يطرح مفهوم الحب صعوبة في تحديده بدقة لعمقه ولكونه قابل لأنْ يُعرَّف من زوايا متعددة؛ فكل منا يُعرِّفه حسب نظره وتصوره الخاص، ولكن رغم ذلك يبقى للحب عنوان واحد مشترك بين جميع الأنظار وهو "الصدق" الذي لا يخرج عن نطاقه ولا يحيد عنه أبدا؛ لأن الحب قيمة إنسانية سامية المعاني والجمال عالية الشأن فبها يرتقي الإنسان وبدونها ينحدر، ويكون الحب حقيقيا عندما يتوافق الإحساس المستشعر مع السلوك الممارس وبشرط أن يخلو من الزيف والطمع، أي أن لا يكون مبنيا بالأساس على مصلحة ذاتية أو بغرض غاية شخصية صرفة. نعيش في زمن قل فيه من اختاروا أن يكونوا أحبة حقيقيين بعيداً عن كل مظاهر النفاق والكذب والتصنع، مما جعل الحب يحس بشبع مرضي مفرط أي أنه أصيب بالتخمة من كثرة الكلام المزيف الذي يقال فيه، في المقابل أصبح يعاني من نقص حاد في ترجمة ما يقال فيه إلى سلوك صادق، فالحب يرى حقيقة حين يتدفق في الأفعال الصادقة، ويبقى مجرد سراب حين يلخص في حروف تكتب وكلام يسمع، فلا يعرف الحب البذاخة إلا في حالة حدوث مواقف تثبته بشدة، ولا يتم ذلك أبداً كنتيجة لتقديم المشاعر المصطنعة التي تفضح سريعا حين تأتي المواقف لتظهر الحقيقة فتسقط معها الأقنعة. ويبقى السؤال المطروح: كيف لنا أن نكسب حب الأنقياء في هذا العصر؟ الإشكال نابع بالخصوص من الندرة التي يعرفها منسوب الصدق بين البشرية أمام طغيان النرجسية والمصلحة الشخصية، وبموازات ذلك أيضا طفت المادية على السطح والتي باتت تحكم العلاقات الإنسانية. من السهل بمكان أن يكون للإنسان عددا من المحبين لكن الصعوبة تكون في إيجاد الأنقياء الصادقين منهم لقلتهم ولأنهم لا يجلبون هكذا عبثا. فلا يستوجب الصدق حضور معايير محددة لأنه يأخذ كله أو يترك كله، كما أنه ليس شيئا يتجمل به فقط بقدر ما هو ارتباط قيمي وجداني عميق يلامس القلب مباشرة ويشعرك بنوع من الطمأنينة لا مثيل لها، فهو مرتكز أساسي يقوم عليه الحب مثله مثل أي شيء آخر في الحياة، وليس معيباً أن تكون صريحا بصدقك وإن كان ذلك سبباً في نفور كثير ممن كنت تعتقد أنهم محبيك ولكنهم في الحقيقة هم مزيفون ومخلصون لمصالحهم لا لشخصك. وبطبيعة الحال فلأي شخص عيوبه ينبغي تقبلها والتعامل معها بحكمة ومرونة فمنها ما هو مكتسب صالح للتعديل ومنها ما هو طبيعي لا يتغير بقدر ما يتكيف معه، فلا تحاول خداع غيرك بإدعائك المثالية فتحاول إظهار محاسنك وإنكار عيوبك، أي لا تكن ممن يرنو إلى رسم صورة له خالية من العيوب ليراها غيره. كيف تنتظر ممن لا يتعامل معك بتلقائيته أن تكون محبوبا عنده؟! إن احتراف الكذب والخداع قد يجعلك صاحب مكانة مرموقة وسط مجتمع المنافقين، ولكن لا يمكنك به أن تصبح شخصا متميزا ومحبوبا عند الصادقين بقدر ما سيجعلك عندهم مخادعا مذموما، فالحب عطاء لا يستدعي التصنع لكونه يأتي بعفوية تامة. وهذا يعني أن الصدق حقيقة تنال بها محبة الأنقياء، عكس النفاق الذي يظل مجرد غربال لا يصلح لتغطية الحقيقة، لأن الذي يلبس الكذب أفعاله وأقواله يبقى عارياً باكتسائه ثوبا شفافا رغم اعتقاده أنه استطاع تغطية الحقيقة، لكن في الواقع نفاقه يبقى فاضحا وقابلا للملاحظة. على هذا النحو، يبدوا أن الصدق هو المذهب الذي يعتنقه صفوة الناس وبه يدخلون القلوب النقية بغير استئذان وبدون حواجز، لذا تجد معتنقوه: - لا يُجيدون السباحة في مستنقع الكذب، لأنهم يترفعون عن الدناءة وينفرون من الأشياء الملوثة. - لا تُطربهم جمالية الكذب فلا يلتفون حوله، لأنهم يعلمون أنها زائفة وخادعة كما أن نفوسهم لا تهواه. - لا يَستصغرون من النفاق، لأنهم يأخذون الأشياء على محمل الصدق. - لا يَتظاهرون بمشاعر كاذبة، لأنهم يؤمنون بأن القلوب لا تكسب بالخداع. - لا يُخفون الحقائق بدافع الخوف من خسارة الأشخاص، لأن الأهم عندهم هو الوضوح بإظهار الحقيقة على ما هي عليه وليس سترها بنية إرضاء الناس. - لا يَغُشون غيرهم بغرض الوصول لغاية معينة، لأن الاحتيال لا يعرف سبيلا إليهم ليمارسوه على الآخرين. - لا يُقِيمون للكذب وزناً ولا يحسبون له حساباً، لأن حبله قصير وزائل لا محالة. فالمحب الصادق وحده القادر على قول الحقيقة في جميع الأحوال ولا مجال للخداع عنده أبدا، فلا يمكن للعلاقات الإنسانية أن تقوى بالكذب، لأنه أساس هش لا يصلح الاستقواء به، وكلما تضخم حجم الكذب تصاغرت قيمة الشخص في القلب. وما يميز الحب الحقيقي أنه يَفرض عليك أن تتعامل بدون أي حساب لما سيصدر منك مع من تجمعك معه هذه الرابطة القوية، فكثيراً ما ننسى النظر ملياً وبواقعية إلى الأساس الذي بنينا عليه علاقاتنا ببعض الأشخاص. ولكن في النهاية يبقى الأنقياء وحدهم من يعرفون العنوان الوحيد للحب الذي هو الصدق المتبادل، فلا تتبدل المشاعر ولا تتغير المعاملات إلا حين يختفي منها الصدق، كما أن الحب لا يفنى إلا إذا مات الصدق أولا، أي أن الحب الذي يختفي فيه الصدق ينتهي بسرعة كانتهاء فقاعة الصابون، أما الحب الذي يكون مبنيا على الصدق فهو محمي من التصدعات التي قد يحدثها زلزال الزمن بفعل متغيراته الكثيرة. يا من تتوهم أن أي قرب وتعلق بشخصك هو حب صادق لك، أنت في غفلة مما يفعل معك؛ لأنه قد يحصل ذلك لمصلحة فيك وبزوالها وعدم تحققها لن يتملق لك، أي أنهم يقتربون منك ويدعون حبك قولاً إذا تحققت مصلحتهم فيك وإذا زالت ذهب ما يدَّعون وكُشف كذبهم ورحل تملقهم معهم. فالقلوب تكون بشعة بقدر كمية الكذب الذي تم شحنها بها، وطهارتها بدرجة ملئها بالصدق، والمحب الصادق لا يترك نفسه تقع في معترك الإفك، ولا يغريه بريق النفاق أبدا، فلا يكترث أبدا من فقدان من يحبهم، لذلك تجده لا يحتكر الصدق لنفسه فقط. وفي الأخير تأكد أن الحب لا يرتوي إلا بالصدق، وليس هناك رفيق أفضل من الصدق ليتخذ كسند قوي لكسب حب الأنقياء، فحين تجعل من نفسك شخصا نزيها وصادقا في القول والفعل سيقل عدد المنافقين والمزيفين حولك في مقابل ذلك سيظهر لك من هم محبونك الحقيقيين. فقد تنجح بخداعك وتوهيمك للآخرين بحبك لهم في الوصول إلى ما أردته كما قد تفلح في الحصول على ما ابتغيته، لكن كن على يقين أن أمرك مكشوف مكشوف ولو بعد حين؛ فعمر الكذب قصيرة جداً، وحين يفضح أمرك ستُفتقدُ المصداقية في الحب الذي تدعي وفي كل ما يصدر منك؛ فالاستطاعة على خداع الآخرين ليست مطلقة لأنك قد تقدر على ذلك لبعض الوقت فقط ولن تستطيع أن تستمر في مواصلة خداعهم طوال الوقت
المقال السابق
المقال التالى