الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد: فإن القرآن كلام الله تعالى، وهو حبله المتين، وصراطه المستقيم، من تمسك به اهتدى، ومن أعرض عنه ضَلَّ وهَوَى، أثنى الله عليه في مواضعَ كثيرة منه؛ ليبين فضله؛ ويوضح للناس مكانته ومنزلته، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:3 - 4].
وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت: 41 - 42].
فما من باطل إلا وفي القرآن ما يدمغه، ولا شبهة إلا وفيه بيان بطلانها، قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 33].
وقال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18].
سمَّاه الله نورًا، وجعله للناس شفاءً. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
أعجب به الجن لما سمعوه، فآمنوا به واتبعوه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا } [الجن: 1: 2].
تكفل الله بحفظه وأعجز الخلق أن يأتوا بمثله: قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وقال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» [1].
ولهذه الفضائل العظيمة لكتاب الله، أمر الله بتلاوته والعمل به وتدبره، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } [فاطر: 29: 30].
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما لقارئ القرآن من الحسنات: فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لا أَقُولُ (الم) حَرْفٌ، وَلَكِنْ: أَلِفٌ حَرْفٌ؛ وَلامٌ حَرْفٌ؛ وَمِيمٌ حَرْفٌ}[2].
وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المَاهِرُ بِالقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَالذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَيَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ» [3].
ويوم القيامة تتجلى هذه الفضائل لقارئ القرآن، فيشفع لقارئه ويعلو به في مراتب الجنة على قدر قراءته: عن أبي أُمَامَة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقْرَؤوا القُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ» [4].
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: «يُقَالُ لصَاحِبِ القُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ؛ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِر آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا» [5].
وإن من عجيب حال الكثيرين منا، تقصيرهم في تلاوة كتاب ربهم، وتدبره والعمل به، مع علمهم بفضله وأجره.
قال أمير المؤمنين عُثْمَان رضي الله عنه: "لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل". ولهذا المعنى أشار تعالى بقوله: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِيي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124: 125].
فالآيات بينت حال المؤمنين، وحال المنافقين عند سماع القرآن وتلاوته، فليحذر المسلم أن يكون من ذلك الصنف الخاسر، الذي لا يزيده سماع القرآن إلا خسارًا.
وعلى هذا ينبغي للمسلم ملاحظة هذه الأمور:
أولاً: قراءة القرآن بتدبُّرٍ وتمعُّنٍ، قال تعالى: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
قال عبد الله بن مسعود: "لا تنثروه كنثر الرمل، ولا تهذُّوه كهذِّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة".
ثانيًا:مراجعة الحفظ، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَعَاهَدُوا هَذَا القُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإبِلِ فِي عُقُلِهَا»[6].
ثالثًا: الخشوع عند تلاوة القرآن: فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأْ عَلَيّ»، قلت: "يا رسول الله، أقرأ عليك، وعليك أنزل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم»، "فقرأت سورة النساء حتى أتيت على هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، قال: «حسبك الآن»، فالتفَتُّ إليه فإذا عيناه تذرفان [7].
رابعًا: عدم هجر القرآن، قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]، والهجر يشمل هَجْرَ التلاوة، والتدبُّرَ والعمل، والتحاكم إليه؛ كما قال ابن القيم رحمه الله.
فلابد من العناية بكلام الله عز وجل حفظًا، وتلاوةً، وعملاً، حتى يكون المسلم من أهل القرآن، الذين هم أهل الله، وخاصته.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الكاتب: د. أمين بن عبدالله الشقاوي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح مسلم (1/ 559) برقم (817).
[2] سنن الترمذي (5/ 175) برقم (2910)، وقال: حديث حسن صحيح غريب.
[3] صحيح البخاري (3/ 321) برقم (4937)، وصحيح مسلم (1/ 550) برقم (798).
[4] صحيح مسلم (1/ 553) برقم (804).
[5] سنن الترمذي (5/ 177) برقم (2914)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[6] صحيح البخاري (3/ 348) برقم (5033)، وصحيح مسلم (1/ 545) برقم (791).
[7] صحيح البخاري (3/ 351) برقم (5050)، ومسلم (1/ 551) برقم (800).