ومع أن خطاب التفلت والتمييع شائع ومنتشر ، لكن لابد من الإقرار بأن هناك خطابا آخرمنفرا من بعض المنتسبين للدين يشيع فيه تئييس الخلق ، وتمني الهلاك لهم ، والحرص على إخراجهم من الملة لأدنى شبهة ، والتوسع في باب المكفرات ، وتغليب جانب الوعيد والترهيب على جانب الوعد والترغيب .
والمتأمل لهذا الدين يجد أن جانب الرحمة فيه أعظم من جانب الشدة ، وجانب العفو أغلب من جانب المعاقبة ، وقد تقرر في النصوص الشرعية أن رحمة الله سبحانه سبقت غضبه وغلبته، وأن حلمه سبق مؤاخذته ، وأنه عفو يحب العفو ، غفور يحب المغفرة ويحب المستغفرين ، تواب يحب التوابين وأن العباد لو لم يذنبوا لذهب بهم وأتى بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم ، وأنه سبحانه ما يفعل بعذاب عباده شيئا إن شكروا وآمنوا { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ}
وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو رحمة للعالمين كافة ، وكان حريصا أشد الحرص على هداية الخلق جميعا ،وإيمانهم حتى قال له ربه { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين} وقال تعالى { إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ }
وقد بلغ به الحرص صلى الله عليه وسلم على هداية الخلق أن أصابه الحزن وكاد أن يهلكه فقال له مولاه { فلا تحزن عليهم } وقال له {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} وقال له { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ }
وفي المثل الذي ضربه صلى الله عليه وسلم لحاله وحال الناس قال { وأنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار هلم عن النار فتغلبوني تقحمون فيها}
فتأمل هذا التشبيه العجيب : رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بحجز الناس عن النار ، ولا يتمنى أن يقع فيها أحد ، لكن الأشقياء يأبون إلا تقحمها .
والمؤمن الموفق من جمعت نفسه بين كره الباطل وأهله من جهة ، وحب الخير للخلق كافة وتمنى هدايتهم ونجاتهم من النار والسعي الحثيث لتحصيل ذلك من جهة أخرى ، وليس كما يفعل بعض المتنطعين من تغليب جانب الوعيد !!