ما أسرعَ انقضاءَ الأيام!!
بالأمس القريب ودّعنا شهر رمضان بما كان فيه من تقصير وما صار فيه من تفريط، لكنه مضى ولم يأبه بأنين المذنبين، ولم ينصت لآهات المقصرين..
وها هي ذي الأيام تدور وينقضي الحول بأكمله ليعود إلينا شهر شعبان مذكرًا ومحذرا، وكأنه ينادي..
ورائي شهر فضيل *** ألا فلتتخذوا مني العدة..
وليتأهب المتأهبون قبل أن تنقضي أيامي على عجالة ويدرككم شهركم.. ألا قد بلغت.. اللهم فاشهد..
ما معنى شعبان؟؟
سُمِّي شَعبان لتشعّب العرب فيه، أي تفرّقهم في طلب المياه [1].
وقال ثعلب: قال بعضهم: إِنما سُمِّيَ شَعبانُ شَعبانَ لأَنه شَعَبَ أَي ظَهَرَ بين شَهْرَيْ رمضانَ ورَجَب، والجمع شَعْباناتٌ وشَعابِينُ، كرمضانَ ورَمَاضِينَ، وشَعبانُ بَطْنٌ من هَمْدانَ تَشَعَّب منَ اليَمَنِ، إِليهم يُنْسَبُ عامِرٌ الشَّعْبِيُّ رحمه اللّه [2].
لماذا شعبان؟؟
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله استكمل صيام شهرٍ إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان» [3].
وعنها رضي الله عنها قالت: «لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّهْرِ مِن السَّنَةِ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ، وَكَانَ يَقُولُ: خُذُوا مِن الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَكَانَ يَقُولُ: أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلَّ» [4].
وعن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: « قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِن الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: "ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَاا صَائِمٌ» [5].
فيكفيه فخرًا أنه شهر تُرفع فيه الأعمال إلى الله تعالى! فانظروا يا إخوتي ماذا تحبون أن يرفع لكم من أعمالكم في هذا الشهر المبارك!
وسارعوا إلى التوبة فيه؛ فلعل دمعة حارة تسيل على وجنات تائب يمحو الله بها كل ما كان من ذنوب.
ويكفيه فخرًا أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن فضله بنفسه لما رأى من تعظيم الناس لشهري رجب ورمضان، وغفلتهم عنه.
وقد وردت الأدلة على استحباب الطاعة في أوقات تغفل فيها الناس عنها، وتنشغل بالحياة الدنيا، ويكون أيضًا العمل والانشغال بالطاعة في أوقات غفلة الناس أشق على النفس، كالدعاء عند الفطر لمن كان صائمًا، وقد ورد استحباب الدعاء في هذا الوقت وأنه مجاب؛ فالنفس عندما تكون في إقبال على ما حرمت منه ثم تنصرف إلى الله تعالى على شوق منها إليه، تكون أكثر إقبالا على الله، ويحصل لها من التضرع ما لا يحصل في وقت آخر.
ليلة النصف من شعبان:
كثرت البدع وأحاطت بنا من كل حدب وصوب، وها هي بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان تطل علينا في كل عام، وقد زاد عليها أهلُ البدع ما زين لهم الشيطان، فصاروا يعظمونها ويمجدونها ويحدثون فيها ما لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام والله المستعان!
قال الله جل وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» [6].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: جماع الدين أمران: ألا يُعبد إلا الله، وأن يُعبد الله بما شرع.
وقال الإمام الشيخ ابن باز رحمه الله: الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها، وتخصيص يومها بالصيام بدعة منكرة عند أكثر أهل العلم، وليس له أصل في الشرع المطهر، بل هو مما حدث في الإسلام بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم.
وقال الشيخ ابن جبرين رحمه الله: لم يثبت في فضل ليلة النصف من شعبان خبر صحيح مرفوع يعمل بمثله حتى في الفضائل، بل وردت فيها آثار عن بعض التابعين مقطوعة وأحاديث أصحها موضوع أو ضعيف جدًّا، وقد اشتهرت تلك الروايات في كثير من البلاد التي يغمرها الجهل من أنها تكتب فيه الآجال وتنسخ الأعمار… إلخ، وعلى هذا فلا يشرع إحياء تلك الليلة ولا صيام نهارها ولا تخصيصها بعبادة معينة ولا عبرة بكثرة من يفعل ذلك من الجهلة، والله أعلم.
والأدلة على بدعية الاحتفال بهذه الليلة كثيرة في كتب أهل العلم لا داعي لبسطها هنا، وقد فضلت الاكتفاء بإشارة سريعة إلى ذلك، ومن أراد المزيد فليرجع إلى كتب الإمام ابن تيمية، وفتاوى أهل العلم، فقد أفاض العلماء في إثبات بدعية الاحتفال بها.
برنامج خاص بشهر شعبان:
إذا علم المسلم وذكر نفسه بأن شهر شعبان هو البُشرى له باقتراب حلول شهر رمضان الفضيل، علت همته ونهضت عزيمته ووجد في نفسه من القوة والخفة ما لم يجده في وقت آخر، وكأن شعبان يحفزنا على الاستعداد لشهر رمضان، ويذكرنا بالعبادة واستنهاض الهمم لها..
فجدير بكل مسلم أن يضع لنفسه برنامجًا لهذا الشهر الذي ترفع فيه الأعمال وينظر فيما قدم في عامه المنصرم.
وعلى سبيل المثال من الممكن أن يضع المسلم لنفسه برنامجًا فيبادر إلى تطبيقه والعمل به مثل:
المسارعة بالتوبة وكثرة ذكر الله أول ما يبدأ به المسلم ويستقبل هذا الشهر، وليعود قلبه ولسانه على ذكر الله تعالى حتى يصير سهلا عليه لا يكاد ينساه إلا قليلا.
الإكثار من تلاوة القرآن واتخاذ ورد يومي لا يتأخر عنه، وليكن جزءًا واحدًا من القرآن أو أكثر إن سهل عليه الأمر، ومن الأجدر أن يستعين على تلاوة القرآن ببعض كتب التفسير الموثوقة التي تسهل عليه التلاوة وتُعينه على فهم ما يستشكل من آيات؛ فيستقبل شهر رمضان بحسن تدبر لما سوف يقرأ من آيات.
المسارعة إلى الصلح والتسامح مع من كان في خصومة معهم، وليذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا» [7].
تعويد النفس الصيام واحتساب الأجر عند الله، وتذكير النفس بما أهملت من عبادات؛ من صدقة، وصلة رحم، وبر، ومساعدة للمحتاجين وتهذيبها بكل ما يتيسر من العبادات والطاعات وفعل الخيرات.
قيام الليل والتقرب إلى الله والدعاء بأن يبلغه رمضان، فكم من أُناس حيل بينهم وبين رمضان قبل حلوله بسويعات!
محاسبة النفس وتذكيرها بذنوبها وسرعة التوبة منها وعدم التسويف أو التأجيل إلى رمضان.
نسأل الله تعالى أن يبلغنا وجميع المسلمين شهر رمضان، وأن يعيننا على صيامه وحسن قيامه، وأن يتقبل منا ومن إخواننا في كل مكان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آلة وصحبه وسلم.