عربي English עברית Deutsch Italiano 中文 Español Français Русский Indonesia Português Nederlands हिन्दी 日本の
  
  

تحت قسم أعمال القلوب
الكاتب د. عثمان محمد غريب
تاريخ الاضافة 2017-09-18 23:22:16
المشاهدات 489
أرسل الى صديق اطبع حمل المقال بصيغة وورد ساهم فى دعم الموقع Bookmark and Share

   

كثيرون أولئكم الذين يتصورون أن لله تعالى مائة رحمة حصرًا، وإذا سألتهم عن الحجة والبرهان سرعان ما تلوا عليك الحديث الشهير الذي رواه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمةً، وأرسل في خلقه كلهم رحمةً واحدةً، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة، لم ييئَس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمَن من النار))[1].


والخطأ في حصر رحمة الله تعالى ليس بسبب الحديث الصحيح الثابت الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما، بل بسبب عدم مراعاة قيد مُهم في الحديث؛ مما أدى إلى سوء فَهمه وتفسيره، ونعني به القيد الذي قيد الرحمة بكونها مخلوقةً!


والحاصل أن رحمة الله نوعان:

النوع الأول: الرحمة التي هي صفة ذات لله تعالى، وهي قديمة غير مخلوقة، مطلقة غير مقيدة، ولا يعتورها عدٌّ ولا إحصاء، ولا تجزئة ولا تقسيم، بل هي فوق العد والإحصاء والتجزئة والتقسيم.


النوع الثاني: الرحمة التي هي صفة فعل وليست صفة ذات، وهي مخلوقة خلقها الله تعالى لعباده ومخلوقاته، وأرسلها فيهم، وبها يتراحمون ويتعاطفون، وهذه الرحمة المخلوقة ليست صفة ذات لله تعالى، بل هي فعل من أفعاله، خلقه لعباده، وتنقسم هذه الرحمة المخلوقة إلى مائة رحمة، جعل الله تعالى منها في الأرض رحمةً واحدةً، وأمسك عنده الباقي.


والحديث الذي نحن في خدمته، وبصدد شرحه، لا يتكلم عن الرحمة التي هي صفة ذات لله تعالى، التي ليست مخلوقة ولا تتعدد ولا تتجزَّأ، بل يتكلم عن الرحمة المخلوقة التي خلقها لمخلوقاته جمعاء، وبها يتراحمون ويتعاطفون فيما بينهم، وتَعتورها التجزئة والتقسيم والعد والإحصاء.


والدليل على ذلك هو قيد المخلوقيَّة الوارد في الحديث الآنف الذكر بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة))، ومعلوم أن صفات الله تعالى غير مخلوقة، فدلَّ قيد المخلوقية على أن المراد من الرحمة هو الرحمة المخلوقة، وليست الرحمة القديمة المطلقة.


ولذلك قال الطيبي: "رحمة الله تعالى غير متناهية، فلا تعتورها التجزئة والتقسيم"[2]، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: "وفيه إشارة إلى أن الرحمة التي في الدنيا بين الخلق تكون فيهم يوم القيامة يتراحمون بها أيضًا، وصرح بذلك المهلب، فقال: الرحمة التي خلقها الله لعباده وجعلها في نفوسهم في الدنيا، هي التي يتغافرون بها يوم القيامة التبعات بينهم، قال: ويجوز أن يستعمل الله تلك الرحمة فيهم، فيرحمهم بها سوى رحمته التي وسعت كلَّ شيء، وهي التي من صفة ذاته ولم يزل موصوفًا بها، فهي التي يرحمهم بها زائدًا على الرحمة التي خلقها لهم، قال: ويجوز أن تكون الرحمة التي أمسكها عند نفسه هي التي عند ملائكته المستغفرين لمن في الأرض؛ لأن استغفارهم لهم دال على أن في نفوسهم الرحمة لأهل الأرض"[3].


ثم عقب الحافظ على كلام المهلب، وقال: "قلت: وحاصل كلامه أن الرحمة رحمتان: رحمة من صفة الذات وهي لا تتعدد، ورحمة من صفة الفعل وهي المشار إليها هنا"[4].


وقال العيني: "الرحمة التي جعلها في عباده، وهي مخلوقة، وأما الرحمة التي هي صفة من صفاته فهي قائمة بذاته عز وجل"[5].

وذكر الإمام الطيبي وآخرون أن حصر رحمته في مائة إنما هو على سبيل التمثيل؛ تسهيلًا للفهم، وتقليلًا لما عند الخلق، وتكثيرًا لما عند الله سبحانه وتعالى،وتبسيطًا لفهم التفاوت بين نصيب أهل الإيمان في الآخرة ونصيب جميع مخلوقاته في الدنيا، فجعل مقدار حظ الفئتين من الرحمتين الدارين على الأقسام المذكورة؛ تنبيهًا على المستعجم، وتوفيقًا على المستبهم، ولم يرد به تحديد ما قد جلَّ عن الحد، أو تعديد ما تجاوز عن العد"[6].


وهذا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يضربَ للأمة مثلًا، فيعرفوا التناسب الذي بين الجزأين، ويجعل لهم مثالًا، فيفهموا به التفاوت بين القسطين؛ قسط أهل الإيمان منها في الآخرة، وقسط المربوبين كافة في الأولى، وكلام هؤلاء العلماء دقيق جدًّا في التفريق بين صفة الذات وصفة الفعل.


وبهذه العجالة نستنبط من الحديث برواياته ما يأتي:

أولًا: لله تعالى رحمتان: رحمة مخلوقة خلقها لعباده، وأرسلها فيهم، وبها يتعاطفون ويتراحمون، ورحمة هي صفة ذات لله، وهي مطلقة قديمة غير مخلوقة، ولا تعتورها التجزئة والتقسيم والعد والإحصاء والتصور، بل هي فوق تصوُّرات جميع مخلوقات الله تعالى بما فيهم أنبياء الله عز وجل وملائكته وأصفياؤه.


ثانيًا: إن الرحمة المخلوقة خلقها الله عز وجل يوم خلق السماوات والأرض، بدليل حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه - كما في صحيح مسلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: ((إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة))[7].


ثالثًا: إن الله تعالى قسَّم هاته الرحمة المخلوقة إلى مائة قسم، أمسك عنده تسعًا وتسعين قسمًا، وأرسل رحمة واحدة منها بين عباده في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة.


رابعًا: إن جميع مخلوقاته من الإنس والجن والدواب والطير وغيرها، يتراحمون بهذا الجزء الواحد من مائة جزء من رحمته المخلوقة، وهذا من عطاء الربوبية التي يشترك فيها البَر والفاجر، والمؤمن والكافر، والموحد والمشرك، لذلك قد تجد الكافر والمشرك والفاجر رحماءَ في بعض المواطن والأزمنة، وقد تجد الوالدة وهي كافرة أرحم بولدها من غيرها، وتؤثره على نفسها، وتجد بين غير المسلمين من يؤسس منظمات لحماية حقوق الحيوانات والمحافظة على البيئة، ولا يكاد يظلم حيوانًا، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم -: ((إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمةً واحدةً بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها))[8]، وفي رواية أخرى لمسلم: ((فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه))[9].


خامسًا: إن أقسام هاته الرحمة مع كونها مخلوقةً حادثةً فإنها عظيمة، وتصوِّر عظمتها فوق قدرة مخلوقات الله تعالى، فلذلك ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن طباق كل رحمة منها طباق السماوات والأرض - كما في حديث سلمان السابق - وقالصلى الله عليه وسلم: ((إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض)).

فإذا عجز جميع المخلوقات عن تصور رحماته المخلوقة، فكيف يمكن تصور رحمته التي هي صفة ذات له عز وجل؟!


سادسًا: إن رحمةً واحدةً من هاته الرحمات المائة المخلوقة، تسَع جميع مخلوقات الله تعالى، فكيف ببقية أقسام رحمته التسع والتسعين المخلوقة، بل كيف برحمته المطلقة اللامتناهية سبحانه وتعالى؟!

ففي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن لله مائة رحمة قسم منها رحمةً بين أهل الدنيا، فوسعتهم إلى آجالهم))[10].


سابعًا: ليس ذلك فحسب، بل إن جزءًا واحدًا من رحمة واحدة من رحماته المائة المخلوقة، يسع جميع العالمين، فكيف بجميع أقسام رحماته المخلوقة؟!

وإذا أردت الدليل على ذلك، فاقرأ معي قوله تعالى عن إرسال حبيبه وصفيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، فلو لم يكن إرساله صلى الله عليه وسلم يسع العالمين، فكيف يجعله رحمة لهم أجمعين؟!

ورحم الله من لم يُحجر على الناس واسعَ رحمات الله تعالى، ولم يقيِّد مطلق صفاته عز في علاه، روى الإمام أبو عبدالله البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلَّم النبي صلى الله عليه وسلم، قال للأعرابي: ((لقد حجَّرتَ واسعًا))؛ يريد رحمة الله[11].

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

د. عثمان محمد غريب

كلية العلوم الإسلامية - جامعة صلاح الدين - أربيل.



[1] صحيح البخاري - كتاب الرقاق - باب الرجاء مع الخوف.

[2] شرح الطيبي على مشكاة المصابيح المسمى بـ (الكاشف عن حقائق السنن)، شرف الدين الحسين بن عبدالله الطيبي (743هـ)، المحقق: د. عبدالحميد هنداوي، مكتبة نزار مصطفى الباز (مكة المكرمة - الرياض)، الطبعة: الأولى، 1417 هـ - 1997م: 6/ 1860 - 1861.

[3] فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني، دار المعرفة - بيروت، 1379هـ، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه محب الدين الخطيب، 10 /433.

[4] المصدر نفسه.

[5] عمدة القاري شرح صحيح البخاري، أبو محمد محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد الحنفي بدر الدين العيني (المتوفى: 855هـ)، دار إحياء التراث العربي - بيروت: 23/67.

[6] شرح الطيبي على مشكاة المصابيح: 6 /1681.

[7] صحيح مسلم - كتاب التوبة - باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه.

[8] صحيح مسلم - كتاب التوبة - باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه.

[9] صحيح مسلم - كتاب التوبة - باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه.

[10] المستدرك على الصحيحين للحاكم - كتاب الإيمان، ومسند أحمد بن حنبل - ومن مسند بني هاشم - مسند أبي هريرة رضي الله عنه.

[11] صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب رحمة الناس والبهائم.






                      المقال السابق                       المقال التالى




Bookmark and Share


أضف تعليق