زواج الرسول
و تزوج النبي محمد خديجة بنت خويلد وهو ابن خمسة وعشرين عاماً ، بينما كانت هي في الأربعين ، وعلى جانب من الثراء والجمال ، (( ويقال إنها تزوجته لما عرفت عنه من الأمانة والإخلاص والنباهة ، وإنها رأت فيه علامات النجابة والنبوة ، وان غلامها ميسرة أخبرها حين رجع من رحلته مع الرسول من الشام بأنه شاهد في الهاجرة ملكين يظلانه من الشمس )) .
لقد اتفقت الدارسات الاستشراقية على أن النبي شهر بأخلاقه السامية وأمانته وشرف نفسه، يقول الباحث والمستشرق البلجيكي ألفرد الفانز ، في كتابه علم النفس : عن أخلاقه وأمانته وزواجه من خديجة :
(( شب محمد حتى بلغ ، فكان أعظم الناس مروءة وحلماً وأمانة ، وأحسنهم جواباً، وأصدقهم حديثاً ، وأبعدهم عن الفحش حتى عرف في قومه بالأمين ، وبلغت أمانته وأخلاقه المرضية خديجة بنت خويلد القرشية ، وكانت ذات مال ، فعرضت عليه خروجه إلى الشام في تجارة لها مع غلامها ميسر ، فحرج وربح كثيراً ، وعاد إلى مكة واخبرها ميسرة بكراماته ، فعرضت نفسها عليه وهي أيم ، ولها أربعون سنة ، فأصدقها عشرين بكرة، وتزوجها وله خمسة وعشرون سنة ، ثم بقيت معه حتى ماتت )) .
هذا ، وقد توقف المفكر الإنكليزي توماس كارليل عند زواج الرسول الحازم الأمين من خديجة التي أعجبت به ، وحبه العميق إياها ، وعيشه معها تلك العيشة الهادئة ، حتى ثار في أعماقه ألق النبوة :
(( وما ألذ وما أوضح قصته مع خديجة ، وكيف أنه كان أولاً يسافر في تجارات لها إلى أسواق الشام ، وكيف كان ينهج في ذلك أقوم مناهج الحزم والأمانة ، وكيف جعل شكرها له يزداد وحبها ينمو ، ولما زوجت منه كانت في الأربعين ، وكان هو لم يتجاوز الخامسة والعشرين ، وكان لا يزال عليها مسحة من ملاحة .
ولقد عاش مع زوجه هذه على أتم وفاق وألفة وصفاء وغبطة ، يخلص لها الحب وحدها ، ومما يبطل دعوى القائلين أن محمداً لم يكن صادقاً في رسالته ، بل كان ملفقاً مزوراً أنه قضى عنفوان شبابه وحرارة صباه في تلك العيشة الهادئة المطمئنة ، لم يحاول أثناءها إحداث ضجة ولا دوى ، مما يكون وراءه ذكر وشهرة وجاه وسلطة ، ولما يك الا بعد الأربعين أن تحدث برسالة سماوية . ومن هذا التاريخ تبتدىء حوادثه وشواذه ، حقيقة كانت أم مختلقة ، وفي هذا التاريخ توفيت خديجة . نعم ، لقد كان حتى ذاك الوقت يقنع بالعيش الهادىء الساكن ، وكان حسبه من الذكر والشهرة حسن آراء الجيران فيه ، وجميل ظنونهم به ، ولم يك إلا بعد أن ذهب الشباب واقبل المشيب أن فار بصدره ذلك البركان الذي كان هائجاً ، و ثار يريد أمراً جليلاً وشأناً عظيماً )) .
وكتب المستشرق البلجيكي الأب هنري لامنس ( لا 186 _1977 ) الذي عرف بدراسته عن عرب الجاهلية والعهد الأموي ، فصلاً في أحد مؤلفاته (عهد الإسلام) يقول :
((ن محمداً بعد أن تزوج بخديجة أصبح معروفاً في قومه ، وكان الناس يجلون أوصافه ويحمدون سيرته ، ويلقبونه بالأمين أي الصادق الذي يعتمد عليه )) .
ويقول غلرب باشا في كتابه الفتوحات العربية الكبرى :
(( وحرر ثراء خديجة زوجها محمداً من العوز ، وفسح له المجال لاحتلال مركز اجتماعي مرمرق في مجتمع مكة الذي يقدر الثراء )) .
وهنا لا بد لنا من وقفة ، عند آراء المستشرقين أمثال لامنس وغلوب باشا عن عزوا تبوؤ محمد مكانة مرموقة في مكة بفضل ثروة زوجته خديجة .
ومن إقرارنا بأن زواجه يسر له شؤون حياته وحرره من المشاكل المادية ، ليجعله أكثر تفرغاً للنواحي الروحية ، ولكن هيهات لهذا أن يعزز مكانته الاجتماعية ويدفعه لتسنم ذرى المجد بسبب ثروة زوجته لأنه كان أبعد عن حياة البذخ ، دائم التبتل والتأمل ، بل يمكن القول إن نجاح الرسول r مكانته في قبيلته وفي أخلاقه ، وأهانته وعصمته . . .
يقول المستشرق الفرنسي « مارسيل بوازار » في كتابه ((إنسانية الإسلام )) :
(( هذا ، ولقد أمن له هذا الزواج اليسر والرخاء ، فكان يقضي أوقات الفراغ في عمله بالتجارة في العزلة والتأمل في ما بلغته الأقوام العربية من التردي الخلقي ، كما كان يخلو - قبل رسالته بثلاثة أعوام - إلى غار حراء خلال شهر رمضان للتبتل و توزيع الطعام على الفقراء )) .
ويتحدث الباحث الإنكليزي مونتجمري وات في كتابه « محمد في مكة » أن الرسول r بعد زواجه من خديجة ، أخذ يرتقي سلم النجاح في مجتمعه المكي ، لمكانته في عشيرته ولأخلاقه السامية . . . وأن خديجة رغم اهتمامها بالمسائل المادية كانت أعجب بكفاءاته الروحية وخير معوان له في المرحلة التالية ، يقول :
(( كانت السنوات التي تلت زواجه سنوات لم إعداد لعمله في المستقبل . ولم يحفظ لنا شيء عنها يسمح لنا بإعادة تكوين مراحل هذا الاستعداد . وأفضل ما نفعل هو أن نقوم ببعض الاستنتاجات مما وصلنا فيما بعد . كهذه الآيات في سورة الضحى ( 93/ 6- 8) التي يبدو أنها ترجع لتجارب محمد الأولى.
]ألم يجدك يتيماً فآوى ، ووجدك ضالا فهدى ، ووجدك عائلاً فأغنى [.
يمكن أن نستنتج من هذه الآيات أن إحدى مراحل تفتحه كانت إدراكه أن يد الله قد أخذت بيده بالرغم من مصائب الدهر وسنعرف بعض الإشارات إلى هذه السنوات الغامضة بعد )) .
وكانت خديجة رضي الله عنها خير رفيقة الحياة في مرحلة نبوته اللاحقة وأماً لأولاده ، يقول آتيين دينيه :
(( كانت خديجة أول زوجة بنى بها الرسول . وبقيت - طيلة حياتها - زوجه الوحيدة المحببة التي لا يجد غيرها إلى قلبه سبيلاً . وقد أنجبت له سبعة أولاد ، ثلاثة ذكور هم : القاسم ، والطاهر والطيب ، وأربع إناث : رقية ، وزينب ، وأم كلثوم ، وفاطمة . وبعد مولد القاسم الذي كان أول من أنجب الرسول من الذكور كني محمد بأبي القاسم . لكم سعد محمد بأن منحه الله طفلا ذكرا ولكم أعز محمد هذا الطفل وأحبه ، ولكم حزن حين أصابته المقادير ، وهو ما زال بعد في دور الطفولة . وأراد الله أن يكون مصي الطاهر والطيب مصير القاسم ، فمات الجميع قبل بعثة الرسول .
أما البنات فقد عشن إلى ظهور الإسلام وكن من أوليات أسلمن ، وساعدن جاهدات، في سبيل الله ورسوله )) .
المثل الأعلى في الاستقامة و الأمانة
وأجمع مؤرخو السيرة على استقامة الرسول r وأمانته التي اعترف فيا أعداؤه قبل أصدقائه . . . وكان يلقب قبل البعثة بالأمين . . . . حتى أن زواج خديجة منها سببه استقامته ، يقول أستاذ اللغات الشرقية ورئيس مجمع البحوث والآداب في باريس المستشرق الفرنسي كليمان هوار (1854 -1927 ) في الجزء الأول من كتابه : ( تاريخ العرب )) :
(( كيف تعرف محمد إلى خديجة ، وكيف أمكن أن يحصل على ثقتها ويتزوج بها ، الجواب على الشق الأول لا زال غير معروف عندنا ، وأما على الشق الثاني فقد اتفقت الأخبار على أن محمداً كان في الدرجة العليا من شرف النفس ، وكان يلقب بالأمين ، أي بالرجل الثقة المعتمد عليه إلى أقصى درجة ، إذ كان المثل الأعلى في الاستقامة )) .
وعن رفيع أخلاقه وسامي خصاله وعصمته من الانزلاق في مهاوي الرذيلة يتحد المستشرق جرسان دتاسي ، قائلاً :
((أن محمداً ولد في حضن الوثنية ، ولكنه منذ نعومة أظفاره أظهر بعبقرية فذة ، انزعاجاً عظيماً من الرذيلة وحباً حاداً للفضيلة ، وإخلاصاً ونية حسنة غير عاديين إلى درجة أن أطلق عليه مواطنوه في ذلك العهد اسم الأمين )) .
وبديهي أن يعتبر الباحثون المسلمون والمؤرخون العرب تلك الصفات ، و هذه السجايا من دلائل النبوة ، و تتمثل أشد ما تتمثل بعصمة الله رسوله المرتقب من أجواء الرذيلة الشائعة في جاهلية العرب ، وأنه صلوات الله عليهى كان يشعر انطلاقاً من حدسه بأن عليه الابتعاد عن المعاصي والموبقات ، وأن الله جلت عظمته اختاره لأداء رسالة عظيمة . . . وعن هذا الأمر يتحدث الباحث الأرجنتيني دون بايرون ( 1839 _ 1900 ) في مؤلفه : « أتح لنسفك فرصة » فيقول :
« لا يبعد أن يكون محمد يحس بنفسه أنه في طينته أرق من معاصريه ، وأنه يفوقهم جميعاً ذكاء وعبقرية ، وأن الله اختاره لأمر عظيم وقد اتفق المؤرخون على أن محمد بن عبد الله كان ممتازاً بين قومه بأخلاق حميدة ، من صدق الحديث والأمانة والكرم وحسن الشمائل والتواضع حتى سماه أهل بلده الأمين ، وكان من شدة ثقتهم به وبأمانته يودعون عنده ودائعهم وأماناتهم ، وكان لا يشرب الاشربة المسكرة ، ولا يحضر للأوثان عيداً ولا احتفالاً ، وكان يعيش مما يدره عليه عمله من خير ، ذلك أن والده لم يترك له شيئاً يذكر ، ولما تزوج خديجة كان يعمل بأموالها () .
إذاً ، كانت حياة الرسول الأولى ، قبل أن ينزل عليه الوحي حياة الهدوء والسلام ، يميل للدعة ، مما وقف تجاهه المستشرق الايرلندي السير وليم موير (1808-1867 ) في كتابه (الإسلام) ، فقال :
(( إن محمداً لم يكن في وقت من الأوقات طامعاً في الغنى ، إنما سعيه كان لغيره ، ولو ترك الأمر لنفسه لآثر أن يعيش في هدوء وسلام قانعاً بحالته )) .
وقال ، في مكان آخر :
((إن النبى محمداً في شبابه طبع بالهدوء والدعة والطهر والابتعاد عن المعاصي التي كانت قريش تعرف بها )) .
ويقول المستشرق سيديو ، في الجزء الأول من كتابه : ( تاريخ العرب) :
(( ولقد بلغ محمد من العمر خمساً وعشرين سنة استحق بحسن مسرته واستقامته مع الناس أن يلقب بالأمين ثم استمر على هذه الصفات الحميدة حتى نادى بالرسالة ودعا قومه إليها فعارضوه أشد معارضة ، ولكن سرعان ما لبوا دعوته وناصروه ، وما زال في قومه يعطف على الصغير ويحنو على الكبير ، ويفيض عليم من عمله وأخلاقه )) .
وعن هذه القضية يتحدث المؤرخ والمستشرق الإنكليزي السير موير في كتابه : (حياة محمد ) :
((إن محمداً نبي المسلمين لقب بالأمين منذ الصغر بإجماع أهل بلده لشرف أخلاقه، وحسن سلوكه . ومهما يكن هناك من أمر فإن محمداً أسمى من أن ينتهي إليه الواصف ، ولا يعرفه من جهله . وخبير به من أنعم النظر في تاريخه المجيد ، وذلك التاريخ الذي ترك محمداً في طليعة الرسل ومفكري العالم )) .