فصل في غزوة أحد
ولما قتل الله أشراف قريش ببدر وأصيبوا بمصيبة لم يصابوا بمثلها ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب لذهاب أكابرهم وجاء كما ذكرنا إلى أطراف المدينة في غزوة السويق ولم ينل ما في نفسه أخذ يؤلب على رسول الله وعلى المسلمين ويجمع الجموع فجمع قريبا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش وجاؤوا بنسائهم لئلا يفروا وليحاموا عنهن ثم أقبل بهم نحو المدينة فنزل قريبا من جبل أحد بمكان يقال له عينين وذلك في شوال من السنة الثالثة واستشار رسول الله أصحابه أيخرج إليهم أم يمكث في المدينة وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي وكان هو الرأي فبادر جماعة من فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر وأشاروا عليه بالخروج وألحوا عليه في ذلك وأشار عبد الله بن أبي بالمقام في المدينة وتابعه على ذلك الصحابة فألح أولئك على رسول الله فنهض ودخل بيته ولبس لأمته وخرج عليهم وقد انثنى عزم أولئك وقالوا أكرهنا رسول الله على الخروج فقالوا يا رسول الله إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل فقال رسول الله ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه فخرج رسول الله في ألف من الصحابة واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بمن بقي في المدينة وكان رسول الله رأى رؤيا وهو بالمدينة رأى أن في سيفه ثلمة ورأى أن بقرا تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون وتأول الدرع بالمدينة فخرج يوم الجمعة فلما صار بالشوط بين المدينة وأحد انخزل عبد الله بن أبي بنحو ثلث العسكر وقال تخالفني وتسمع من غيري فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبد الله يوبخهم ويحضهم على الرجوع
ويقول تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع فرجع عنهم وسبهم وسأله قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود فأبى وسلك حرة بني حارثة وقال من رجل يخرج بنا على القوم من كثب فخرج به بعض الأنصار حتى سلك في حائط لبعض المنافقين وكان أعمى فقام يحثو التراب في وجوه المسلمين ويقول لا أحل لك أن تدخل في حائطي إن كنت رسول الله فابتدره القوم ليقتلوه فقال لا تقتلوه فهذا أعمى القلب أعمى البصر ونفذ رسول الله حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي وجعل ظهره إلى أحد ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم فلما أصبح يوم السبت تعبى للقتال وهو في سبعمائة فيهم خمسون فارسا واستعمل على الرماة وكانوا خمسين عبد الله بن جبير وأمره وأصحابه أن يلزموا مركزهم وألا يفارقوه ولو رأى الطير تتخطف العسكر وكانوا خلف الجيش وأمرهم أن ينضحوا المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم فظاهر رسول الله بين درعين يومئذ وأعطى اللواء مصعب ابن عمير وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام وعلى الأخرى المنذر بن عمرو استعرض الشباب يومئذ فرد من استصغره عن القتال وكان منهم عبدالله بن عمر وأسامة بن زيد وأسيد بن ظهير والبراء ابن عازب وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت وعرابة بن أوس وعمرو ابن حزم وأجاز من رآه مطيقا وكان منهم سمرة بن جندب ورافع ابن خديج ولهما خمس عشرة سنة فقيل أجاز من أجاز لبلوغه بالسن خمس عشرة سنة ورد من رد لصغره عن سن البلوغ وقالت طائفة إنما أجاز من أجاز لإطاقته ورد من رد لعدم إطاقته ولا تأثير للبلوغ وعدمه في ذلك قالوا وفي بعض ألفاظ حديث ابن عمر فلما رآني مطيقا أجازني وتعبت قريش للقتال وهم في ثلاثة آلاف وفيهم مائتا فارس فجعلوا على ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل ودفع رسول الله سيفه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة وكان شجاعا بطلا يختال عند الحرب وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر الفاسق واسمه عبد عمرو ابن صيفي وكان يسمى الراهب فسماه رسول الله الفاسق وكان رأس الأوس في الجاهلية فلما جاء الإسلام شرق به وجاهر رسول الله بالعداوة فخرج من المدينة وذهب إلى قريش يؤلبهم على رسول الله ويحضهم على قتاله ووعدهم بأن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه فكان أول من لقي المسلمين فنادى قومه وتعرف إليهم فقالوا له لا أنعم الله بك عينا يا فاسق فقال لقد أصاب قومي بعدي شر ثم قاتل المسلمين قتالا شديدا وكان شعار المسلمين يومئذ أمت وأبلى يومئذ أبو دجانة الأنصاري وطلحة بن عبيد الله وأسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وأنس بن النضر وسعد بن الربيع
وكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار فانهزم عدو الله وولوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله بحفظه وقالوا يا قوم الغنيمة فذكرهم أميرهم عهد رسول الله فلم يسمعوا وظنوا أن ليس للمشركين رجعة فذهبوا في طلب الغنيمة وأخلوا الثغر وكر فرسان المشركين فوجدو الثغر خاليا قد خلا من الرماة فجازوا منه وتمكنوا حتى أقبل آخرهم فأحاطوا بالمسلمين فأكرم الله من أكرم منهم بالشهادة وهم سبعون وتولى الصحابة وخلص المشركون إلى رسول الله فجرحوا وجهه وكسروا رباعيته اليمنى وكانت السفلى وهشموا البيضة على رأسه ورموه بالحجارة حتى وقع لشقه وسقط في حفرة من الحفر التي كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين فأخذ علي بيده واحتضنه طلحة بن عبيد الله وكان الذي تولى أذاه عمرو بن قمئة وعتبة بن أبي وقاص وقيل إن عبدالله بن شهاب الزهري عم محمد بن مسلم بن شهاب الزهري هو الذي شجه وقتل مصعب بن عمير بين يديه فدفع اللواء إلى علي بن أبي طالب ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه من شدة غوضهما في وجهه وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري الدم من وجنته وأدركه المشركون يريدون ما الله حائل بينهم وبينه فحال دونه نفر من المسلمين نحو عشرة حتى قتلوا ثم جالدهم طلحة حتى أجهضهم عنه وترس أبو دجانة عليه بظهره والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك وأصيبت يومئذ عين قتادة ابن النعمان فأتى بها رسول الله فردها عليه بيده وكانت أصح عينيه وأحسنهما وصرخ الشيطان بأعلى صوته إن محمدا قد قتل ووقع ذلك في قلوب كثير من المسلمين وفر أكثرهم وكان أمر الله قدرا مقدورا ومر أنس بن النضر بقوم من المسلمين قد ألقوا بأيديهم فقال ما تنتظرون فقالوا قتل رسول الله فقال ما تصنعون في الحياة بعده قوموا فموتوا على مات عليه ثم استقبل الناس ولقي سعد بن معاذ فقال يا سعد إني لأجد ريح الجنة من دون أحد فقاتل حتى قتل ووجد به سبعون ضربة وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف نحوا من عشرين جراحة
وأقبل رسول الله نحو المسلمين وكان أول من عرفه تحت المغفر كعب بن مالك فصاح بأعلى صوته يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله فأشار إليه أن اسكت واجتمع إليه المسلمون ونهضوا معه إلى الشعب الذي نزل فيه وفيهم أبو بكر وعمر وعلي والحارث بن الصمة الأنصاري وغيرهم فلما استندوا إلىالجبل أدرك رسول الله أبي بن خلف على جواد له يقال له العوذ زعم عدو الله أنه يقتل عليه رسول الله فلما اقترب منه تناول رسول الله الحربة من الحارث بن الصمة فطعنه بها فجاءت في ترقوته فكر عدو الله منهزما فقال له المشركون والله ما بك من بأس فقال والله لو كان ما بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون وكان يعلف فرسه بمكة ويقول أقتل عليه محمدا فبلغ ذلك رسول الله فقال بل أنا أقتله إن شاء الله تعالى فلما طعنه تذكر عدو الله قوله أنا قاتله فأيقن بأنه مقتول من ذلك الجرح فمات منه في طريقه بسرف مرجعه إلى مكة وجاء علي إلى رسول الله بماء ليشرب منه فوجده آجنا فرده وغسل عن وجهه الدم رصب على رأسه فأراد رسول الله أن يعلو صخرة هنالك فلم يستطع لما به فجلس طلحة تحته حتى صعدها وحانت الصلاة فصلى بهم جالسا وصار رسول الله في ذلك اليوم تحت لواء الأنصار وشد حنظلة الغسيل وهو حنظلة بن أبي عامر على أبي سفيان فلما تمكن منه حمل على حنظلة شداد بن الأسود فقتله وكان جنبا فإنه سمع الصيحة وهو على امرأته فقام من فوره إلى الجهاد فأخبر رسول الله أصحابه أن الملائكة تغسله ثم قال سلوا أهله ما شأنه فسألوا امرأته فأخبرتهم الخبر وجعل الفقهاء هذا حجة أن الشهيد إذا قتل جنبا يغسل اقتداء بالملائكة وقتل المسلمون حامل لواء المشركين فرفعته لهم عمرة بنت علقمة الحارثية حتى اجتمعوا إليه وقاتلت أم عمارة وهي نسيبة بنت كعب المازنية قتالا شديدا وضربت عمرو بن قمئة بالسيف ضربات فوقته درعان كانتا عليه وضربها عمرو بالسيف فجرحها جرحا شديدا على عاتقها وكان عمرو بن ثابت المعروف بالأصيرم من بني عبد الأشهل يأبى الإسلام فلما كان يوم أحد قذف الله الإسلام في قلبه للحسنى التي سبقت له منه فأسلم وأخذ سيفه ولحق بالنبي فقاتل فأثبت بالجراح ولم يعلم أحد بأمره فلما انجلت الحرب طاف بنو عبد الأشهل في القتلى يلتمسون قتلاهم فوجدوا الأصيرم وبه رمق يسير فقالوا والله إن هذا الأصيرم ما جاء به لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر ثم سألوه ما الذي جاء بك أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام فقال بل رغبة في الإسلام آمنت بالله ورسوله ثم قاتلت مع رسول الله حتى أصابني ما ترون ومات من وقته فذكروه لرسول الله فقال هو من أهل الجنة قال أبو هريرة ولم يصل لله صلاة قط ولما انقضت الحرب أشرف أبو سفيان على الجبل فنادى أفيكم محمد فلم يجيبوه فقال أفيكم ابن أبي قحافة فلم يجيبوه فقال أفيكم عمر بن الخطاب فلم يجيبوه ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة لعلمه وعلم قومه أن قوام الإسلام بهم فقال أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه أن قال يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء وقد أبقى الله لك ما يسوءك فقال قد كان في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني ثم قال أعل هبل فقال النبي ألا تجيبونه فقالوا ما نقول قال قولوا الله أعلى وأجل ثم قال لنا العزى ولا عزى لكم قال ألا تجيبونه قالوا ما نقول قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم فأمرهم بجوابه عند افتخاره بآلهته وبشركه تعظيما للتوحيد وإعلاما بعزة من عبده المسلمون وقوة جانبه وأنه لا يغلب ونحن حزبه وجنده ولم يأمرهم بإجابته حين قال أفيكم محمد أفيكم ابن أبي قحافة أفيكم عمر بل قد روي أنه نهاهم عن إجابته وقال لا تجيبوه لأن كلمهم لم يكن برد بعد في طلب القوم ونار غيظهم بعد متوقدة فلما قال لأصحابه أما هؤلاء فقد كفيتموهم حمي عمر بن الخطاب واشتد غضبه وقال كذبت يا عدو الله فكان في هذا الإعلام من الإذلال والشجاعة وعدم الجبن والتعرف إلى العدو في تلك الحال ما يؤذنهم بقوة القوم وبسالتهم وأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا وأنه قومه جديرون بعدم الخوف منهم وقد أبقى الله لهم ما يسوؤهم منهم وكان في الإعلام ببقاء هؤلاء الثلاثة وهلة بعد ظنه قومه أنهم قد أصيبوا من المصلحة وغيظ العدو وحزبه والفت في عضده ما ليس في جوابه حين سأل عنهم واحدا واحدا فكان سؤاله عنهم ونعيهم لقومه آخر سهام العدو وكيده فصبر له النبي حتى استوفى كيده ثم انتدب له عمر فرد سهام كيده عليه وكان ترك الجواب أولا عليه أحسن وذكره ثانيا أحسن
وأيضا فإن في ترك إجابته حين سأل عنهم إهانة له وتصغيرا لشأنه فلما منته نفسه موتهم وظن أنهم قد قتلوا وحصل له بذلك من الكبر والأشر ما حصل كان في جوابه إهانة له وتحقير وإذلال ولم يكن هذا مخالفا لقول النبي لا تجبيوه فإنه إنما نهى عن إجابته حين سأل أفيكم محمد أفيكم فلان أفيكم فلان ولم ينه عن إجابته حين قال أما هؤلاء فقد قتلوا وبكل حال فلا أحسن من ترك إجابته أولا ولا أحسن من إجابته ثانيا وقال ابن عباس ما نصر رسول الله في موطن نصره يوم أحد فأنكر ذلك عليه فقال بيني وبين من ينكر كتاب الله إن الله يقول (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ) ( آل عمران 152 ) قال ابن عباس والحس القتل ولقد كان لرسول الله ولأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب المشركين سبعة أو تسعة وذكر الحديث وأنزل الله عليهم النعاس أمنة منه في غزاة بدر وأحد والنعاس في الحرب وعند الخوف دليل على الأمن وهو من الله وفي الصلاة ومجالس الذكر والعلم من الشيطان وقاتلت الملائكة يوم أحد عن رسول الله ففي الصحيحين عن سعد بن أبي وقاص قال رأيت رسول الله يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشد القتال ما رأيتهما قبل ولا بعد وفي صحيح مسلم أنه أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش فلما رهقوه قال من يردهم عنا وله الجنة أو في رفيقي في الجنة فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ثم رهقوه فقال من يردهم عنا وله الجنة أو هو رفيقي في الجنة فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة فقال رسول الله ما أنصفنا أصحابنا وهذا يروى على وجهين بسكون الفاء ونصب أصحابنا على المفعولية وفتح الفاء رفع أصحابنا على الفاعلية ووجه النصب أن الأنصار لما خرجوا للقتال واحدا بعد واحد حتى قتلوا ولم يخرج القرشيان قال ذلك أي ما أنصفت قريش الأنصار ووجه الرفع أن يكون المراد بالأصحاب الذين فروا عن رسول الله حتى أفرد في النفر القليل فقتلوا واحدا بعد واحد فلم ينصفوا رسول الله ومن ثبت معه
وفي صحيح ابن حبان عن عائشة قالت أبو بكر الصديق لما كان يوم أحد انصرف الناس كلهم عن النبي فكنت أول ما فاء إلى النبي فرأيت بين يديه رجلا يقاتل عنه ويحميه قلت كن طلحة فداك أبي وأمي كن طلحة فداك أبي وأمي فلم أنشب أن أدركني أبو عبيدة بن الجراح وإذا هو يشتد كأنه طير حتى لحقني فدفعنا إلى النبي فإذا طلحة بين يديه صريعا فقال النبي دونكم أخاكم فقد أوجب وقد رمي النبي في جبينه وروي في وجنته حتى غابت حلقة من حلق المغفر في وجنته فذهبت لأنزعها عن النبي فقال أبو عبيدة نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني قال فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه فجعل ينضنضه كراهة أن يؤذي رسول الله ثم استل السهم بفيه فندرت ثنية أبي عبيدة قال أبو بكر ثم ذهبت لآخذ الآخر فقال أبو عبيدة نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني قال فأخذه فجعل ينضنضه حتى استله فندرت ثنية أبي عبيدة الأخرى ثم قال رسول الله دونكم أخاكم فقد أوجب قال فأقبلنا على طلحة نعالجه وقد أصابته بضعة عشر ضربة وفي مغازي الأموي أن المشركين صعدوا على الجبل فقال رسول الله لسعد اجنبهم يقول ارددهم فقال كيف أجنبهم وحدي فقال ذلك ثلاثا فأخذ سعد سهما من كنانته فرمى به رجلا فقتله قال ثم أخذت سهمي أعرفه فرميت به آخر فقتلته ثم أخذته أعرفه فرميت به آخر فقتلته فهبطوا من مكانهم فقلت هذا سهم مبارك فجعلته في كنانتي فكان عند سعد حتى مات ثم كان عند بنيه وفي الصحيحين عن أبي حازم أنه سئل عن جرح رسول الله فقال والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله ومن كان يسكب الماء وبما دووي كانت فاطمة ابنته تغسله وعلي بن أبي طالب يسكب الماء بالمجن فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فألصقتها فاستمسك الدم وفي الصحيح أنه كسرت رباعيته وشج في رأسه فجعل يسلت الدم عنه ويقول كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم فأنزل الله عز وجل ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) ( آل عمران 128 )
ولما انهزم الناس لم ينهزم أنس بن النضر وقال اللهم اني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني المسلمين وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين ثم تقدم فلقية سعد بن معاذ فقال أين يا أبا عمر قال أنس واها لريح الجنة يا سعد إني أجده دون أحد ثم مضى فقاتل القوم حتى قتل فما عرف حتى عرفته أخته ببنانه وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم وانهزم المشركون أول النهار كما تقدم فصرخ فيهم إبليس أي عباد الله أخزاكم الله فارجعوا من الهزيمة فاجتلدوا ونظر حذيفة إلى أبيه والمسلمون يريدون قتله وهم يظنونه من المشركين فقال أي عباد الله أبي فلم يفهموا قوله حتى قتلوه فقال يغفر الله لكم فأراد رسول الله أن يديه فقال قد تصدقت بديته على المسلمين فزاد ذلك حذيفة خيرا عند النبي وقال زيد بن ثابت بعثني رسول الله يوم أحد اطلب سعد بن الربيع فقال لي إن رأيته فأقرئه مني السلام وقل له يقول لك رسول الله كيف تجدك قال فجعلت أطواف بين القتلى فأتيته وهو بآخر رمق وفيه سبعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم فقلت يا سعد إن رسول الله يقرأ عليك السلام ويقول لك أخبرني كيف تجدك فقال وعلى رسول الله السلام قل له يا رسول الله أجد ريح الجنة وقل لقومي الأنصار لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف وفاضت نفسه من وقته ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال يا فلان أشعرت أن محمدا قد قتل فقال الأنصاري إن كان محمد قد قتل فقد بلغ فقاتلوا عن دينكم فنزل ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) الآية ( آل عمران 142 )
وقال عبد الله بن عمرو بن حرام رأيت في النوم قبل أحد مبشر بن عبد المنذر يقول لي أنت قادم علينا في أيام فقلت وأين أنت فقال في الجنة نسرح فيها كيف نشاء قلت له ألم تقتل يوم بدر قال بلي ثم أحييت فذكر ذلك لرسول الله فقال هذه الشهادة يا أبا جابر وقال خيثمة أبو سعد وكان ابنه استشهد مع رسول الله يوم بدر لقد أخطاتني وقعة بدر وكنت والله عليها حريصا حتى ساهمت ابني في الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة وقد رأيت البارحة ابني في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها ويقول الحق بنا ترافقنا في الجنة ما وعدني ربي حقا وقد الله يا رسول الله أصبحت مشتاقا إلى مرافقته في الجنة وقد كبرت سني ورق عظمي وأحببت لقاء ربي فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة فدعا له رسول الله بذلك فقتل بأحد شهيدا وقال عبد الله بن جحش في ذلك اليوم اللهم إني أقسم عليك أن ألقى العدو غدا فيقتلوني ثم يبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأذني ثم تسألني فيم ذلك فأقول فيك وكان عمرو بن الجموح أعرج شديد العرج وكان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله إذا غزا فلما توجه إلى أحد أراد أن يتوجه معه فقال له بنوه إن الله قد جعل لك رخصة فلو قعدت ونحن نكفيك وقد وضع عنك الجهاد فأتى عمرو بن الجموح رسول الله فقال يا رسول الله إن بني هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك ووالله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة فقال له رسول الله أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد وقال لبنيه وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة فخرج مع رسول الله فقتل يوم أحد شهيدا وانتهى أنس بن النضر إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم فقال ما يجلسكم فقالوا قتل رسول الله فقال فما تصنعون بالحياة بعده فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل وأقبل أبي بن خلف عدو الله وهو مقنع في الحديد يقول لا نجوت إن نجا محمد وكان حلف بمكة أن يقتل رسول الله فاستقبله مصعب بن عمير فقتل مصعب وأبصر رسول الله ترقوة أبي ابن خلف من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة فطعنه بحربته فوقع عن فرسه فاحتمله أصحابه وهو يخور خوار الثور فقالوا ما أجزعك
إنما هو خدش فذكر لهم قول النبي بل أنا اقتله إن شاء الله تعالى فمات برابغ قال ابن عمر إني لأسير ببطن رابغ بعد هوي من الليل إذا نار تأجج لي فيممتها وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يصيح العطش وإذا رجل يقول لا تسقه هذا قتيل رسول الله هذا أبي بن خلف وقال نافع بن جبير سمعت رجلا من المهاجرين يقول شهدت أحدا فنظرت إلى النيل يأتي من كل ناحية ورسول الله وسطها كل ذلك يصرف عنه ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ دلوني على محمد لا نجوت إن نجا ورسول الله إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه فعاتبه في ذلك صفوان فقال والله ما رأيته أحلف بالله إنه منا ممنوع فخرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك ولما مص مالك أبو أبي سعيد الخدري جرح رسول الله حتى أنقاه قال له مجه قال والله لا أمجه أبدا ثم أدبر فقال النبي من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا
قال الزهري وعاصم بن عمر ومحمد بن يحيى وغيرهم كان يوم أحد يوم بلاء وتمحيص اختبر الله عز وجل به المؤمنين وأظهر به المنافقين ممن كان يظهر الإسلام بلسانه وهو متسخف بالكفر فأكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته فكان مما نزل من القرآن في يوم أحد ستون من آل عمران أولها ( وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال ) ( آل عمران 121 ) إلى آخر القصة