الوضوء.. آفاق من الطهر والنور
الطهارة هي الخطوة الأولى للدخول إلى الإسلام، يغتسل المرء أولا ثم يتلفظ بعد الغسل بالشهادتين، وقد تكرر في القرآن الكريم تأكيد الخالق الحكيم سبحانه وتعالى على قيمة الطهارة بين عباده، وجعلها واجبة على كل المسلمين في الوضوء لخمس صلوات في اليوم هي الفرائض، هذا غير النوافل، كما أنه جل وعلا افترض الغسل الشرعي لتطهير الجسد في مناسبات عدة للرجال والنساء، وروي عن جابر رضي الله عنه في سبب نزول قول الله تعالى: (.. لمسجد أسّس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين)، وقد روي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطهور شطر الإيمان)، وروى الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال: (طهروا هذه الأجساد طهركم الله)، والمسلم حين يتطهر إرضاء لله فإن الله يتم نعمته عليه فيسمو بنفسه وروحه، ويأخذه إلى آفاق من الطهر والنور، ويشبع أشواقه إلى السكينة والطمأنينة والهدوء النفسي بما لا يستطيع فعله شيء آخر.
الوضوء ليس مجرد تنظيف للأعضاء الظاهرة، وليس مجرد تطهير للجسد يتوالى عدة مرات في اليوم، بل إن الأثر النفسي والسمو الروحي الذي يشعر به المسلم بعد الوضوء لشيء أعمق من أن تعبر عنه الكلمات، خاصة مع إسباغ الوضوء وإتقانه.
إقبال على الله
وللوضوء دور كبير في حياة المسلم، وهو يجعله دائما في يقظة وحيوية وتألق، وإقبال على الله، وقد قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: (من توضأ فأحسن الوضوء خرجت الخطايا من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره)، وعنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد عن أبي أمامة: (من توضأ فأسبغ الوضوء، وغسل يديه ووجهه، ومسح على رأسه وأذنيه، ثم قام إلى صلاة مفروضة، غفر له في ذلك اليوم ما مشت إليه رجلاه وقبضت عليه يداه وسمعت إليه أذناه ونظرت إليه عيناه وحدث به نفسه من سوء)، وفي فضل الوضوء أحاديث كثيرة منها ما رواه مالك ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط).
والوضوء هو العلامة المميزة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم يعرفهم بها يوم يرد النبي على الحوض وهو ما جاء في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم عن قريب لاحقون، وددت لو أنا قد رأينا إخواننا) قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال: (أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد)، قالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ قال: (أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم بدلوا بعدك فأقول: سحقا سحقا)، فقال أبو هريرة: فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل. رواه أحمد والشيخان.
والوضوء عبادة والعبادات على الاتباع، فليس لأحد أن يخالف المأثور في كيفية وضوئه صلى الله عليه وسلم، خصوصا ما كان مضطردا منها.
الهدي النبوي
وكان صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة في غالب أحيانه، وصلى الصلوات بوضوء واحد، لحديث بريدة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله فقال: (عمدا فعلته يا عمر) رواه أحمد ومسلم وغيرهما، وابن عمرو بن عامر الأنصاري رضي الله عنه قال، كان أنس بن مالك يقول: (كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، قال: قلت: فأنتم كيف كنتم تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث)، رواه أحمد والبخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، ومع كل وضوء بسواك) رواه أحمد بسند حسن، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات)، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة.
وكان صلى الله عليه وسلم يحذر أمته من الإسراف فيه، وأخبر أنه يكون في أمته من يعتدي في الطهور، وقال: (إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء) ومر على سعد، وهو يتوضأ فقال له: لا تسرف في الماء، فقال: وهل في الماء من إسراف؟ قال: (نعم وإن كنت على نهر جار).
وصح عنه أنه توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وفي بعض الأعضاء مرتين، وبعضها ثلاثاً، وكان أغلب وضوئه ثلاثاً ثلاثاً، وهو السنة التي جرى عليها العمل غالبا وما ورد مخالفا لها فهو لبيان الجواز، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء، فأراه ثلاثا ثلاثا وقال: (هذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم) رواه أحمد والنسائي وابن ماجة، وعن عثمان رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا) رواه أحمد ومسلم والترمذي، وكان يتمضمض ويستنشق تارة بغَرفة، وتارة بغَرفتين، وتارة بثلاث. وكان يصل بين المضمضة والاستنشاق، فيأخذ نصف الغرفة لفمه، ونصفها لأنفه، ويسن المبالغة فيهما لغير الصائم، لحديث لقيط رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؟ قال: (أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما) رواه الخمسة، وصححه الترمذي.
وكان يستنشق بيده اليمنى، ويستنثِر باليسرى، وكان يمسح رأسه كله، وتارة يقبل بيديه ويدبر، وعليه يحمل حديث من قال: مسح برأسه مرتين والصحيح أنه لم يكرر مسح رأسه، بل كان إذا كرر غسل الأعضاء، أفرد مسح الرأس، هكذا جاء عنه صريحاً، وهو الأكثر رواية.
طرق ثلاث
وكان وضوؤه صلى الله عليه وسلم مرتباً متوالياً، لم يُخِل به مرة واحدة البتة، وكان يمسح على رأسه تارة، وعلى العمامة تارة، وعلى الناصية والعمامة تارة، والمحفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذاك طرق ثلاث:
مسح جميع رأسه: ففي حديث عبد الله بن زيد (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه) رواه الجماعة.
مسحه على العمامة وحدها: ففي حديث عمرو بن أمية رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه)، رواه أحمد والبخاري وابن ماجة.
مسحه على الناصية والعمامة، ففي حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين) رواه مسلم.
وكان يغسل رجليه إذا لم يكونا في خفين ولا جوربين، ويمسح عليهما إذا كانا في الخفين أو الجوربين وكان يمسح أذنيه مع رأسه، وكان يمسح ظاهرهما وباطنهما، ولم يثبت عنه أنه أخذ لهما ماءً جديداً، وإنما صح ذلك عن ابن عمر ولم يصح عنه في مسح العنق حديث البتة.
صحة أذكار الوضوء
لم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول على وضوئه شيئاً غير التسمية، يقول صاحب زاد المعاد في هدي خير العباد (وكل حديث في أذكار الوضوء الذي يقال عليه، فكذب مختلَق، لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً منه، ولا علمه لأمته، ولا ثبت عنه غير التسمية في أوله وقوله:
(أَشْهَدُ أَن لاَ إلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، واجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرينَ) في آخرِه وفي حديث آخر في سنن النسائي مما يقال بعد الوضوء أيضاً: (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ).
ولم يكن يقول في أوله: نويت رفع الحدث، ولا استباحة الصلاة، لا هو، ولا أحد من أصحابه البتة، ولم يرو عنه في ذلك حرف واحد، لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف، ولم يتجاوز الثلاث قط، وكذلك لم يُثبت عنه أنه تجاوز المرفقين والكعبين، وكان يخلل لحيته أحياناً، ولم يكن يواظب على ذلك. وكذلك تخليل الأصابع لم يكن يحافظ عليه.
وقال العلماء يستحب صلاة ركعتين بعد كل وضوء لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبلال: (يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام إني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة. قال: ما عملت عملا أرجى عندي من أني لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي). متفق عليه، وروى مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أحد يتوضأ فيحسن الوضوء، ويصلي ركعتين يقبل بقلبه ووجهه عليهما إلا وجبت له الجنة).
1- كان يتوضأ لكل صلاةٍ في غالبِ أحيانِه ، وربما صَلَّى الصَّلواتِ بوضوء
واحدٍ .
2- وكان يتوضأ بالْمُدِّ تارةً ، وبثُلُثَيْهِ تارةً ، وبأزيد منه تارةً .
3- وكان من أيسرِ الناس صَبّاً لماء الوضوء ويُحَذَّرُ أُمته تارةً .
4- وكان يتوضأُ مرةً مرةً ، ومرتينِ مرتينِ ، وثلاثاً ثلاثاً ، وفي بعضِ الأعضاءِ
مرتينِ وبعضِها ثلاثاً ، ولم يتجاوز الثلاثَ قطُّ .
5- وكان يتمضمضُ ويستنشقُ تارةً بغَرفة ، وتارةً بغَرفتينِ ، وتارةً بثلاث ،
وكان يصلُ بين المضمضةِ والاستنشاقِ .
6- وكان يستنشقُ باليمينِ ويستنثرُ باليسرى .
7- ولم يتوضأ إلا تمضمضَ واستنشقَ .
8- وكان يمسحُ رأسهُ كلَّه ، وتارةً يُقْبِل بيديه ويُدْبِر .
9- وكان إذا مسحَ على ناصيتِه كَمَّل على العِمَامَةِ .
10- وكان يمسحُ أذنيه ـ ظاهرهما وباطنهما ـ مع رأسه .
11- وكان يغسلُ رِجْلَيْهِ إذا لم يكونَا في خُفَّيْنِ ولا جَوْرَبَيْنِ .
12- وكان وُضُوؤه مُرَتباً متوالياً ولم يُخِلّ به مرة واحدة .
13- وكان يبدأ وضوءَه بالتَّسمِيَةِ ، ويقول في آخره : " أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إلاَّ اللهُ
وحده لا شَرِيكَ لَهُ ، وَ أشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التوَّابِينَ واجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ " [الترمذي] .
ويقول : " سُبْحَنَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلهَ إِلاَّ أَنْتَ ، أَسْتَغْفِرُكَ
وَأَتُوبُ إِلَيْكَ " .
14- ولم يَقُلْ في أوله : نَوَيْتُ رفعَ الحدثِ ولا استباحةَ الصلاة ، لا هو ولا
أحدٌ من أصحابِه الْبَتَّةَ .
15- ولم يكن يتجاوز المِرْفَقَيْنِ والكعبينِ .
16- ولم يكن يعتاد تنشيفَ أعضائه .
17- وكان يُخَلِّلُ لِحْيَتَهُ أحياناً ، ولم يُوَاظَبْ على ذلك .
18- وكان يخلل بينَ الأصابع ، ولم يكن يحافظ على ذلك .
19- ولم يَكُنْ من هَدْيِه أن يُصَبَّ عليه الماءُ كلما توضأ ، ولكن تارةً يَصُبُّ على نفسهِ ، وربما عاونَهُ مَنْ يصب عليه أحياناً لحاجة .