انضم إلى صفوف المسلمين عدد من الرجالات الذين كان لهم دورهم البارز في التاريخ الإسلامي . . . يتحاث « آتيين دينيه » عن تلك المجموعة الإسلامية الأولى وممارستها العقيدة سراً ، وبالتالي مسيرة الحركة في هذه المرحلة بقوله :(( هذه المجموعة الصغيرة من المؤمنين كانت تحيا حياة مليئة بالانفعالات والعواطف . حقاً ما أجمل اجتماعهم في عبادة الله مستخفين عن أعين الناس . لشد ما كانوا يأخذون حذرهم كيلا يثيروا انتباه المشركين . وفي هذه الظروف لا يمكن للدعوة الإسلامية أن تنشر إلا سراً ، وبين الأصدقاء ، ولهذا كان تقدم الإسلام في سنواته الثلاث الأولى بطيئاً جداً )) 1 .
علانية ألدعوة وعداء قريش للإسلام
وبعد ثلاثة أعوام على بدء البعثة ، انتقلت الدعوة إلى العلانية ، حيث صدع الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر ربه لنشر رسالة الإسلام انطلاقاً من عشيرته الأقربين ، وبعدها إلى سائر أفراد قبيلته في قريش المكية . . . .
ولم يلق الرسول صلى الله عليه وسلم إلا إعراضا وهزءاً جابهه به سكان مكة ، بل سرعان ما ثارت ثائرة قريش حين دعاً - عليه السلام - إلى نبذ عبادة الأصنام ، والالتفات إلى الديانة التوحيدية . . . . وكان قادة مكة من مشركي قريش متمسكين بتقاليدهم الدينية عكوفاً على الأوثان ، ورموا الرسول صلى الله عليه وسلم بأقبح النعوت ، من سحر وشعر وكهانة وجنون ، وأطلقوا عليه لقب الصابىء لخروجه على عقيدة أجداده ، وساموه مر العذاب . . . ويتحدث المفكر الإنكليزي توماس كارليل عما لاقاه الرسول من عشيرته وعاناه في محاولته إقناع أفرادها بصحة ما يؤمن به ، فقال :
(( وجعل يذكر رسالته لهذا ولذاك ، فما كان يصادف إلا جحوداً وسخرية ، حتى أنه لم يؤمن به في خلال ثلاثة أعوام إلا ثلاثة عشر رجلاً ، وذلك منتهى البطئ ، و بئس التشجيع ، ولكنه المنتظر في مثل هذه الحال ، وبعد هذه السنين الثلاث أدب مأدبة لأربعين من قرابته ثم قام بينهم خطيبا فذكر دعوته ، و انه يريد أن يذيعها في سائر أنحاء الكون ، و أنها المسألة الكبرى بل المسألة الوحيدة ، فيهم يمد إليه يده ويأخذ بناصره ؟ وبينما القوم صامتون حيرة و دهشة وثب على ، وكان غلاماً في السادسة عشر ، وكان قد أغاظه سكوت الجماعة فصاح في أشد لهجة أنه ذاك النصير والظهير . ولا يحتمل أن القوم كانوا منابذين محمداً ومعادينه وكلهم قرابته ، وفيه أبو طالب عم محمد وأبو علي ، ولكن رؤية رجل كهل أمي يعينه غلام في السادسة عشر ، يقومان في وجه العالم بأجمعه كانت مما يدعو إلى العجب المضحك ، فانفض القوم ضاحكين ... ولكن الأمر لم يك بالمضحك ، بل كان نهاية في الجد والخطر)) 2 .
اضطهاد قريش للرسول والمسلمين الأوائل
لكن عداء قريش لرسالة الإسلام لم تثن الرسول ولا المسلمين الأوائل عن عقيدتهم ، فاستمر عليه الصلاة والسلام على نشر الدعوة بروح كفاحية مما لية ، كما لم تستطع كل أساليب الاضطهاد والإرهاب أن تنتزع الإيمان من قلوب تلك العصبة الإسلامية الصغيرة بعددها ، الكبيرة بإيمانها بالرسالة الجديدة . . . . .
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحظى بحماية قبيلته - بنى هاشم – حسب الأعراف القبلية ، وكذلك بعض المؤمنين من أسرهم القرشية ، تبعاً للأعراف نفسها ، فقد لاق مستضعفو المسلمين أقسى أنوع الظلم والاضطهاد ، وعوملوا بمنتهى الوحشية ، إذ تفنن القرشيون في عذابهم ، حتى سقط منهم الشهداء ، مما دل على الإيمان العميق لأولئك المسلمين الأوائل الذين صمدوا للهمجية الشرسة لمشركي قريش ، ودلل صمودهم البطولي على قوة الإسلام ومنعته رغم طراوة عوده .
الصراع بين الوثنية والتوحيد
كان الصراع بين الوثنية والتوحيد على أشده ، وقد تجل فيه الثبات على العقيدة والإيمان بالمبدأ لدى طرفي الصراع . . . . فمن جهة ، كان القرشيون حريصين بالغ الحرص على طقوس عبادة أسلافهم ، لاسيما وقد جاءت الدعوة الجديدة لتهدم كل معتقداتهم ولتضرب مصالحهم الأرستقراطية القائمة على ترابط العوامل السياسية والاقتصادية والدينية . . . .
كفاحية الرسالة الإسلامية
ومن جهة ثانية ، دلل صمود المسلمين الأوائل على أن العقيدة التي آمنوا بها هي أقوى من جميع نوازعهم ، بلغ لديهم الثبات على المبدأ ذروة التضحية بالذات والمال في سبيل أن تبقي شعلة الإسلام متألقة نيرة . . .
وكان نضال الرسول ملحمياً ، لم إيمانه بالرسالة عميقاً ، لم تثنه مواقف قومه عن المضي في نشر الدعوة ، مما تحدث عنه المستشرق الإيطالي ميخائيل ايمارى في كتابه (تاريخ المسلمين) ، فقال :
(( وحسب محمد ثناءً عليه أنه لم يساوم ولم يقبل المساومة لحظة واحدة في موضوع رسالته على كثرة فنون المساومات واشتداد المحن وهو القائل "لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته ". عقيدة راسخة ، وثبات لا يقاس بنظير، و همة تركت العرب مدينين لمحمد بن عبد الله ، إذ تركهم أمة لها شأنها تحت الشمس في تاريخ البشر )) 3
رسالة الإسلام وخطرها عل السلطة القرشية
وقد جر موقف الرسول صلى الله عليه وسلم الثابت في نشر الدعوة عداء القبيلة ، ممثلاً في السلطة القرشية التي أخذت تخشى على مواقعها السياسية ومصالحها التجارية فضلاً عن استيائها من ذم عباداتها وأوثانها ، يقول « وشنطون إرفنج » متحدثاً عن مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم في قبيلته واصطدامه بها حين صدع بالرسالة التي تشكل خطراً على السلطة القرشية :
(( هل كان قوي النفوذ ؟ نعم ، فقد كانت أسرته تقوم بسدانة الكعبة ، وتتولى شؤون مكة ، تلك المدينة المقدسة ، ولذا كان مركزه وما اتصف به من أخلاق كريمة يؤهلانه ليكون موضع الثقة . ولكن حينها دعا محمد إلى الإسلام اصطدم بأسرته وقبيلته ، وجر على نفسه عداءهما ، فقد كان تحطيم الأوثان يقضي على سيطرة قريش على الكعبة وما تستفيده من قدوم الحجاج )) 4 .
الأثر التاريخي للدعوة الإسلامية
لقد شكلت الدعوة الإسلامية التي لا تعرف الطبقية ، بمناداتها بالمساواة الاجتماعية ، خطراً على الأرستقراطية القرشية . . . . فالإسلام دعوة إنسانية تبشر بالإخاء والحرية والعدل والمساواة ، وذلك لأن الرسالة لم تكن مقصورة على الخاصة ، بل اجتذبت إلى صفوفها الفقراء والعبيد ، الذين رأوا بتعاليم الإسلام الإصلاحية ، إطلاقهم من أمر العبودية والفقر ، وخلاصاً روحياً من عبادة الأوثان ، فتطهراً بوحدانية الإيمان . . . هذا ويذهب الباحث المجرى جولد تسهير ( 1850 - 1903) في مؤلفه : (العقيدة و الشريعة في الإسلام ) إلى دراسة الأثر التاريخي للدعوة الإسلامية في محيطها العربي بقوله :
(( يمكننا أن نلقى نظرة عامة شاملة على الأثر التاريخي الذي قامت به الدعوة إلى الإسلام ، خاصة أثرها في الدائرة القريبة ، التي كانت دعوة محمد موجهة إليها بطريق مباشر قبل غيرها، حقاً لا جدة ولا طرافة في هذه الدعوة ، ولكن قد استعيض عنها بأن محمداً قد بشر برسالة الإسلام للمرة الأولى بحماس لا يفتر ولم تعوزه المثابرة ، وبعقيدة ثابتة بأن هذا الدين يحقق صالح الجماعة الخاصة ، وقد كان في ذلك كله مظهرا إنكار الذات ، برغم سخرية الجمهور ، إذ الحق أن محمداً كان بلا شك أول مصلح حقيقي في الشعب العربي من الوجهة التاريخية ، تلك كانت طرافته برغم قلة المادة التي كان يبشر بها)) 5 .
الوعد والوعيد والترغيب والترهيب
هذا ، وقد استخدمت السلطة القرشية جميع أسلحتها لمحاربة الدعوة الإسلامية ، التي وان كانت تعيش أجواء الحصار ، وتنتشر بصعوبة ، لأنها أدركت جدية الخطر المقبل ،إذ أخذ بعض القرشيين يتعاطفون مع هذه الفئة الصامدة ، كما كان للرسول صلى الله عليه وسلم الداعية الإسلامي الأول عميق الأثر في وجدان من يحاججهم ويدعوهم إلى طريق الهداية ... فحين أدركت قريش فشل أساليبها العقيمة لجأت إلى سلاح آخر هو سلاح الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ... لقد عرضت على الرسول صلى الله عليه وسلم المال والجاه والسلطان والنساء ، على أن يتخلى عن رسالته ... لكن هيهات أن تجدي هذه الوسائل والأساليب نفعاً . . . فارتدت إلى أساليب الإيذاء النفسي والجسدي ، التي بلفت مرحلة خطيرة ، إذ جرت محاولتان لقتله وهو يصلى في ظل الكعبة .
غر أن الرسولصلى الله عليه وسلم بلغ من الإيمان برسالته درجة لا رجوع فيها ورغم كل المخاطر و المزالق ، وكل أساليب الوعد والوعيد ما كان بمقدوره ، أن يتراجع قيد أنملة عن مسيرته ، وهو على ثقة تامة بأن الله مؤيده بنصر ولا ريب ، وأن الرسالة لا بد أن تعم مستقبلاً ، ولذا مضى مستهيناً بكل الصعاب ليقينه أن نشر رسالة التوحيد في الأجواء الوثنية لا بد أن تؤلب عليه الأعداء وتقوده إلى خصومة القيادة القرشية ، يقول المؤرخ الأمريكي واشنجتون ارفنج :
(( لقي الرسول من أجل نشر الإسلام كثيراً من العناء ، وبذل عدة تضحيات . فقد شك الكثير في صدق دعوته ، وظل عدة سنوات دون أن ينال نجاحاً كبيراً ، وتعرض خلال إبلاغ الوحي إلى الإهانات والاعتداءات والاضطهادات ، بل اضطر إلى أن يترك وطنه ويحث عن مكان يهاجر إليه . . . فقد كان في الأربعين من عمره حينا نزل عليه الوحي وعانى كثيراً سنة بعد أخرى في نثر الإسلام بين أفراد قبيلته )) .
وبدوره تناول الباحث الإنكليزي توماس كارليل موقف قريش من الرسول وكفاحه المرير في نشر الدعوة وموقف عمه أبى طالب ، فقال :
(( وسرى أمر محمد ببطئ ، ولكنه سريان على كل حال . وكان عمله بالطبع سيء ، الوقع لدى كل إنسان ، إذ جعلوا يقولون : « من هذا الذي زعم أنه أعقل منا جميعاً ، والذي يعنفنا ويرمينا بالحمق وعبادة الخشب ، وأشار عليه أبو طالب أن يكتم أمره ويؤمن به وحده، وأن يكون له من نفسه ما يشغله عن العالم ، وأن لا يسخط القوم ويثير غضبهم عليه فيخطر بذلك حياته ، فأجابه محمد : " و الله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته" كلا ، فإن في هذه الحقيقة التي جاء بها لشيئاً من عنصر الطبيعة ذاتها لا تفضله الشمس ولا القمر ، ولا أي مصنوعات الطبيعة ، ولا بد لتلك الحقيقة من أن تظهر برغم الشمس والقمر ، ما دام قد أراد أن تظهر ، وبرغم قريش جميعها ، وبكره سائر الخلائق والكائنات . نعم لا بل أن تظهر ولا يسعها إلا أن تظهر ، بذلك أجاب محمد ، ويقال انه اغرورقت عيناه : لقد أحس من عمه البر والشفقة ، وأدرك وعورة الحال ، وعلم أنه أمر ليس بالهين اللين ، ولكنما أمر صعب المراس ، مر المذاق )) .
--------------------------------------