إجماع الأئمة الأعلام، وما تلقته الأمة بالقبول، لا يمكن أن يكون خطأ، فالأمة - وهي خير أمة أخرجت للناس - لا تجتمع على ضلالة.
والأستاذ جمال البنا دأب على الخروج على هذا الإجماع، والتشكيك في الثوابت التي لا خلاف فيها، وذلك لم يستغرب أن يقول بأنه هو أو غيره اكتشف خطأ وقعت فيه الأمة والأئمة الأعلام وذلك كما جاء في مقاله بجريدة المصري اليوم بتاريخ 13/8/2008.
وبالرجوع إلى المصادر التي رجع إليها واحتج بها للطعن في صحيح البخاري وفي إجماع الأمة يتبين أن كل هذه المصادر بلا استثناء تؤيد بلا خلاف أنه وقع في خطأ جسيم يتنافى مع أخلاق أي مسلم مؤمن؛ فالمؤمن لا يكذب.والكتب التي ذكر الكاتب أنها تخالف ما جاء في صحيح البخاري هي: الكامل وتاريخ دمشق، وسير أعلام النبلاء، وتاريخ الطبري، وتاريخ بغداد، وكتاب وفيات الأعيان.. ثم ضم إلى هذه الكتب بعد ذلك كتابين هما: الإصابة، والبداية والنهاية.
وأنقل هنا ما جاء في هذه الكتب الثمانية، ذاكراً الجزء ورقم الصفحة ليرجع إليها من شاء، والصفحات كلها عندي يمكن أن أرسلها لمن يطلبها.
جاء في كتاب الكامل لابن الأثير:
«فأما عائشة فكانت يوم تزوجها صغيرة بنت ست سنين».
ثم قال: «وأما عائشة فدخل بها بالمدينة وهي ابنة تسع سنين ومات عنها وهي ابنة ثمان عشرة سنة». (جـ 2، ص 175 - الطبعة الأولى)
وفي تاريخ دمشق (3/180) قال ابن عساكر: «فنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهي بنت ست سنين، وبنى بها بعدما قدم المدينة، وعائشة يوم بنى بها ابنة تسع سنين».
وفي سير أعلام النبلاء قال الذهبي: عن عائشة قالت: «تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم متوفى خديجة، وأنا ابنة ست، وأدخلت عليه وأنا ابنة تسع».
وأما الطبري فتحدث عن نكاحها في ثلاث صفحات من الجزء الثاني: فقال في رقم (9):
«بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة بعد مقدمه المدينة بثمانية أشهر، في ذي القعدة في قول بعضهم، وفي قول بعض: بعد مقدمه المدينة بسبعة أشهر، في شوال. وكان تزوجها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين بعد وفاة خديجة، وهي ابنة ست سنين. وقد قيل: تزوجها وهي ابنة سبع».
وبعد أسطر ذكر قول عائشة: «نزل الملك بصورتي، وتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبع سنين، وأهديت إليه لتسع سنين».
وفي (ص 211) قال: «فأما عائشة فكانت يوم تزوجها صغيرة لا تصلح للجماع».
وفي (ص 212) ذكر قول عائشة: «فبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وأنا يومئذ ابنة تسع سنين». وبعد ثلاثة أسطر قال الطبري: «ونكح عائشة متوفى خديجة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عائشة مرتين، يقال له: هذه امرأتك، وعائشة يومئذ ابنة ست سنين: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى بعائشة بعدما قدم المدينة وهي يوم بنى بها ابنة تسع سنين».
وفي تاريخ بغداد (جـ 11، ص 275) روى الخطيب البغدادي «أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وهي ابنة ست سنين، وبنى بها وهي ابنة تسع سنين، وقُبض النبي صلى الله عليه وسلم وهي ابنة ثمان عشرة سنة».
وفي وفيات الأعيان لابن خلكان في ترجمة عائشة رقم (318) جـ 3 ص 9، 10 جاء ما يأتي:
«تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين وكان لها يوم تزوجها ست سنين، وقبض صلى الله عليه وسلم وهي بنت ثماني عشرة سنة».
هذه هي الكتب الستة التي ذكرها السيد جمال البنا، وقال بأنها تجمع كلها على خلاف ما جاء في البخاري، وتنقض قضية تقبلتها الأمة بالإجماع.
فهذه النقول التي نقلتها كما جاءت بالنص من هذه الكتب تؤكد ما جاء في صحيح البخاري، وما أجمعت عليه الأمة وتلقته بالقبول، فهل يجد السيد البنا تفسيرا لهذا المسلك الذي سلكه؟!
ويبقى الكتابان اللذان ذكرهما السيد الكاتب تأييداً لما ذهب إليه، فلننظر فيهما.
أحدهما كتاب الإصابة للحافظ ابن حجر، وترجمة عائشة في الجزء الرابع (ترجمة رقم 704)، جاء فيها: «ولدت بعد المبعث بأربع سنين أو خمس؛ فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت ست، وقيل سبع، ويجمع بأنها كانت أكملت السادسة ودخلت في السابعة. ودخل بها وهي بنت تسع».
والكتاب الثاني هو البداية والنهاية للحافظ ابن كثير: وذكر في الجزء الثالث (ص 176) ما يأتي في زواج عائشة:
«تزوجها وهي ابنة ست سنين، وبنى بها وهي ابنة تسع، لا خلاف فيه بين الناس، وقد ثبت في الصحاح وغيرها».
ومن هذا نرى أن الكتابين يؤكدان ما جاء في كتب التاريخ الستة التي ذكرها وما جاء في صحيح البخاري.
فهل من أخلاق المسلم أن يقول كلاماً غير صحيح ليهدم ما أجمعت عليه الأمة، وما تلقته بالقبول؟! وما جاء في صحيح البخاري، وهو أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى؟
وقبل أن أختم هذه الكلمة أضم بعض ما جاء في مقاله في المصري اليوم أيضا بتاريخ 20/8/2008، تحت عنوان: «إنها دعوة لإثارة الفكر وإعمال العقل».
قال مدافعا عن قوله بإباحة التدخين في نهار رمضان، وإباحة القبل الغرامية بين الشباب والشابات: هذه الاجتهادات في مقصد الهجرة إلى الله ورسوله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟!
وقال: من أكبر أسباب تخلف المجتمع المصري سوء فهم الإسلام وقد أدت إساءة فهمه إلى تدهور المجتمع، وجاءت هذه الإساءة من الاعتماد كلياً على ما فهمه عبر الأسلاف، وما وضعوه من القواعد والمبادئ لمنظومة المعرفة الإسلامية من تفسير أو حديث أو فقه منذ أكثر من ألف عام... ومع التقليد جاء الغباء وصدأ العقل المسلم.
ثم قال ذاك الذي يصف الأمة بالغباء وصدأ العقل:
لا تحرر إلا بالتحرر من التراث الفقهي، والعودة إلى القرآن نفسه، وعدم الاعتداد بالمفسرين، من ابن عباس حتى سيد قطب، وضبط السنة بمعايير من القرآن الكريم... إلخ.
بعد هذه النقول نرى ما يأتي، والله عز وجل هو الأعلم:
1 - في المقال الأول ركز هجومه على صحيح البخاري، مع أنه لم ينفرد بروايته، بل رواه أيضا: مسلم، وأبو داود، والنسائي، والدارمي، وابن ماجة، وابن الجارود، والبيهقي، والطيالسي، وأحمد، وابن سعد في الطبقات. (انظر إرواء الغليل 6/230).
أي أن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها في السادسة، والبناء بها وهي في التاسعة جاء في عشرة كتب من كتب السنة غير صحيح البخاري، فلو أن كتب التاريخ تعارضت مع كتب السنة، فإن المنهج العلمي يفرض علينا تقديم كتب السنة المسندة المتصلة الإسناد على كتب التاريخ التي لا تنضبط بضوابط السنة، فالتاريخ كما يقول الإمام أحمد من العلوم التي لا أصل لها.
غير أن التركيز على صحيح البخاري لأنه أصح كتاب بعد القرآن الكريم، فلو هُدم أمكن هدم باقي كتب السنة، هذا المقصد يتضح من مقاله الثاني حيث دعا إلى ترك تراثنا الحديثي، وهدم السنة والاكتفاء بالقرآن الكريم.
وأول من دعا إلى هذا فرقة ضلت في عهد الإمام الشافعي كما جاء في الجزء السابع من كتاب الأمم، وناقشها مناقشة علمية ممتعة حتى ردها عن ضلالها.
وأثبت نص الحوار، كما ذكرت من جاء بعد هذه الفرقة من الضالين، وأثبت ضلالهم جميعا في كتابي «قصة الهجوم على السنة» أو «السنة بيان الله على لسان رسوله».
وطبع عدة طبعات مستقلاً، وطبعات أخرى ملحقاً بكتابي «مع الاثنى عشرية في الأصول والفروع - موسوعة شاملة».
2 - السنة النبوية المشرفة خُدمت خدمة لم تعرفها أمة غير أمة الإسلام، ووضعت لها ضوابط دقيقة جعلت بعضها يصل إلى حد التواتر كالقرآن الكريم، وبعضها وصل إلى التواتر عن بعض الصحابة، وبعضها صحيح لا شك فيه. فكيف أننا نترك السنة، وعلومها، ونبدأ بسنة جديدة حديثة تضبط بضوابط القرآن الكريم؟!
3 - ابن عباس رضى الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن، وما ثبت عنه مرفوعا في التفسير، أو كان في حكم المرفوع، فهو في أعلى مراتب التفسير، فإذا طعنا فيه وفيما ثبت عن باقي الصحابة أصبح القرآن الكريم بدون تفسير، وهو ما دعا إليه السيد جمال البنا، كما دعا إلى أن نترك الفقه كله، ما ثبت عن الأئمة الأربعة وعن غيرهم، وهكذا علينا أن نحرق كتب التفسير والحديث والفقه، فالتمسك بها أدى إلى الغباء وصدأ العقل المسلم كما يزعم ذاك المجترئ.
4 - بعد هذا يبقى القرآن وحده، والخطوة التالية أن نسلمه للسيد جمال البنا، الذي لم يصب بالغباء وبصدأ العقل كما أصيبت أمة الإسلام، ليخرج لنا ما نتبعه مما يستحدثه بعقله من التفسير والحديث والفقه، وأظن أنه في التسعين من عمره؛ أي ممن رد إلى أرذل العمر. وقدم لنا نماذج من فقهه؛ فعلى الصائمين أن يدخنوا في نهار رمضان كما يشاءون، فالتدخين من الطيبات التي لا تفطر وليس من الخبائث، وعلى الشباب والشابات أن يتبادلوا الأحضان والقبل الغرامية فلا حرج عليهم، وبالطبع ستأتي البقية.
5 - القرآن الكريم نقل إلينا عن طريق الصحابة رضى الله عنهم، وما دمنا طعنا فيهم وفي روايتهم للتفسير والحديث، فلم يبق إلا أن نطعن في روايتهم للقرآن الكريم.
وهذه هي الخطوة التالية التي تبقى أمام السيد جمال البنا، وعندها ستصبح شهرته مثل شهرة سلمان رشدي وأمثاله. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
بقلم ..أ.د. علي السالوس
النائب الأول لرئيس مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، وأستاذ الفقه والأصول وأستاذ فخري في المعاملات المالية المعاصرة والاقتصاد الإسلامي من جامعة قطر، وعضو مجمع فقه المنظمة ومجمع فقه الرابطة