ذكر حكم رسول الله في الرضاعة وما يحرم بها وما لا يحرم وحكمه في القدر المحرم وحكمه في إرضاع الكبير هل له تأثير أم لا
ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها عنه أنه قال إن الرضاعة تحرم ما الولادة وثبت فيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي أريد على ابنة حمزة فقال لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة ويحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم
وثبت فيهما أنه قال لعائشة رضي الله عنها ائذني لأفلح أخي أبي القعيس فإنه عمك امرأته أرضعت عائشة رضي الله عنها وبهذا أجاب ابن عباس لما سئل عن رجل له جاريتان أرضعت إحداهما جارية والأخرى أيحل للغلام أن يتزوج الجارية قال لا اللقاح واحد
وثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي لا تحرم المصة والمصتان
وفي رواية لا تحرم الإملاجة والإملاجتان وفي لفظ له أن رجلا قال يا رسول الله هل تحرم الرضعة الواحدة قال لا وثبت في صحيحه أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت كان فيما نزل من القرآن عشر معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله وهن فيما يقرأ من وثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي قال إنما الرضاعة من وثبت في جامع الترمذي من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله قال لا يحرم الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام وقال الترمذي حديث صحيح
وفي سنن الدارقطني بإسناد صحيح عن ابن عباس يرفعه لا رضاع إلا ما كان في الحولين
وفي سنن أبي داود من حديث ابن مسعود يرفعه لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم العظم وثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه فقال النبي تحرمي عليه وفي رواية له عنها قالت جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله فقالت يا رسول الله أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه فقال النبي أرضعيه فقالت وكيف وهو رجل كبير فتبسم رسول الله وقال قد علمت أنه كبير وفي لفظ لمسلم أن أم سلمة رضي الله عنها قالت لعائشة رضي الله عنها إنه يدخل عليك الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي فقالت عائشة رضي الله عنها أما لك في رسول أسوة إن امرأة أبي حذيفة قالت يا رسول الله إن سالما يدخل علي وهو رجل وفي
وفي سنن الدارقطني بإسناد صحيح عن ابن عباس يرفعه لا رضاع إلا ما كان في الحولين وفي سنن أبي داود من حديث ابن مسعود يرفعه لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم العظم وثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه فقال النبي تحرمي عليه وفي رواية له عنها قالت جاءت سهلة بنت سهيل إلى رسول الله فقالت يا رسول الله أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه فقال النبي أرضعيه فقالت وكيف وهو رجل كبير فتبسم رسول الله وقال قد علمت أنه كبير
وفي لفظ لمسلم أن أم سلمة رضي الله عنها قالت لعائشة رضي الله عنها إنه يدخل عليك الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي فقالت عائشة رضي الله عنها أما لك في رسول أسوة إن امرأة أبي حذيفة قالت يا رسول الله إن سالما يدخل علي وهو رجل وفي هذه السنن الثابتة أحكاما عديدة بعضها متفق عليه بين الأمة وفي بعضها نزاع الحكم الأول قوله الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة وهذا الحكم متفق عليه بين الأمة عند من قال إن الزيادة على النص نسخ والقرآن لا ينسخ بالسنة فإنه اضطر إلى هذا الحكم وإن كان زائدا على ما في القرآن سواء سماه نسخا أو لم يسمه كما إلى تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها مع أنه زيادة على نص وذكرها هذا مع حديث أبي القعيس في تحريم لبن الفحل على أن المرضعة والزوج اللبن قد صارا أبوين للطفل وصار الطفل ولدا لهما فانتشرت الحرمة من هذه الثلاث فأولاد الطفل وإن نزلوا أولاد ولدهما وأولاد كل واحد من المرضعة من الآخر ومن غيره إخوته وأخواته من الجهات الثلاث فأولاد أحدهما من الآخر وأخواته لأبيه وأمه وأولاد الزوج من غيرها إخوته وأخواته من أبيه وأولاد من غيره إخوته وأخواته لأمه وصار آباؤها أجداده وجداته وصار إخوة المرأة أخواله وخالاته وإخوة صاحب اللبن وأخواته أعمامه وعماته فحرمة الرضاع من هذه الجهات الثلاث فقط ولا يتعدى التحريم إلى غير المرتضع ممن هو في درجته من إخوته وأخواته فيباح لأخيه من أرضعت أخاه وبناتها وأمهاتها ويباح لأخته نكاح صاحب اللبن وأباه وبنيه لا ينتشر إلى من فوقه من آبائه وأمهاته ومن في درجته من أعمامه وعماته وخالاته فلأبي المرتضع من النسب وأجداده أن ينكحوا أم الطفل من الرضاع وأخواتها وبناتها وأن ينكحوا أمهات صاحب اللبن وأخواته وبناته إذ نظير من النسب حلال فللأخ من الأب أن يتزوج أخت أخيه من الأم وللأخ من الأم أن ينكح أخيه من الأب وكذلك ينكح الرجل أم ابنه من النسب وأختها وأما أمها وبنتها حرمتا بالمصاهرة وهل يحرم نظير المصاهرة بالرضاع فيحرم عليه أم امرأته من الرضاع وبنتها من وامرأة ابنه من الرضاعة أو يحرم الجمع بين الأختين من الرضاعة أو بين وعمتها وبينها وبين خالتها من الرضاعة فحرمه الأئمة الأربعة وأتباعهم وتوقف شيخنا
وقال إن كان قد قال أحد بعدم التحريم فهو أقوى قال المحرمون تحريم هذا يدخل في قوله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب فأجرى مجرى النسب وشبهها به فثبت تنزيل ولد الرضاعة وأبي الرضاعة منزلة ولد وأبيه فما ثبت للنسب من التحريم ثبت للرضاعة فإذا حرمت امرأة الأب والابن المرأة وابنتها من النسب حرمن بالرضاعة وإذا حرم الجمع بين أختي النسب حرم بين الرضاعة هذا تقدير احتجاجهم على التحريم قال شيخ الإسلام الله سبحانه حرم بالنسب وسبعا بالصهر كذا قال ابن عباس قال ومعلوم أن تحريم الرضاعة لا يسمى وإنما يحرم منه ما يحرم من النسب والنبي قال يحرم من الرضاعة ما يحرم من وفي رواية ما يحرم من ولم يقل وما يحرم بالمصاهرة ولا ذكره الله سبحانه في كتابه كما ذكر تحريم ولا ذكر تحريم الجمع في الرضاع كما ذكره في النسب والصهر قسيم النسب وشقيقه الله تعالى ( وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا ) الفرقان 54 بين الناس بالنسب والصهر وهما سببا التحريم والرضاع فرع على النسب ولا المصاهرة إلا بين الأنساب
والله تعالى إنما حرم الجمع بين الأختين وبين وعمتها وبينها بين خالتها لئلا يفضي إلى قطيعة الرحم المحرمة ومعلوم أن من الرضاع ليس بينهما رحم محرمة في غير النكاح ولا ترتب على ما بينهما من الرضاع حكم قط غير تحريم أحدهما على الآخر فلا يعتق عليه بالملك ولا يرثه ولا النفقة عليه ولا يثبت له عليه ولاية النكاح ولا الموت ولا يعقل عنه ولا يدخل الوصية والوقف على اقاربه وذوي رحمه ولا يحرم التفريق بين الأم وولدها الصغير الرضاعة ويحرم من النسب والتفريق بينهما في الملك كالجمع بينهما في النكاح سواء ملك شيئا من المحرمات بالرضاع لم يعتق عليه بالملك وإذا حرمت على الرجل أمه وأخته وعمته وخالته من الرضاعة لم يلزم أن يحرم عليه أم امرأته التي أرضعت فإنه لا نسب بينه وبينها ولا مصاهرة ولا رضاع والرضاعة إذا جعلت كالنسب في لا يلزم أن تكون مثله في كل حكم بل ما افترقا فيه من الأحكام أضعاف ما اجتمعا منها وقد ثبت جواز الجمع بين اللتين بينهما مصاهرة محرمة كما جمع عبدالله بن بين امرأة علي وابنته من غيرها وإن كان بينهما تحريم يمنع جواز نكاح أحدها لو كان ذكرا فهذا نظير الأختين من الرضاعة سواء لأن سبب تحريم النكاح بينهما أنفسهما ليس بينهما وبين منهما الذي لا رضاع بينه وبينهما ولا صهر وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم واحتج أحمد بأن عبدالله بن جعفر جمع بين امرأة علي وابنته ولم ينكر ذلك أحد قال وجمع الحسن بن الحسن بن علي بين بنتي عم في ليلة وجمع عبدالله بن جعفر بين علي وابنته وقال ابن شبرمة لا بأس به وكرهه الحسن مرة ثم قال لا بأس به جابر بن زيد للقطيعة وليس فيه تحريم لقوله عز وجل ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) 24
هذا كلام البخاري وبالجملة فثبوت أحكام النسب من وجه لا يستلزم ثبوتها من كل وجه أو من وجه آخر نساء النبي هن أمهات المؤمنين في التحريم والحرمة فقط لا في المحرمية لأحد أن يخلو بهن ولا ينظر إليهن بل قد أمرهن الله بالإحتجاب عمن حرم عليه من غير أقاربهن ومن بينهن وبينه رضاع فقال تعالى ( وإذا سألتموهن متاعا من وراء حجاب ) الأحزاب 53 ثم هذا الحكم لا يتعدى إلى أقاربهن ألبتة فليس أخوات المؤمنين يحرمن على رجالهم ولا بنوهن إخوة لهم يحرم عليهن بناتهن ولا وإخوتهن خالات وأخوالا بل هن حلال للمسلمين باتفاق المسلمين وقد كانت أم أخت ميمونة زوج رسول الله تحت العباس وكانت بنت أبي بكر أخت عائشة رضي الله عنها تحت الزبير وكانت أم عائشة رضي الله تحت أبي بكر وأم حفصة تحت عمر رضي الله عنه وليس لرجل أن يتزوج أمة وقد تزوج بن عمر وإخوته وأولاد أبي بكر وأولاد أبي سفيان من المؤمنات ولو كانوا لهن لم يجز أن ينكحوهن فلم تنتشر الحرمة من أمهات المؤمنين إلى أقاربهن لزم من ثبوت حكم من أحكام النسب بين الأمة وبينهن ثبوت غيره من الأحكام ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى في المحرمات ( وحلائل أبنائكم الذين من ) النساء 23
ومعلوم أن لفظ الابن إذا أطلق لم يدخل فيه ابن الرضاع فكيف إذا قيد بكونه ابن صلب إخراج ابن التبني بهذا لا يمنع إخراج ابن الرضاع ويوجب دخوله وقد ثبت في أن النبي أمر سهلة بنت سهيل أن ترضع سالما مولى أبي حذيفة ليصير محرما فأرضعته بلبن أبي حذيفة زوجها وصار ابنها ومحرمها بنص رسول الله سواء كان الحكم مختصا بسالم أو عاما كما قالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فبقي محرما لها لكونها أرضعته وصارت أمه ولم يصر محرما لها لكونها امرأة أبيه من فإن هذا لا تأثير فيه لرضاعة سهلة له بل لو أرضعته جارية له أو امرأة أخرى سهلة امرأة أبيه وإنما التأثير لكونه ولدها نفسها وقد علل بهذا في الحديث ولفظه فقال النبي أرضعيه فأرضعته خمس رضعات وكان بمنزلة ولدها من الرضاعة يمكن دعوى الإجماع في هذه المسألة ومن ادعاه فهو كاذب فإن سعيد بن وأبا سلمة بن عبدالرحمن وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار وأبا قلابة لم يثبتون التحريم بلبن الفحل وهو مروي عن الزبير وجماعة من الصحابة كما سيأتي شاء الله تعالى وكانوا يرون أن التحريم إنما هو من قبل الأمهات فقط فهؤلاء إذا يجعلوا المرتضع من لبن الفحل ولدا له فأن لا يحرموا عليه امرأته ولا على امرأة الفحل بطريق الأولى فعلى قول هؤلاء فلا يحرم على المرأة أبو زوجها من ولا ابنه من الرضاعة فإن قيل هؤلاء لم يثبتوا البنوة بين المرتضع وبين الفحل فلم تثبت المصاهرة لأنها ثبوت بنوة الرضاع فإذا لم تثبت له لم يثبت فرعها وأما من أثبت بنوة الرضاع من الفحل كما دلت عليه السنة الصحيحة الصريحة وقال به جمهور أهل الإسلام فإنه المصاهرة بهذه البنوة فهل قال أحد ممن ذهب إلى التحريم بلبن الفحل إن زوجة وابنه من الرضاعة لا تحرم
قيل المقصود أن في تحريم هذه نزاعا وأنه ليس مجمعا عليه وبقي النظر في مأخذه هل إلغاء لبن الفحل وأنه لا تأثير له أو إلغاء المصاهرة من جهة الرضاع وأنه لا لها وإنما التأثير لمصاهرة النسب ولا شك أن المأخذ الأول باطل لثبوت السنة الصريحة بالتحريم بلبن الفحل وقد بينا لا يلزم من القول بالتحريم به إثبات المصاهرة به إلا بالقياس وقد تقدم أن بين الأصل والفرع أضعاف أضعاف الجامع وأنه لا يلزم من ثبوت حكم من أحكام ثبوت حكم آخر ويدل على هذا أيضا أنه سبحانه لم يجعل أم الرضاع وأخت الرضاعة داخلة تحت أمهاتنا فإنه سبحانه قال ( حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم ) النساء 23 ثم ( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ) النساء 23 فدل على أن لفظ عند الإطلاق إنما يراد به الأم من النسب وإذا ثبت هذا فقوله تعالى ( وأمهات نسائكم ) مثل قوله ( وأمهاتكم ) إنما هن أمهات نسائنا من النسب فلا يتناول من الرضاعة ولو أريد تحريمهن لقال وأمهاتهن اللاتي أرضعنهن كما ذكر ذلك في وقد بينا أن قوله يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب إنما يدل على أن من على الرجل من النسب حرم عليه نظيره من الرضاعة ولا يدل على أن من حرم عليه أو بالجمع حرم عليه نظيره من الرضاعة بل يدل مفهومه على خلاف ذلك مع عموم ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) النساء 24 ومما يدل على أن تحريم امرأة أبيه وابنه من الرضاعة ليس مسألة إجماع أنه قد ثبت جماعة من السلف جواز نكاح بنت امرأته إذا لم تكن في حجره كما صح عن مالك بن أوس الحدثان النصري قال كانت عندي امرأة وقد ولدت لي فتوفيت فوجدت عليها فلقيت علي بن أبي رضي الله عنه قال لي مالك قلت توفيت المرأة قال لها ابنة قلت نعم قال كانت في قلت لا هي في الطائف قال فانكحها قلت فأين قوله تعالى ( وربائبكم اللاتي في من نسائكم ) النساء 23 قال إنها لم تكن في حجرك وإنما ذلك إذا كانت في حجرك
وصح عن إبراهيم بن ميسرة أن رجلا من بني سواءة يقال له عبيدالله بن معبد أثنى خيرا أخبره أن أباه أو جده كان قد نكح امرأة ذات ولد من غيره ثم اصطحبا ما الله ثم نكح امرأة شابة فقال أحد بني الأولى قد نكحت على أمنا وكبرت واستغنيت بامرأة شابة فطلقها قال لا والله إلا أن تنكحني ابنتك قال فطلقها وأنكحه ولم تكن في حجره هي ولا أبوها قال فجئت سفيان بن عبدالله فقلت استفت لي عمر الخطاب رضي الله عنه قال لتحجن معي فأدخلني على عمر رضي الله عنه بمنى فقصصت الخبر فقال عمر لا بأس بذلك فاذهب فسل فلانا ثم تعال فأخبرني قال ولا أراه عليا قال فسألته فقال لا بأس بذلك وهذا مذهب أهل الظاهر فإذا كان عمر وعلي رضي عنهما ومن يقول بقولهما قد أباحا الربيبة إذا لم تكن في حجر الزوج مع أنها امرأته من النسب فكيف يحرمان عليه ابنتها من الرضاع وهذه ثلاثة قيود ذكرها سبحانه وتعالى في تحريمها أن تكون في حجره وأن تكون من امرأته وأن يكون قد بأمها فكيف يحرم عليه مجرد ابنتها من الرضاعة وليست في حجره ولا هي ربيبته لغة الربيبة بنت الزوجة والربيب ابنها باتفاق الناس وسميا ربيبا وربيبة لأن زوج يربهما في العادة وأما من أرضعتهما امرأته بغير لبنه ولم يربها قط ولا كانت حجره فدخولها في هذا النص في غاية البعد لفظا ومعنى وقد أشار النبي بتحريم بكونها في الحجر ففي صحيح البخاري من حديث الزهري عن عروة أن زينب بنت أم أخبرته أن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت يا رسول الله أخبرت أنك تخطب بنت أبي سلمة فقال بنت أم سلمة قالت فقال إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري لما حلت لي وهذا يدل على اعتباره القيد قيده الله في التحريم وهو أن تكون في حجر الزوج ونظير هذا سواء أن يقال في زوجة ابن الصلب إذا كانت محرمة برضاع لو لم تكن حليلة الذي لصلبي لما حلت لي سواء ولا فرق بينهما وبالله التوفيق
فصل
الحكم الثاني المستفاد من هذه السنة أن لبن الفحل يحرم وأن التحريم ينتشر منه كما من المرأة وهذا هو الحق الذي لا يجوز أن يقال بغيره وإن خالف فيه من خالف من ومن بعدهم فسنة رسول الله أحق أن تتبع ويترك ما خالفها لأجلها ولا تترك لأجل قول أحد كائنا من كان ولو تركت السنن لخلاف من خالفها لعدم بلوغها له أو أو غير ذلك لترك سنن كثيرة جدا وتركت الحجة إلى غيرها وقول من يجب اتباعه قول من لا يجب اتباعه وقول المعصوم إلى قول غير المعصوم وهذه بلية نسأل الله منها وأن لا نلقاه بها يوم القيامة قال الأعمش كان عمارة وإبراهيم وأصحابنا لا يرون بلبن بأسا حتى أتاهم الحكم بن عتيبة بخبر أبي القعيس يعني فتركوا قولهم ورجعوا وهكذا يصنع أهل العلم إذا أتتهم السنة عن رسول الله رجعوا إليها وتركوا بغيرها قال الذين لا يحرمون بلبن الفحل إنما ذكر الله سبحانه في كتابه التحريم بالرضاعة جهة الأم فقال
قال الجمهور ليس فيما ذكرتم ما يعارض السنة الصحيحة الصريحة فلا يجوز العدول عنها القرآن فإنه بين أمرين إما أن يتناول الأخت من الأب من الرضاعة فيكون دالا على وإما أن لا يتناولها فيكون ساكتا عنها فيكون تحريم السنة لها تحريما ومخصصا لعموم قوله ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) النساء 24 والظاهر يتناول لفظ لها فإنه سبحانه عمم لفظ الأخوات من الرضاعة فدخل فيه كل من أطلق عليها أخته يجوز أن يقال إن أخته من أبيه من الرضاعة ليست أختا له فإن النبي قال لعائشة الله عنها ائذني لأفلح فإنه عمك فأثبت العمومة بينها وبينه بلبن الفحل وحده ثبتت العمومة بين المرتضعة وبين أخي صاحب اللبن فثبوت الأخوة بينها وبين ابنه الأولى أو مثله فالسنة بينت مراد الكتاب لا أنها خالفته وغايتها أن تكون أثبتت تحريم ما سكت عنه تخصيص ما لم يرد عمومه وأما قولكم إن أصحاب رسول الله لا يرون التحريم بذلك فدعوى باطلة على جميع فقد صح عن علي رضي الله عنه إثبات التحريم به وذكر البخاري في صحيحه أن عباس سئل عن رجل كانت له امرأتان أرضعت إحداهما جارية والأخرى غلاما أيحل أن فقال ابن عباس لا اللقاح واحد وهذا الأثر الذي استدللتم به صريح عن الزبير كان يعتقد أن زينب ابنته بتلك الرضاعة وهذه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كانت تفتي أن لبن الفحل ينشر الحرمة فلم يبق بأيديكم عبدالله بن الزبير وأين يقع من هؤلاء وأما الذين سألتهم فأفتوها بالحل فمجهولون غير مسمين ولم يقل الراوي فسألت أصحاب الله وهم متوافرون بل لعلها أرسلت فسألت من لم تبلغه السنة الصحيحة منهم بما أفتاها به عبدالله بن الزبير ولم يكن الصحابة إذ ذاك متوافرين بل كان معظمهم وأكابرهم بالشام والعراق ومصر وأما قولكم إن الرضاعة إنما هي من جهة الأم فالجواب أن يقال إنما اللبن للأب الذي بوطئه والأم وعاء له وبالله التوفيق
فإن قيل فهل تثبت أبوة صاحب اللبن وإن لم تثبت أمومة المرضعة أو ثبوت أبوته فرع ثبوت أمومة المرضعة قيل هذا الأصل فيه قولان للفقهاء وهما وجهان في مذهب أحمد والشافعي وعليه مسألة له أربع زوجات فأرضعن طفلة كل واحدة منهن رضعتين فإنهن لا يصرن أما لها لأن كل منهم لم ترضعها خمس رضعات وهل يصير الزوج أبا للطفلة فيه وجهان أحدهما لا أبا كما لم تصر المرضعات أمهات والثاني وهو الأصح يصير أبا لكون الولد ارتضع لبنه خمس رضعات ولبن الفحل أصل بنفسه غير متفرع على أمومة المرضعة فإن الأبوة تثبت بحصول الإرتضاع من لبنه لا لكون المرضعة أمه ولا يجيء هذا على أصلي أبي ومالك فإن عندهما قليل الرضاع وكثيره محرم فالزوجات الأربع أمهات للمرتضع قلنا بثبوت الأبوة وهو الصحيح حرمت المرضعات على الطفل لأنه ربيبهن وهن أبيه فهو ابن وإن قلنا لا تثبت الأبوة لم يحرمن عليه بهذا الرضاع وعلى هذه المسألة ما لو كان لرجل خمس بنات فأرضعن طفلا كل واحدة رضعة لم يصرن له وهل يصير الرجل جدا له وأولاده الذين هم إخوة المرضعات أخوالا له وخالات وجهين أحدهما يصير جدا وأخوهن خالا لأنه قد كمل المرتضع خمس رضعات من لبن فصار جدا كما لو كان المرتضع بنتا واحدة وإذا صار جدا كان أولاده الذين هم البنات أخوالا وخالات لأنهن إخوة من كمل له منهن خمس رضعات فنزلوا بالنسبة منزلة أم واحدة والآخر لا يصير جدا ولا أخواتهن خالات لأن كونه جدا فرع على ابنته أما وكون أخيها خالا فرع على كون أخته أما ولم يثبت الأصل فلا يثبت فرعه الوجه أصح في هذه المسألة بخلاف التي قبلها فإن ثبوت الأبوة فيها لا يستلزم الأمومة على الصحيح
والفرق بينهما أن الفرعية متحققة في هذه المسألة بين وأبيهن فإنهن بناته واللبن ليس له فالتحريم هنا بين المرضعة وابنها فإذا تكن أما لم يكن أبوها جدا بخلاف تلك فإن التحريم بين المرتضع وبين صاحب اللبن ثبتت أمومة المرضعة أولا فعلى هذا إذا قلنا يصير أخوهن خالا فهل تكون كل منهن خالة له فيه وجهان أحدهما لا تكون خالة لأنه لم يرتضع من لبن أخواتها رضعات فلا تثبت الخؤولة والثاني تثبت لأنه قد اجتمع من اللبن المحرم خمس رضعات ما ارتضع منها ومن أخواتها مثبتا للخؤولة ولا تثبت أمومة واحدة منهن إذ لم منها خمس رضعات ولا يستبعد ثبوت خؤولة بلا أمومة كما ثبت في لبن الفحل أبوة أمومة وهذا ضعيف بينهما أن الخؤولة فرع محض على الأمومة فإذا لم يثبت الأصل فكيف يثبت فرعه الأبوة والأمومة فإنهما أصلان لا يلزم من انتفاء أحدهما انتفاء الآخر وعلى هذا مسألة ما لو كان لرجل أم وأخت وابنة وزوجة ابن فأرضعن طفلة كل واحدة رضعة لم تصر واحدة منهن أمها وهل تحرم على الرجل على وجهين أوجههما ما تقدم هاهنا بعيد فإن هذا اللبن الذي كمل للطفل لا يجعل الرجل أبا له ولا جدا أخا ولا خالا والله أعلم
فصل
وقد دل التحريم بلبن الفحل على تحريم المخلوقة من ماء الزاني دلالة الأولى لأنه إذا حرم عليه أن ينكح من قد تغذت بلبن ثار بوطئه فكيف يحل له أن ينكح قد خلق من نفس مائه بوطئه وكيف يحرم الشارع بنته من الرضاع لما فيها من لبن كان الرجل سببا فيه ثم يبيح له نكاح من خلقت بنفس وطئه ومائه هذا من المستحيل فإن التي بينه وبين المخلوقة من مائه أكمل وأتم من البعضية التي بينه وبين من بلبنه فإن بنت الرضاع فيها جزء ما من البعضية والمخلوقة من مائه كاسمها مخلوقة مائه فنصفها أو أكثرها بعضه قطعا والشطر الآخر للأم وهذا قول جمهور المسلمين يعرف في الصحابة من أباحها ونص الإمام أحمد رحمه الله على أن من تزوجها قتل محصنا كان أو غيره وإذا كانت بنته من الرضاعة بنتا في حكمين فقط
والمحرمية وتخلف سائر أحكام البنت عنها لم تخرجها عن التحريم وتوجب حلها بنته من الزنى تكون بنتا في التحريم وتخلف أحكام البنت عنها لا يوجب حلها سبحانه خاطب العرب بما تعقله في لغاتها ولفظ البنت لفظ لغوي لم ينقله الشارع موضعه الأصلي كلفظ الصلاة والإيمان ونحوهما فيحمل على موضوعه اللغوي حتى يثبت الشارع له عنه إلى غيره فلفظ البنت كلفظ الأخ والعم والخال ألفاظ باقية على اللغوية وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أنطق ابن الراعي الزاني بقوله فلان الراعي وهذا الإنطاق لا يحتمل الكذب وأجمعت الأمة على تحريم أمه عليه من مائها وماء الزاني خلق واحد وإثمهما فيه سواء وكونه بعضا له مثل كونه لها وانقطاع الإرث بين الزاني والبنت لا يوجب جواز نكاحها ثم من العجب كيف صاحب هذا القول أن يستمني الإنسان بيده ويقول هو نكاح ليده ويجوز للإنسان أن بعضه ثم يجوز له أن يستفرش بعضه الذي خلقه الله من مائه وأخرجه من صلبه كما الأجنبية
فصل
والحكم الثالث أنه لا تحرم المصة والمصتان كما نص عليه رسول الله ولا يحرم إلا رضعات وهذا موضع اختلف فيه العلماء فأثبتت طائفة من السلف والخلف التحريم الرضاع
وهذا يروى عن علي وابن عباس وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والزهري وقتادة وحماد والأوزاعي والثوري وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وزعم الليث بن سعد أن أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيرة يحرم في المهد ما يفطر به الصائم وهذا عن الإمام أحمد رحمه الله وقالت طائفة أخرى لا يثبت التحريم بأقل من ثلاث وهذا قول أبي ثور وأبي عبيد وابن المنذر وداود بن علي وهو رواية ثانية عن وقالت طائفة أخرى لا يثبت بأقل من خمس رضعات وهذا قول عبدالله بن مسعود وعبدالله الزبير وعطاء وطاووس وهو إحدى الروايات الثلاث عن عائشة رضي الله عنها والرواية عنها أنه لا يحرم أقل من سبع والثالثة لا يحرم أقل من عشر والقول بالخمس الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه وهو قول ابن حزم وخالف داود في هذه المسألة فحجة الأولين أنه سبحانه علق التحريم باسم الرضاعة فحيث وجد اسمها وجد حكمها قال يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب وهذا موافق لإطلاق القرآن
وثبت في الصحيحين عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة فقالت قد أرضعتكما فذكر ذلك للنبي فأعرض عني قال فتنحيت فذكرت ذلك له قال وقد زعمت أنها قد أرضعتكما فنهاه عنها ولم يسأل عن عدد الرضاع قالوا ولأنه فعل يتعلق به التحريم فاستوى قليله وكثيره كالوطء له قالوا ولأن إنشاز العظم وإنبات اللحم يحصل بقليله وكثيره قالوا ولأن العدد قد اختلفت أقوالهم في الرضعة وحقيقتها واضطربت أشد الإضطراب وما كان لم يجعله الشارع نصابا لعدم ضبطه والعلم به قال أصحاب الثلاث قد ثبت عن النبي أنه قال لا تحرم المصة والمصتان وعن أم الفضل الحارث قالت قال رسول الله لا تحرم الإملاجة والإملاجتان وفي حديث آخر أن قال يا رسول الله هل تحرم الرضعة الواحدة قال لا وهذه أحاديث صحيحة صريحة مسلم في صحيحه فلا يجوز العدول عنها فأثبتنا التحريم بالثلاث لعموم الآية التحريم بما دونها بصريح السنة قالوا ولأن ما يعتبر فيه العدد والتكرار فيه الثلاث قالوا ولأنها أول مراتب الجمع وقد اعتبرها الشارع في مواضع كثيرة قال أصحاب الخمس الحجة لنا ما تقدم في أول الفصل من الأحاديث الصحيحة الصريحة وقد عائشة رضي الله عنها أن رسول الله توفي والأمر على ذلك قالوا ويكفي في هذا النبي لسهلة بنت سهيل أرضعي سالما خمس رضعات تحرمي عليه قالوا وعائشة أعلم بحكم هذه المسألة هي ونساء النبي عائشة رضي الله عنها إذا أرادت أن يدخل عليها أحد أمرت إحدى بنات إخوتها أو فأرضعته خمس رضعات
قالوا ونفي التحريم بالرضعة والرضعتين صريح في عدم التحريم بقليل الرضاع وكثيره وهي ثلاثة أحاديث صحيحة صريحة بعضها خرج جوابا وبعضها تأسيس حكم مبتدأ قالوا وإذا علقنا التحريم بالخمس لم نكن قد خالفنا من النصوص التي استدللتم بها وإنما نكون قد قيدنا مطلقها بالخمس وتقييد بيان لا نسخ ولا تخصيص وأما من علق التحريم بالقليل والكثير فإنه يخالف أحاديث نفي التحريم بالرضعة وأما صاحب الثلاث فإنه وإن لم يخالفها فهو مخالف لأحاديث الخمس قال من لم يقيده بالخمس حديث الخمس لم تنقله عائشة رضي الله عنها نقل الأخبار به وإنما نقلته نقل القرآن والقرآن إنما يثبت بالتواتر والأمة لم تنقل ذلك فلا يكون قرآنا وإذا لم يكن قرآنا ولا خبرا امتنع إثبات الحكم به قال أصحاب الخمس الكلام فيما نقل من القرآن آحادا في فصلين أحدهما كونه من القرآن وجوب العمل به ولا ريب أنهما حكمان متغايران فإن الأول يوجب انعقاد الصلاة وتحريم مسه على المحدث وقراءته على الجنب وغير ذلك من أحكام القرآن فإذا انتفت الأحكام لعدم التواتر لم يلزم انتفاء العمل به فإنه يكفي فيه الظن وقد احتج كل من الأئمة الأربعة به في موضع فاحتج به الشافعي وأحمد في هذا الموضع واحتج به حنيفة في وجوب التتابع في صيام الكفارة بقراءة ابن مسعود فصيام ثلاثة أيام
به مالك والصحابة قبله في فرض الواحد من ولد الأم أنه السدس بقراءة أبي وإن رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما السدس فالناس احتجوا بهذه القراءة ولا مستند للإجماع سواها قالوا وأما قولكم إما أن يكون نقله قرآنا أو خبرا قلنا بل قرآنا صريحا قولكم فكان نقله متواترا قلنا حتى إذا نسخ لفظه أو بقي أما الأول فممنوع والثاني مسلم ما في الأمر أنه قرآن نسخ لفظه وبقي حكمه فيكون له حكم قوله الشيخ والشيخة زنيا فارجموهما مما اكتفى بنقله آحادا وحكمه ثابت وهذا مما لا جواب عنه وفي مذهبان آخران ضعيفان أحدهما أن التحريم لا يثبت بأقل من سبع كما سئل طاووس عن قول من يقول لا يحرم من دون سبع رضعات فقال قد كان ذلك ثم حدث بعد ذلك أمر جاء بالتحريم المرة تحرم وهذا المذهب لا دليل عليه الثاني التحريم إنما يثبت بعشر رضعات وهذا يروى عن حفصة وعائشة رضي الله عنهما وفيها مذهب آخر وهو الفرق بين أزواج النبي وغيرهن قال طاووس كان لأزواج النبي محرمات ولسائر الناس رضعات معلومات ثم ترك ذلك بعد وقد تبين الصحيح من هذه وبالله التوفيق
فصل
فإن قيل ما هي الرضعة التي تنفصل من أختها وما حدها قيل الرضعة فعلة من الرضاع مرة منه بلا شك كضربة وجلسة وأكلة فمتى التقم الثدي فامتص منه ثم تركه من غير عارض كان ذلك رضعة لأن الشرع ورد بذلك مطلقا فحمل على العرف هذا والقطع العارض لتنفس أو استراحة يسيرة أو لشيء يلهيه ثم يعود عن قرب لا عن كونه رضعة واحدة كما أن الآكل إذا قطع أكلته بذلك ثم عاد عن قريب لم يكن أكلتين بل واحدة هذا مذهب الشافعي ولهم فيما إذا قطعت المرضعة عليه ثم أعادته أحدهما أنها رضعة واحدة ولو قطعته مرارا حتى يقطع باختياره قالوا لأن بفعله لا بفعل المرضعة ولهذا لو ارتضع منها وهي نائمة حسبت رضعة فإذا عليه لم يعتد به كما لو شرع في أكلة واحدة أمره بها الطبيب فجاء شخص فقطعها ثم عاد فإنها أكلة واحدة والوجه الثاني أنها رضعة أخرى لأن الرضاع يصح من المرتضع ومن المرضعة ولهذا لو وهو نائم احتسب رضعة ولهم فيما إذا انتقل من ثدي المرأة إلى ثدي غيرها وجهان أحدهما لا يعتد بواحد لأنه انتقل من إحداهما إلى الأخرى قبل تمام الرضعة فلم تتم الرضعة من ولهذا لو انتقل من ثدي المرأة إلى ثديها الآخر كانا رضعة واحدة والثاني أنه يحتسب من كل واحد منهما رضعة لأنه ارتضع باختياره من شخصين وأما مذهب الإمام أحمد رحمه الله فقال صاحب المغني إذا قطع قطعا بينا باختياره ذلك رضعة فإن عاد كان رضعة أخرى فأما إن قطع لضيق نفس أو للإنتقال من ثدي الى ثدي أو يلهيه أو قطعت عليه المرضعة نظرنا فإن لم يعد قريبا فهي رضعة وإن عاد في ففيه وجهان أحدهما أن الأولى رضعة فإذا عاد فهي رضعة أخرى قال وهذا اختيار بكر وظاهر كلام أحمد في رواية حنبل فإنه قال أما ترى الصبي يرتضع من الثدي أدركه النفس أمسك عن الثدي ليتنفس أو ليستريح فإذا فعل ذلك فهي رضعة قال وذلك أن الأولى رضعة لو لم يعد فكانت رضعة وإن عاد كما لو قطع باختياره الآخر أن جميع ذلك رضعة وهو مذهب الشافعي إلا فيما إذا قطعت عليه المرضعة وجهان لأنه لو حلف لا أكلت اليوم إلا أكلة واحدة فاستدام الأكل زمنا أو انقطع ماء أو انتقال من لون إلى لون أو انتظار لما يحمل إليه من الطعام لم يعد إلا واحدة فكذا هاهنا والأول أصح لأن اليسير من السعوط والوجور رضعة فكذا هذا
قلت وكلام أحمد يحتمل أمرين أحدهما ما ذكره الشيخ ويكون قوله فهي رضعة عائدا إلى الثانية الثاني أن يكون المجموع رضعة فيكون قوله فهي رضعة عائدا إلى الأول وهذا أظهر محتمليه لأنه استدل بقطعه للتنفس أو الإستراحة على كونها رضعة ومعلوم أن هذا الإستدلال أليق بكون الثانية مع الأولى من كون الثانية رضعة مستقلة فتأمله وأما قياس الشيخ له على يسير السعوط والوجور فالفرق بينهما أن ذلك مستقل ليس لرضعة قبله ولا هو من تمامها فيقال رضعة بخلاف مسألتنا فإن الثانية تابعة وهي من تمامها فافترقا
فصل
والحكم الرابع أن الرضاع الذي يتعلق به التحريم ما كان قبل الفطام في زمن المعتاد وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال الشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد هو كان في الحولين ولا يحرم ما كان بعدهما وصح ذلك عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة عباس وابن عمر وروي عن سعيد بن المسيب والشعبي وابن شبرمة وهو قول سفيان وأبي عبيد وابن حزم وابن المنذر وداود وجمهور أصحابه وقالت طائفة الرضاع المحرم ما كان قبل الفطام ولم يحدوه بزمن صح ذلك عن أم سلمة عباس وروي عن علي ولم يصح عنه وهو قول الزهري والحسن وقتادة وعكرمة والأوزاعي الأوزاعي إن فطم وله عام واحد واستمر فطامه ثم رضع في الحولين لم يحرم هذا شيئا فإن تمادى رضاعه ولم يفطم فما كان في الحولين فإنه يحرم وما كان فإنه لا يحرم وإن تمادى الرضاع وقالت طائفة الرضاع المحرم ما كان في الصغر يوقته هؤلاء بوقت وروي هذا عن ابن عمر وابن المسيب وأزواج رسول الله خلا رضي الله عنها وقال أبو حنيفة وزفر ثلاثون شهرا وعن أبي حنيفة رواية أخرى أبي يوسف ومحمد وقال مالك في المشهور من مذهبه يحرم في الحولين وما قاربهما حرمة له بعد ذلك ثم روي عنه اعتبار أيام يسيرة وروي عنه شهران وروي شهر ونحوه عنه الوليد بن مسلم وغيره أن ما كان بعد الحولين من رضاع بشهر أو شهرين أو أشهر فإنه عندي من الحولين وهذا هو المشهور عند كثير من أصحابه والذي رواه أصحاب الموطأ وكان يقرأ عليه إلى أن مات قوله فيه وما كان من الرضاع بعد كان قليله وكثيره لا يحرم شيئا إنما هو بمنزلة الطعام هذا لفظه وقال إذا فصل قبل الحولين واستغنى بالطعام عن الرضاع فما ارتضع بعد ذلك لم يكن للرضاع
وقال الحسن بن صالح وابن أبي ذئب وجماعة من أهل الكوفة مدة الرضاع المحرم سنين فما زاد عليها لم يحرم وقال عمر بن عبدالعزيز مدته إلى سبع سنين وكان بن هارون يحكيه عنه كالمتعجب من قوله وروي عنه خلاف هذا وحكى عنه ربيعة أن حولان واثنا عشر يوما وقالت طائفة من السلف والخلف يحرم رضاع الكبير ولو أنه شيخ فروى مالك عن ابن شهاب سئل عن رضاع الكبير فقال أخبرني عروة بن الزبير بحديث أمر رسول الله سهلة سهيل برضاع سالم ففعلت وكانت تراه ابنا لها قال عروة فأخذت بذلك عائشة أم رضي الله عنها فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال فكانت تأمر أختها كلثوم وبنات أخيها يرضعن من أحبت أن يدخل عليها الرجال وقال عبدالرزاق حدثنا ابن جريج قال سمعت عطاء بن أبي رباح وسأله رجل فقال سقتني من لبنها بعد ما كنت رجلا كبيرا أفأنكحها قال عطاء لا تنكحها فقلت له وذلك قال نعم كانت عائشة رضي الله عنها تأمر بذلك بنات أخيها وهذا قول ثابت عن رضي الله عنها ويروى عن علي وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح وهو قول بن سعد وأبي محمد بن حزم قال ورضاع الكبير ولو أنه شيخ يحرم كما يحرم رضاع ولا فرق فهذه مذاهب الناس في هذه المسألة ولنذكر مناظرة أصحاب الحولين والقائلين برضاع الكبير فإنهما طرفان وسائر الأقوال قال أصحاب الحولين قال الله تعالى
قالوا وقد صح عنها أنها كانت تدخل عليها الكبير إذا أرضعته في حال كبره أخت من الرضاع المحرم ونحن نشهد بشهادة الله ونقطع قطعا نلقاه به يوم القيامة أن المؤمنين لم تكن لتبيح ستر رسول الله بحيث ينتهكه من لا يحل له انتهاكه ولم الله عز وجل ليبيح ذلك على يد الصديقة بنت الصديق المبرأة من فوق سبع سماوات عصم الله سبحانه ذلك الجناب الكريم والحمى المنيع والشرف الرفيع أتم عصمة أعظم صيانة وتولى صيانته وحمايته والذب عنه بنفسه ووحيه وكلامه قالوا فنحن ونقطع ونبت الشهادة لله بأن فعل عائشة رضي الله عنها هو الحق وأن رضاع الكبير به من التحريم والمحرمية ما يقع برضاع الصغير ويكفينا أمنا أفقه نساء الأمة الإطلاق وقد كانت تناظر في ذلك نساءه ولا يجبنها بغير قولهن ما أحد داخل بتلك الرضاعة ويكفينا في ذلك أنه مذهب ابن عم نبينا وأعلم أهل الأرض على حين كان خليفة ومذهب الليث بن سعد الذي شهد له الشافعي بأنه كان أفقه من إلا أنه ضيعه أصحابه ومذهب عطاء بن أبي رباح ذكره عبدالرزاق عن ابن جريج عنه مالك عن الزهري أنه سئل عن رضاع الكبير فاحتج بحديث سهلة بنت سهيل في قصة مولى أبي حذيفة وقال عبدالرزاق وأخبرني ابن جريج قال أخبرني عبدالكريم أن أبي الجعد المولى الأشجعي أخبره أن أباه أخبره أنه سأل علي بن أبي طالب رضي عنه فقال أردت أن أتزوج امرأة قد سقتني من لبنها وأنا كبير تداويت به فقال له لا تنكحها ونهاه عنها
فهؤلاء سلفنا في هذه المسألة وتلك نصوصنا كالشمس صحة وصراحة قالوا وأصرح أحاديثكم أم سلمة ترفعه لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل فما أصرحه لو كان سليما من العلة لكن هذا حديث منقطع لأنه من رواية فاطمة المنذر عن أم سلمة ولم تسمع منها شيئا لأنها كانت أسن من زوجها هشام باثني عشر فكان مولده في سنة ستين ومولد فاطمة في سنة ثمان وأربعين وماتت أم سلمة سنة وخمسين وفاطمة صغيرة لم تبلغها فكيف تحفظ عنها ولم تسمع من خالة أبيها شيئا في حجرها كما حصل سماعها من جدتها أسماء بنت أبي بكر قالوا وإذا نظر العالم المنصف في هذا القول ووازن بينه وبين قول من يحد مدة المحرم بخمسة وعشرين شهرا أو ستة وعشرين شهرا أو سبعة وعشرين شهرا أو شهرا من تلك الأقوال التي لا دليل عليها من كتاب الله أو سنة رسوله ولا قول من الصحابة تبين له فضل ما بين القولين فهذا منتهى أقدام الطائفتين في هذه ولعل الواقف عليها لم يكن يخطر له أن هذا القول تنتهي قوته إلى هذا الحد ليس بأيدي أصحابه قدرة على تقديره وتصحيحه فاجلس أيها العالم المنصف مجلس بين هذين المتنازعين وافصل بينهما بالحجة والبيان لا بالتقليد وقال فلان واختلف القائلون بالحولين في حديث سهلة هذا على ثلاثة مسالك أحدها أنه منسوخ وهذا كثير منهم ولم يأتوا على النسخ بحجة سوى الدعوى فإنهم لا يمكنهم إثبات المعلوم التأخر بينه وبين تلك الأحاديث ولو قلب أصحاب هذا القول عليهم وادعوا نسخ تلك الأحاديث بحديث سهلة لكانت نظير دعواهم
وأما قولهم إنها كانت في أول الهجرة وحين نزول قوله تعالى ( ادعوهم لآبائهم ) 5 ورواية ابن عباس رضي الله عنه وأبي هريرة بعد ذلك فجوابه من وجوه أحدها أنهما لم يصرحا بسماعه من النبي بل لم يسمع منه ابن عباس إلا دون العشرين وسائرها عن الصحابة رضي الله عنهم الثاني أن نساء النبي لم تحتج واحدة منهن بل ولا غيرهن على عائشة رضي الله عنها بل سلكن في الحديث بتخصيصه بسالم إلحاق غيره به الثالث أن عائشة رضي الله عنها نفسها روت هذا وهذا فلو كان حديث سهلة منسوخا عائشة رضي الله عنها قد أخذت به وتركت الناسخ أو خفي عليها تقدمه مع كونها الراوية له وكلاهما ممتنع وفي غاية البعد الرابع أن عائشة رضي الله عنها ابتليت بالمسألة وكانت تعمل بها وتناظر عليها إليها صواحباتها فلها بها مزيد اعتناء فكيف يكون هذا حكما منسوخا قد بطل من الدين جملة ويخفى عليها ذلك ويخفى على نساء النبي فلا تذكره لها واحدة المسلك الثاني أنه مخصوص بسالم دون من عداه وهذا مسلك أم سلمة ومن معها من نساء ومن تبعهن وهذا المسلك أقوى مما قبله فإن أصحابه قالوا مما يبين اختصاصه أن فيه أن سهلة سألت رسول الله بعد نزول آية الحجاب وهي تقتضي أنه لا يحل أن تبدي زينتها إلا لمن ذكر في الآية وسمي فيها ولا يخص من عموم من عداهم إلا بدليل قالوا والمرأة إذا أرضعت أجنبيا فقد أبدت زينتها له فلا يجوز ذلك بعموم الآية فعلمنا أن إبداء سهلة زينتها لسالم خاص به قالوا وإذا أمر رسول واحدا من الأمة بأمر أو أباح له شيئا أو نهاه عن شيء وليس في الشريعة ما ثبت ذلك في حق غيره من الأمة ما لم ينص على تخصيصه وأما إذا أمر الناس بأمر نهاهم عن شيء ثم أمر واحدا من الأمة بخلاف ما أمر به الناس أو أطلق له ما نهاهم فإن ذلك يكون خاصا به وحده ولا نقول في هذا الموضع إن أمره للواحد أمر للجميع
إباحة للجميع لأن ذلك يؤدي إلى إسقاط الأمر الأول والنهي الأول بل نقول إنه بذلك الواحد لتتفق النصوص وتأتلف ولا يعارض بعضها بعضا فحرم الله في كتابه أن زينتها لغير محرم وأباح رسول الله لسهلة أن تبدي زينتها لسالم وهو غير محرم إبداء الزينة قطعا فيكون ذلك رخصة خاصة بسالم مستثناة من عموم التحريم ولا إن حكمها عام فيبطل حكم الآية المحرمة قالوا ويتعين هذا المسلك لأنا لو لم نسلكه لزمنا أحد مسلكين ولا بد منهما إما هذا الحديث بالأحاديث الدالة على اعتبار الصغر في التحريم وإما نسخها به ولا إلى واحد من الأمرين لعدم العلم بالتاريخ ولعدم تحقق المعارضة ولإمكان العمل كلها فإنا إذا حملنا حديث سهلة على الرخصة الخاصة والأحاديث الأخر على فيما عدا سالما لم تتعارض ولم ينسخ بعضها بعضا وعمل بجميعها قالوا وإذا كان النبي قد بين أن الرضاع إنما يكون في الحولين وأنه إنما يكون في وإنما يكون قبل الفطام كان ذلك ما يدل على أن حديث سهلة على الخصوص سواء أو تأخر فلا ينحصر بيان الخصوص في قوله هذا لك وحدك حتى يتعين طريقا قالوا وأما تفسير حديث إنما الرضاعة من المجاعة بما ذكرتموه ففي غاية البعد من ولا تتبادر إليه أفهام المخاطبين بل القول في معناه ما قاله أبو عبيد والناس أبو عبيد قوله إنما الرضاعة من المجاعة يقول إن الذي إذا جاع كان طعامه الذي اللبن هو الصبي الرضيع فأما الذي شبعه من جوعه الطعام فإن رضاعه ليس برضاع ومعنى إنما الرضاع في الحولين قبل الفطام هذا تفسير أبي عبيد والناس وهو الذي فهمه من الحديث إلى الأذهان حتى لو احتمل الحديث التفسيرين على السواء لكان المعنى أولى به لمساعدة سائر الأحاديث لهذا المعنى وكشفها له وإيضاحها ومما أن غير هذا التفسير خطأ وأنه لا يصح أن يراد به رضاعة الكبير أن لفظة المجاعة تدل على رضاعة الصغير فهي تثبت رضاعة المجاعة وتنفي غيرها ومعلوم يقينا أنه أراد مجاعة اللبن لا مجاعة الخبز واللحم فهذا لا يخطر ببال المتكلم ولا فلو جعلنا حكم الرضاعة عاما لم يبق لنا ما ينفي ويثبت
وسياق قوله لما رأى الكبير فقال إنما الرضاعة من المجاعة يبين المراد وأنه إنما يحرم رضاعة من إلى لبن المرأة والسياق ينزل اللفظ منزلة الصريح فتغير وجهه الكريم صلوات وسلامه عليه وكراهته لذلك الرجل وقوله انظرن من إخوانكن إنما هو للتحفظ في وأنها لا تحرم كل وقت وإنما تحرم وقتا دون وقت ولا يفهم أحد من هذا أنما ما كان عددها خمسا فيعبر عن هذا المعنى بقوله من المجاعة وهذا ضد البيان كان عليه وقولكم إن الرضاعة تطرد الجوع عن الكبير كما تطرد الجوع عن الصغير كلام باطل فإنه يعهد ذو لحية قط يشبعه رضاع المرأة ويطرد عنه الجوع بخلاف الصغير فإنه ليس له يقوم مقام اللبن فهو يطرد عنه الجوع فالكبير ليس ذا مجاعة إلى اللبن أصلا والذي هذا أنه لم يرد حقيقة المجاعة وإنما أراد مظنتها وزمنها ولا شك الصغر فإن أبيتم إلا الظاهرية وأنه أراد حقيقتها لزمكم أن لا يحرم رضاع الكبير إذا ارتضع وهو جائع فلو ارتضع وهو شبعان لم يؤثر شيئا وأما حديث الستر المصون والحرمة العظيمة والحمى المنيع فرضي الله عن أم المؤمنين وإن رأت أن هذا الرضاع يثبت المحرمية فسائر أزواج النبي يخالفنها في ذلك يرين دخول هذا الستر المصون والحمى الرفيع بهذه الرضاعة فهي مسألة اجتهاد وأحد مأجور أجرا واحدا والآخر مأجور أجرين وأسعدهما بالأجرين من أصاب حكم الله في هذه الواقعة فكل من المدخل للستر المصون بهذه الرضاعة والمانع من الدخول بالأجر مجتهد في مرضاة الله وطاعة رسوله وتنفيذ حكمه ولهما أسوة بالنبيين داود وسليمان ا