من أعظم دلائل نبوة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، تبشير الأنبياء السابقين به صلى الله عليه وسلم، ورغم أن البشارات في هذا الشأن تبلغ العشرات بل المئات إلا إن اكتفينا بأمثلة لها قليل، وذلك أنه إذا صحت بشارة واحدة وصدقت دلالتها فإنها كافية بل لازمة للإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، لهذا لم نرد الاستزادة من البشارات بل اكتفينا بتوضيح الأمثلة المختارة.
مدخل إلى البشارات
تعددت البشارات في الكتب السابقة بخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، حيث بشر الأنبياء السابقون بقدومه وأمروا أتباعهم بالإيمان به صلى الله عليه وسلم وتصديقه إذا ظهر، ولولا ما أصاب هذه الكتب من تحريف وتزييف عن عمد أو غير عمد لكانت النصوص الدالة على رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحة وضوح الشمس في وسط النهار؛ وقبل أن نناقش تلك البشارات، نقدم لها بعدة نقاط حتى يكون تحليل هذه البشارات تحليل علميًا سليمًا:
أولاً: هل بشرت الكتب السابقة برسول الله صلى الله عليه وسلم؟:
يزعم أهل الكتاب اليوم أن كتبهم لم تبشر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأن النصوص التي يستشهد بها المسلمون غير دالة على ذلك، والإجابة على هذا الزعم تنحصر في ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: إن وجود هذه البشارات أو عدمها في الكتب المشار إليها آنفا سواء، فرسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست في حاجة إلى دليل يقام عليها من خارجها، بحيث إذا لم يوجد ذلك الدليل الخارجي بطلت؛ إنها رسالة دليلها فيها، ووجود البشارات بها في الكتب السابقة عليها لا يضيف إليها جديداً، وعدم وجود تلك البشارات لا ينال منها شيئاً قط.
فهي حقيقة قائمة بذاتها لها سلطانها الغنى عما سواها، ودليلها قائم خالد صالح للفحص في كل زمان ومكان، باق بقاء رسالته أبد الدهر أشرق ولم يغب، ظهر ولم يختف، قوى ولم يضعف.
ودلائل النبوة لا تنحصر في وجود هذه البشارات بل إن دلائل صدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تنحصر أو تحصر في البشارات.
النقطة الثانية: إنه إن صح أن الكتب السابقة لم تخبر بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بأمر أمته سلبًا أو إيجابًا، فإن ذلك طعن في هذه الكتب وليس طعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن من قرأ الكتب السابقة وجدها تخبر بأخبار الحوادث القادمة كحادثة بختنصر وقورش واسكندر وخلفائه وحوادث أرض أدوم ومصر ونينوى وبابل، ويبعد كل البعد أن لا يخبر أحد منهم عن خروج محمد صلى الله عليه وسلم الذي كسر الجبابرة والأكاسرة وبلغ دينه شرقاً وغرباً وغلب الأديان وامتد زمنًا طويلاً ويبقي إلى آخر الزمان، فهذه الحوادث ليست بأقل من حادثة أرض أدوم ونينوى وغيرهما فكيف يجوز العقل السليم أنهم أخبروا عن الحوادث الضعيفة وتركوا الإخبار عن الحادثة العظيمة.
النقطة الثالثة: النصوص ذاتها التي سوف نوردها ترد على هذا الزعم وتنفى ذلك الوهم.
ثانيًا: هل ختمت النبوات ببعثة عيسي عليه السلام؟:
يزعم أهل الكتاب أن عيسي عليه السلام هو خاتم النبيين وأن الدنيا ليست في حاجة إلى نبي بعده، وهذا الزعم الباطل نرد عليه من نصوص أهل الكتاب أنفسهم التي تؤكد أنهم كانوا ينتظرون نبياً آخر غير المسيح وإيلياء، فقد جاء في إنجيل يوحنا (1: 19-25) أن علماء اليهود سألوا يحيي عليه السلام: أأنت المسيح ؟ فقال لهم: لا، فسألوه: أأنت إيلياء ؟، فقال: لا، فسألوه : أأنت النبي ؟ أي النبي المعهود الذي أخبر عنه موسى عليه السلام، فقال يحيي عليه السلام: لا".
فهؤلاء ثلاثة أنبياء كان ينتظرهم بنو إسرائيل الأول المسيح عليه السلام والثاني إيلياء علمحمد صلى والثالث النبي الذي أخبر عنه موسي عليه السلام، فمن يكون هذا النبي إن لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان المسيح عليه السلام قد حذر من الكذابين الذين يأتون بعده كما جاء في إنجيل متى [7: 15]: (احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتوكم بثبات الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة)، فإنه لم يحذر من النبي الصادق محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك قيد بالكذبة.
ويبقي أن نقول أنه كما أن اليهود لا يؤمنوا بعيسي عليه السلام غير أن هذا لا يطعن في نبوته، فكذلك الشأن في رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كذب اليهود والنصارى بنبوته صلى الله عليه وسلم فدلائل صدقه وثبوت بعثته صلى الله عليه وسلم أكثر من تحصر ولا مجال للطعن فيها.
وسوف نورد في ثنايا هذه الرسالة من الأدلة والوقائع ما تشير إلى اعتراف أهل الكتاب بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: تنبيهات لفهم البشارات:
حتى نستطيع التعامل وفهم النصوص التي حوتها الكتب السابقة والتي بشرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، لابد من التقديم بعدة تنبيهات بشأن هذه البشارات.
التنبيه الأول: أنه كما يزعم النصارى اليوم أن بشارات الكتب السابقة لا تصدق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن اليهود قد سبقوا إلى ذلك ونفوا أن تصدق البشارات بعيسي عليه السلام على عيسي، غير أن النصارى لم يلتفتوا إلى تفاسير وتأويلات اليهود واعتبروها غير صحيحة، وكما أن تأويلات اليهود في البشارات السابقة مردودة غير صحيحة وغير لائقة عند النصارى كذلك تأويلات النصارى في البشارات التي هي في حق محمد صلى الله عليه وسلم مردودة وغير مقبولة، وسيظهر أن البشارات التي ننقلها في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أظهر صدقاً من البشارات الواردة في حق عيسي عليه السلام، فلهذا فنحن لا نبالي بمخالفة النصارى في حق هذه البشارات بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أننا سنؤكد أن هذه البشارات أليق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
التنبيه الثاني: إذا أخبر النبي المتقدم عن النبي المتأخر، فلا يشترط في إخباره أن يخبر بالتفصيل التام بأنه يخرج من القبيلة الفلانية في السنة الفلانية في البلد الفلاني، وتكون صفته كيت وكيت، بل يكون هذا الإخبار في غالب الأوقات مجملاً عند العوام، وأما عند الخواص فقد يصير جلياً بواسطة القرائن، وقد يبقى خفياً عليهم أيضاً لا يعرفون مصداقه إلا بعد ادعاء النبي اللاحق أن النبي المتقدم أخبر عني وظهور صدق ادعائه بالمعجزات وعلامات النبوة، وبعد الادعاء وظهور صدقه يصير جلياً عندهم بلا ريب.
ويدخل في هذا الإشارة إلى أن الكتاب المقدس كثير الاستعارات، تكثر فيه الرموز والإشارات خاصة فيما يتعلق بالمستقبل، يقول صاحب كتاب "مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين": "وأما اصطلاح الكتاب المقدس فإنه ذو استعارات وافرة غامضة وخاصة العهد العتيق".
ويقول أيضاً: " واصطلاح العهد الجديد أيضاً هو استعاري جداً، وخاصة مسامرات مخلصنا، وقد اشتهرت آراء كثيرة فاسدة لكون بعض معلمي النصارى شرحوها شرحاً حرفياً... ".
وبإيضاح هذه النقطة يجب أن يكون واضحًا أن نصوص الكتب السابقة في حاجة إلى التعامل معها بشيء من الانفتاح الذهني الذي لا ينغلق على ظاهرية النص، بل إن نصوص الكتب السابقة وخاصة البشارات يجب دراستها في ضوء الأحداث التاريخية السابقة والمعاصرة، حتى تقع في موقعها الصحيح.
التنبيه الثالث: من عادة أهل الكتاب سلفاً وخلفاً أنهم يترجمون غالباً الأسماء في تراجمهم ويوردون بدلها معانيها، وهذا خبط عظيم ومنشأ للفساد وأنهم يزيدون تارة شيئاً بطريق التفسير في الكلام الذي هو كلام اللّه في زعمهم، ولا يشيرون إلى الامتياز، وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم، ولكم ضاع بسبب هذا الصنيع من دلالات واضحات، منها نبوءة المسيح عن البارقليط، والذي تسميه التراجم الحديثة: المعزي، ومن الأمثلة قريبة العهد اختلاف الترجمة في النص الإنجليزي عن النص العربي، ففي المزامير (84 : 4-7) جاء تعبير "وادي البكاء"، وعند العودة إلى النص الإنجليزي وجدنها " valley of baca " والاختلاف بين الأمرين أن النص الإنجليزي ليس المقصود منه وادي البكاء ولكن المقصود واد اسمه "بكة" أما كلمة "وادي البكاء" فهي من وضع مترجمي الإنجيل الذين ترجموه وفقًا لتفاسيرهم وتأويلاتهم، وسوف نناقش هذا النص بمزيد من التفصيل في هذه الرسالة.
وقد أورد رحمة الله الهندي في كتابه "إظهار الحق" ثلاثة عشر مثالاً لهذا الصنيع من المترجمين قارن فيها بين طبعات مختلفة للكتاب المقدس، ليقف منها على أثر هذا الصنيع في ضياع دلالات النصوص، منها:
أنه جاء في الطبعة العربية (1811م) " سمى إبراهيم اسم الموضع: مكان يرحم الله زائره " (انظر التكوين 22/14) فاسم المكان العبراني أبدله المترجم بمعناه، وفي طبعة (1844م) العربية قال: " دعا اسم ذلك الموضع:" الرب يرى"، وبذلك ضاع الاسم الصحيح، واختلفت المعاني، ومثله كثير....ثم يقول رحمة الله الهندي: "فهؤلاء المترجمون لو بدلوا في البشارات المحمدية لفظ رسول الله بلفظ آخر، فلا استبعاد منهم".
ونقول زيادة على ذلك إن النية لدى النصارى في هذا العصر صارت واضحة على تغيير وتحريف كل ما يشير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى أمته، وإن عجزوا عن ذلك فإنهم يعمدون إلى تفسيرها بتفاسير لا يقبلها المنطق.
لهذا فكلما كان الاعتماد على نصوص الكتب السابقة في النسخ القديمة وبلغاتها الأصلية كان أفضل، خاصة وأن علماء المسلمين أوردوا من الكتب السابقة ما فيها دلالة واضحة على التبشير برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الصدد نقل العلامة رحمة الله الهندي أيضاً عن حيدر القرشي صاحب كتاب "خلاصة سيف المسلمين" قوله: "إن القسيس أوسكان الأرمني ترجم كتاب إشعياء باللسان الأرمني في سنة ألف وستمائة وست وستين، وطبعت هذه الترجمة في سنة ألف وسبعمائة وثلاث وثلاثين في مطبعة أنتوني بورتولي، ويوجد في هذه الترجمة في الباب الثاني والأربعين هذه الفقرة: "سبحوا الله تسبيحاً جديداً، وأثر سلطنته على ظهره، واسمه أحمد" (إشعيا 42/10 –