عند النهوض من النّوم يلاحظ الانسان العديد من التغيّرات في جسمه وفي ذلك حكم عديدة، فانتفاخ الوجه وتجعّد الشعر والروائح الصادرة من الفم والجسم، كل ذلك دليل على عجز الانسان وضعفه أثناء النوم. إذن على كل إنسان عند قيامه في الصّباح أن يغسل أطرافه وينظف أسنانه، إنّه منهج المسلم الّذي اتّخذ من القرآن طريقا، فهو يحسّ بالتّواضع ويزداد قناعة بأنّ الكمال لله وحده و النقصان صفة إنسانيّة. كما يتأكد المؤمن كلّما نظر في المرآة أنّ إمكانياته لا تسمح له بتحديد مظاهر جماله بل هي هبة من الله تعالى.
هكذا خلق الله في عباده صفات النقص والعجز، وكمثال على ذلك فجسم الإنسان يتسخ بسرعة، ولكن في المقابل خلق الله للإنسان الكثير من النعم التي تساعده على النظافة مثل الماء والصابون وعلمه طريقة استعمالها، قال تعالى:"إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا" (الشرح، 5-6)
نودّ التأكيد هنا أنّ المؤمن الحق فقط يستطيع اكتشاف الحكمة من خلق النّعم الموجودة، ولذلك يحمد الله ويشكره، والمؤمن الحق له القدرة على التفكير تفكيرا سليما.
والمؤمن يحمد الله على نعمة النظافة ويشكره على ما منحه من وسائل التنظيف. والمؤمن يعي جيدا أن النظافة جزء من الإيمان وهي طريق للتقرب من الله عز وجل، فالله طيب لا يقبل إلا طيبا فبها ينال العبد مرضاة الله وثوابه، يقول تعالى في كتابه الكريم: "وَثِيَابَك فَطَهِّرْ وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ" وهذا امر لجميع المؤمنين بأن يلتزموا بالطهارة. وقد ذكر الله الإنسان بأنه هو الذي أنزل نعمة الماء فقال: "وَيُنَزِّلَُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَ كُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ " ( الأنفال، 11)
إذن الماء هو العنصر الأساسيّ لنظافة الجسم والبيت والأشياء الأخرى، فهو ينظف الأوساخ ظاهرها وباطنها كما ينعش الانسان ويريحه من التعب، ويفيد الماء أيضا في إزالة الشعور بالإرهاق والقلق ويساهم في تخفيض الأمراض لدى الانسان ويزيل الطاقة الكامنة التي تتسبب في وهن الجسم، تلك الطاقة الكامنة في الجسم ولا يستطيع الانسان رؤيتها بالعين المجردة لكننا نحسّ بها في بعض الأحيان عند قيامنا بحركة خلع قميصنا الصّوفي فينبعث صوت، أو عندما نلمس شيئا نحسّ كأنّه لسعة كهربائية تهزّ أجسامنا، كما نحسّ أحيانا بانتفاش الشعر. هكذا يتخلّص الانسان من كلّ ذلك عندما ينّظف جسمه فيحسّ أنّ جسمه خفيف نشيط ويحسّ بالرّاحة الكاملة مثلما يساهم طلوع الشّمس بعد يوم ممطر فى بعث البهجة والفرحة في القلوب لأنّ الماء يقضى على تلك التراكمات الموجودة في الجسم والباعثة على القلق والوهن.
فالمؤمن يحرص دائما على النظافة والاعتناء بنفسه لأن الله يحب الطاهرين، وأهل الجنة هم من الذين يحرصون على النظافة كما تذكر بعض الآيات في وصف أهل الجنة: "كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ..." (الطور، 24). كما تبشر آيات أخرى "بأزواج مطهرة" في الجنة (البقرة، 25ّ؛ آل عمران، 15؛ النساء، 57).
المؤمن الحقّ هو من يسعى إلى بناء جنّة على الأرض بأن يطبّق قدر الإمكان ما وعد به الله المؤمنين في الجنّة الحقيقيّة، لذلك يهتمّ المؤمنون اهتماما كبيرا بنظافة أجسامهم.
هنا نتوقّف عند نقطة مهمّة جدّا، بعض النّاس يهتمون بالتجمّل والنظافة فقط عندما يكونون فى محيط مختلط مع أناس آخرين ويهملونها فى أوقاتهم الأخرى، فلا يغسل وجهه إلى المساء ويبقي مبعثر الشعر والملابس، يتجوّل بقميص النّوم ولا يرتّب فراشه طوال اليوم. والأواني مبعثرة هنا وهناك في أرجاء المطبخ، فهم يعيشون بهذا المنطق الخاطئ.
إنّ من يعيش بهذا الأسلوب تبقى نظافته خارجيّة ظاهريّة، وهمّه الوحيد إخفاء أوساخه عن العيون، هؤلاء الناّس يرون أنّ الغسل أو تغيير المنشفة والفراش و الملابس وترتيب المنزل فيه مضيعة للوقت، وهم لا يقتربون من النظافة إلاّ عند اكتشاف أوساخ ظاهرة للعيان ويكتفون في أغلب الأحيان خاصّة عند البرد بغسل شعورهم. وتجد بعض النّساء يذهبن إلى صالون الحلاقة والتجميل لغسل شعورهن وترتيبها بشكل مناسب ولا يرين بعدها حاجة إلى غسله إلاّ بعد أن تفسد تسريحته. كما يحاولن إخفاء رائحة أجسامهنّ بوضع العطور القويّة، لكنّهنّ لا يعين أنّ تلك الروائح لا تزيد البدن إلاّ وهنا على وهن.
أماّ بالنسبة إلى الملابس، فهناك أناس لا يعتنون إلاّ بملابسهم الخارجيّة فلا يغسلون قمصانهم وسراويلهم إلاّ إذا بدت عليها بقع ظاهرة للعيان، أمّا رائحة السّجائر والأطعمة ورائحة العرق وغيرها من الروائح الكريهة فهم لا يرون فيها حرجا، وهي ليست بالأسباب الكافية حتى تدفعهم إلى غسل ثيابهم. وعلى هذا النحو نلاحظ أنّ العيش بهذا المنطق لا يسبب إلاّ الأضرار سواء للكبار أو الصغار، وبسبب ذلك تنتشر أمراض مختلفة نتيجة التغذية غير السليمة وعدم الحرص على النظافة الشاملة. فالتدخين فى الأماكن المغلقة يكون سببا فى اصفرار المكان والتأثير على جلد الإنسان وتأذّي الكبد. وهذه لا تعدو أن تكون أضرارا ظاهرة تصيب الجسم فقط، لكن العيش فى الأماكن المتسخة يسبب أمراضا نفسية أيضا، فيكون الانسان بعيدا عن الذوق السليم والجمال وحتى التفكير السليم، وبذلك تكون عاقبة هذا الاختيار سيئة وووخيمة على الانسان.
حث الإسلام المؤمنين على النظافة وأمرهم بالعناية بنظافة مأكلهم ومشربهم وملبسهم وقد قال الله تعالى في هذا الشأن: " يَا أَيُّها النََّاسُ كُلُوا مِمَّا فِى الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا..." ( البقرة 168).
"يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُم الطَّيِّبَاتُ..." (المائدة، 4).
"الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُم الطَّيِّباَتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيِهم الخَبَائِثَ" (الأعراف، 157)
"وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلَّطائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" (البقرة، 125)
"قَالُوا رَبُّكُم أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُم فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِيِنَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا" (الكهف 19)
"وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا" (مريم، 13)
وقد كانت حياة الإنسان فى الجاهليّة غير صحية ولا تنسجم مع قواعد الصحة الأساسية. وجاء الإسلام بالأخلاق القرآنية واهتمّ المؤمنون بالعيش فى دنيا جميلة قبل بلوغ الآخرة الموعودة، كما أنّ حياة المجتمع الجاهلي كانت مليئة الفوضي والاضطرابات. أمّا بعد مجيء الإسلام فقد تحوّلت حياة الإنسان إلى وضع مختلف تماما. أصبح الناس سعداء مطمئنين، يحبون الطهارة ويمقتون النجاسات ولا يرضون بالعيش إلا في الأماكن النظيفة.
وباختصار فإن المؤمن يلتزم بالمنهج القرآني في النظافة لا من أجل كسب مديح الآخرين بل لأنّه سلوك يحبّه الله تعالى. المؤمن يهتم براحة نفسه، ولا ينسى السهر على راحة الآخرين. وهمه أن يبلغ درجة عالية من النظافة والطهارة، فهو لا يتكاسل أبدا في تحقيق هذا المطلب الربّاني.