32ـ بطولة سلمة بن الأكوع رضي الله عنه
· عن سلمة بن الأكوع قال : قدمنا المدينة زمن الحديبية مع الرسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت أنا ورباح غلام النبي صلى الله عليه وسلم بظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجت بفرس لطلحة بن عبيد الله أريد أن أنديه مع الإبل ، فلما كان بغلس أغار عبد الرحمن ابن عيينة على إبل رسول الله ، فقتل راعيها وخرج يطردها هو وأناس معه في خيل ، فقلت : يا رباح اقعد على هذا الفرس فألحقه بطلحة وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد أغير على سرحة . قال : وقمت على تل فجعلت وجهي من قبل المدينة ، ثم ناديت ثلاث مرات : يا صباحاه ! قال : ثم اتبعت القوم معي سيفي ونبلي فجعلت أرميهم وأعقربهم ، وذلك حين يكثر الشجر ، فإذا رجع إلى فارس جلست له في أصل شجرة ثم رميت ، فلا يقبل إلى فارس إلا عقرت به ، فجعلت أرميهم وأنا أقول :
أنا ابن الأكــوع واليوم يوم الرضع
قال : فالحق برجل منهم فارميه وهو على راحلته فيقع سهمي في الرجل حتى انتظم كتفه فقلت :
خذها وأنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع
فإذا كنت في الشجر أحرقتهم بالنبل فإذا تضايقت الثنايا علوت الجبل فرديتهم بالحجارة ، فما زال ذلك شأني وشأنهم اتبعهم وأرتجز حتى ما خلق الله شيئا من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهري فاستنفذته من أيديهم ، ثم لم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحا وأكثر من ثلاثين بردة يستخفون منها ولا يلقون من ذلك شيئا إلا جعلت عليه حجارة وجمعته على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا امتد الضحى أتاهم عيينة بن بدر الفزاري مدداً لهم وهم في ثنية ضيقة ، ثم علوت الجبل فأنا فوقهم فقال عيينه: ما هذا الذي أرى ؟ قالوا لقينا من هذا البرح ما فارقنا بسحر حتى الآن وأخذ كل شيء بأيدينا وجعله وراء ظهره . فقال عيينة : لولا أن هذا يرى أن وراءه طلباً لقد ترككم ، ليقم إليه نفر منكم . فقام إليه نفر منهم أربعة فصعدوا في الجبل ، فلما أسمعتهم الصوت قلت أتعرفونني ؟ قالوا : ومن أنت ؟ قلت : أنا ابن الأكوع ، والذي كرم وجه محمد لا يطلبني رجل منكم فيدركني ولا أطلبه فيفوتني . فقال رجل منهم : إن أظن .
قال : فما ربحت مقعدي ذلك حتى نظر إلى فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يخللون الشجر وإذا أولهم الاخرم الأسدي ، وعلي أثره أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أثره المقداد بن الأسود الكندي ، فولي المشركين مدبرين ، وأنزل من الجبل فأخذ عنان فرسه ، فقلت : يا أخرم أئذن القوم ـ يعني أحذرهم ـ فإني لا آمن أن يقتطعوك فاتئد حتى يلحق رسول الله ، وأصحابه . قال : يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق فلا تحل بيني وبين الشهادة ! قال : فخليت عنان فرسه فيلحق بعبد الرحمن بن عيينة ويعطف عليه عبد الرحمن ، فأختلفا طعنتين ،فعقر الأخرم بعبد الرحمن وطعنه عبد الرحمن فقتله , فتحول عبدالرحمن على فرس الأخرم , فيلحق أبو قتادة بعبدالرحمن فاختلفا طعنتين فعقر بأبي قتادة وقتله أبو قتادة ،
وتحول أبو قتادة على فرس الأخرم ، ثم إني خرجت أعدو في أثر القوم حتى ما أرى من غبار صحابة النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ،ويعرضون قبل غيبوبة الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له ذو قرد ، فأرادوا أن يشربوا منه فإبصروني أعدو وراءهم فعطفواعنه وأسندوا في الثنية ذي بئر وغربت الشمس ، وألحق رجلا فارميه فقلت : خذها وأنا أبن الأكوع واليوم يوم الرضع .قال : فقال : يا ثُكل أم أكوع بكرة . فقلت : نعم أي عدو نفسه . وكان الذي رميته بكره ، وأتبعته سهما آخر فعلق به سهمان ، ويخلفون فرسين فجئت بهما أسوقهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي أجليتهم عنه ذو قرد وإذا بنبي الله صلى الله عليه وسلم في خمسمائة وإذا بلال قد نحر جزوراً مما خلفت فهو يشوى لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله خلنى فأنتحب من أصحاب مائة فآخذ على الكفار بالعشوة فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته ، فقال " أكنت فاعلا ذلك يا سلمة " ؟ قال : قلت : نعم والذي أكرمك .
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه في ضوء النار ثم قال : " إنهم يقرون الآن بأرض غطفان " . فجاء رجل من غطفان فقال : مروا على فلان الغطفاني فنحر لهم جزوراً فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة فتركوها وخرجوا هرابا فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير فرساننا أبو قتادة ، وخير رجالتنا سلمة" فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل جميعاً ، ثم أردفني وراءه علىالعضباء راجعين إلى المدينة ، فلما كان بيننا وبينها قريب من ضحوة وفي القوم رجل من الأنصار كان لا يسبق جعل ينادي : هل من مسابق ، ألا رجل يسابق إلىالمدينة؟ فأعاد ذلك مراراً وأنا وراء رسول الله ، مردفي فقلت له : أما تكرم كريما ولا تهاب شريفاً ؟ قال : لا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي خلني فلأ سابق الرجل . قال : " إن شئت " قلت أذهب إليك فطفر عن راحلته وثنيت رجلي فطفرت عن الناقة , ثم أني ربطت عليه شرفا أو شرفين يعني استبقيت من نفسي ، ثم إني عدوت حتىألحقه فاصك بين كتفيه بيدي قلت : سبقتك والله أو كلمة نحوها قال: فضحك وقال : أن أظن حتى قدمنا المدينة .
غريب القصة:
ـ أندية :أن يورد الماشية الماء فتسقي قليلاً ثم ترسل في المراعي ثم ترد الماء فترد قليلا ثم ترد المرعى ( 12/178 نووي ) .
ـ واليوم يوم الرضع: أي يوم هلاك اللئام وهو الرضع من قولهم لئيم راضع أي رضع اللؤم في بطن أمه , وقيل لأنه يمص حلمة الشاة والناقة لئلا يسمع السؤال والضيفان صوت الحلاب فيقصدوه، وقيل معناه اليوم يعرف من رضع كريمة فأنجيته ، أولئيمة فهجنته ، وقيل ومعناه اليوم يعرف من أرضعته الحرب من صغره وتدرب بها ويعرف غيره ( النووي 12/174) .
ـ تضايقت الثنيا : أي استتروا بمكان ضيق .
ـ ثينة ضيقة : الثنية العقبة والطريق في الجبل أي حتى أتوا طريقاً في الجبل ضيقة .
ـ البرج : الشدة .
ـ يخللون : أي يدخلون بينها .
ـ يقرون: أي من القرى وهي الضيافة .
ـ العضباء : هو لقب ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويأتي الكلام عنها في القصة القادمة .
ـ فطفرت عن الناقة : أي وثب .
ـ إن أظن : أي أطن ذلك .
الفوائد والعبر :
1- جواز الإنذار بالعدو ونحو .
2- جواز تعريف الإنسان بنفسه إذا كان شجاعا ليرعب خصمه .
3- جواز الإعارة .
4- من معجزات الرسول إخباره صلى الله عليه وسلم بأنهم يقرون في غطفان وكان كذلك .
5- بعث الطلائع .
6- جواز المسابقة علىالأرجل بلا عوض .
7- من مناقب سلمة بن الأكوع وأبي قتادة والاخرم الأسدي رضي الله عنهم .
8- جواز الثناء على من فعل جميلاً واستحباب ذلك إن ترتب عليه مصلحة .
9- جواز عقر خيل العدو في القتال .
10- استحباب الرجز في الحرب .
11- جواز قول الرامي والطاعن والضارب صنيعا جميلا في الحرب .
12- جواز الإرداف على الدابة المطيقة .
ما كانت الصحابة رضي الله عنهم عليه من حب الشهادة والحرص عليها .