عربي English עברית Deutsch Italiano 中文 Español Français Русский Indonesia Português Nederlands हिन्दी 日本の
  
  

تحت قسم أعمال القلوب
الكاتب د. صفية الودغيري
تاريخ الاضافة 2017-03-13 20:57:26
المشاهدات 520
أرسل الى صديق اطبع حمل المقال بصيغة وورد ساهم فى دعم الموقع Bookmark and Share

   

القلوب المؤمنةُ لها عيونٌ تُبصِر من حدقات شرايينها، ولها نبضاتٌ صادحة بأغاريد الحقيقة في ميقاتها، ولها صبيبٌ يجري إلى حيث مستقرُّها الآمن، الخالص مِن الشوائب والأخلاط المُردِية؛ فالوعاء إذا صفَا من الكدر والعفن سقَى شرابه الظمآن فارتوى.

 

زِنِ الأمورَ بميزان الإنصاف والعدل، ولا تجعَلِ الرِّفقَ يميل بك مَيلةً واحدة إلى ما يجيش به قلبك الرقيق، فتغفُلَ عما يُلجِمك به المنطق السليم والرأي السديد، ولا تأخُذْ بالشدة والقسوة في كل أحوالك، فتستبدَّ بحقوق غيرك، وتقصِّرَ في أداء الواجبات، والوفاء بالعهود والالتزامات.

 

اخلَعْ عنك رِداءك الملوَّث بالأنجاس والآثام، وارفَعْ أكفَّ الضراعة بالدعاء، وناجِ ربَّك في الخلوات، والبَسْ لِباس التقوى والعفاف، وتجمَّل بتاج الهيبة والوقار، وتزيَّن بعقد المكارم وحسن الخِلال، كي تسلمَ من الوقوع في شر المهالك، وتحيا في سلم وأمان.

 

سعادتُك تشرق في لحظاتِ شعورك بالافتقار إلى الله تعالى، فتعبر عن ذاك الشعور بحواسِّك، وحركاتك وخلجات أنفاسك، وعند قيامك وقعودك، وصعودك ونزولك، وعند سَعْيك وكسبك، وسعادتك تتجدَّد كلما أقبَلْتَ على الله تعالى، وتلذَّذت بقربه، واستغنيت بذكره عن ذكر مَن سواه.

 

إذا كنت بلا إيمانٍ، فأنت لستَ إلا وعاءً فارغًا مِن محتواك الطيِّب، أو قشرًا يابسًا انسلَخ عن لبِّه فجفَّ في عِرْقه ينبوع الحياة، أو جسدًا يبهر الناظرين إليه، وتنحسر الأبصار عن اجتلاء حقيقته وجوهره، كأنك في وجودك بلا بصمات تخلد آثار سيرتك لمن سيخلفك في حمل رسالة الإيمان والالتزام.

 

الكلمات الصادقة كهَطْلِ المطر، تسقي القلوب الكالحة، وتروي العروق الضيقة، وتشق طريقًا رحيبًا وسط مضايق الصدر، ولها روحٌ تسيح في الآفاقِ، وتقابل أرواحًا تُماثِلها في الصفاء والنقاء؛ فالصدق إذا ما صفا مَورده وتدفَّق صبيبًا في العروق، لبَّى اللسان النداء الصداح، وهتف بالقلم المداح أن أرسِلْ ينبوعك الصافي، واملأ ينابيع السطور بالرُّواء، وحسن المنطق وعذب الكلام.

 

مِن نعم الله تعالى علينا أننا لا نتشابه في الآراء والأفكار والتصورات، وأذواقنا تختلف، وعيوننا تبصر الألوان بحسب ما تهواه وتميل إليه، وكذلك شأن السمع وباقي الحواسِّ؛ فالاستقبال والتلقي والسماع والمشاهدة ليست إلا تعبيرات تتشاكل وتتواءم فيما بينها داخل البناء الذاتي والتكوين الشخصي لكل فرد، ليتحقَّق بسبب هذا التنوع الانتفاع العامُّ بالعلوم والمعارف، والاستفادة من مصادر الثقافة المختلفة المشارب والروافد.

 

مَن ليس له ماضٍ فليس له حاضر، ومَن لا يملك نقطة البداية ويتعجَّل نقطة النهاية، فأنى له أن يُدرِك باقي النقاط ويبصر فراغات البياض، وأنَّى له أن يتعلم مِن تاريخه دروسًا للدراية والاعتبار.

 

تلذَّذ وأنت تتنفَّس الهواء بلا اختناق، قبل أن يضيق صدرُك بأنفاسِك في لحظات الشدة والإعسار، واغنَم أنفاسك في طاعةِ الله تعالى، واعلم أنك تملِكُ بتلك الأنفاس أن تسعى وتنجز، وتنشر الخير والنفع والإصلاح.

 

حياتك أسمى من السقوط مع مَن سقطوا من القمة إلى القاع، وساعاتك أنفس من أن تبذرَها لأجل إرضاء مَن لا يرضيهم الحب ولا العطاء.

 

اصنَع الممكن الذي تحلم يومًا أن يكون، واصنع اختيارك كي تكون لك حياة ويكون لك وجود، وكن أنت كما تحب أن تكون.

 

كن أنت نقطةَ البداية، واصنع لك وطنًا خارج مستعمرات النقاط الحُبْلى بالجروح ومخاض الاحتلال، وكن حرًّا بتلك الحروف، وطليقًا بأجنحة الكلمات، ودَعِ الكلام يمضي ولا يتوقف عند نقطة الانتهاء.

 

تحرَّر من الأجهزة قبل أن تختنق أنفاسك بتلك القيودِ والأسلاك، وعُدْ إلى مرافئ الإحساس البهيج بلذَّة القراءة، وأنت تقلِّب صفحات كتابك المختار، واستنشق عبير الأوراق، وتنفَّس هواء الحبر والمداد، وتذوَّق حلاوة التفكير والتخيُّل خارج ضيق الأفكار وحصار السطور المتشابهات.

 

دَعْ بسماتك تُزهِر في عيونك، وتولد في حدائق الأنوار المشرِقات، وكن طروبًا بألوان فصولك وصدى الأصوات الشجيَّة الألحان؛ فالحسن يُولَد على صفحاتٍ زينها الفرح بحلل الابتهاج.

 

إن كنتَ في كل أحوالك تسعى لإرضاء الناس، فستظلُّ منقادًا لاختياراتهم ومستسلمًا لانتقاداتهم وملاحظاتهم في كل صغيرة وكبيرة، ولن تنعم بحريَّتك واستقلاليتك في التعبير عن أفكارك وآرائك واختياراتك، وستظل مقلِّدًا لغيرك ولن ترقَى كي تكون مبدعًا ومجددًا.

 

إذا اشتدَّ يأسُك وتمكَّن منك، ستعصف في حناياك مهج الاشتياق لبراعم الأفراح، وسيحنُّ الزهر في روضاتك لإشراقات أحلامك قبل المغيب، وسيلهج لسانك بالدعاء، ويصدح قلبك المشتاق على غصن الآمال الرطيب.

 

نحتاجُ إلى أن نستجدي مِن كتاب ماضينا ذكرياتٍ جميلة، كي نُقبِل على حاضرنا ومستقبلنا بلذَّة وانتشاء، ويسري إلى أوصالنا صبيب الدماء، ويبعث في فصولنا جذر النبات، فننتشي نسمات العطر الفواح، وتخضر أوراق خريف الأيام بعد الذبول واليباس.

 

كأن هذه الذاكرة هي الصديق الحميم والعدو الخصيم، فتارةً تُعيد إلينا رسائل الحنين للأجمل والأبهى، وتُذيقنا الشهد يقطر حلو المذاق من جديد، وتارةً تُعيد إلينا رسائل السفر الطويل، مشحونة بسطور الأسى والحزن، وتارة تفتح رسائلنا القديمة بعد أن خمدت جراحها منذ زمن سحيق، كي تريق على بياض الذاكرة نزيفَ أوجاع هبَّت منذ عاصفة الخريف.

 

دَعْ ثوبك الجديد يَرْتُق تمزُّقات ثوبك القديم، وأوقِدْ فَتيل الشوق كما كان بأمسك القريب، بلا أنات أوجاعك عند ميقات الوداع الأخير، ولا آلام تعتصر فؤادك عند الرحيل.

 

كتاب حياتك مفتوحٌ، يُسجِّل آثار خُطاك حيثما حللتَ أو ارتحلتَ، ويعدُّ أنفاسك اللاهثة ونبضات قلبك الجامحة، ويُنصِت خلسةً إلى طقطقات أقلامك الحالِمة، ليحفظ عنك أحلامك ومطامحك الشاردة، ويضم إلى سطوره أجزاءَك المبعثرة، وتفاصيلك الصغيرة والكبيرة، ورسائل العمر المنسي، ليذكرك بها في تاريخٍ لن ينساها ولن ينساك.

 

عليك أن تتأمَّل وتُفكِّر في هذه النفس التي تحملها وتنوء بحمل أثقالِك، وأن تسبر أغوارك الدفينة، وتُمِيط اللثام عن أسرار جمالها الشفيف، وتَلِج أبواب مكتبتك العامرة بالنفائس والذخائر، كي تكتشف ما قُدِّر لك أن تجمعه خلال فصول أيامك الماضية، وتحاسب هذه النفس على كل صغيرة وكبيرة، قبل أن تحاسب وتشهد عليك حواسُّك وأنفاسك، ويطوى كتابك وتعرض أعمالك.

 

اختَرْ لك حياةً أفضل من اعتكافك بين رفوف الذاكرة المشحونة بنبضاتك الخامدة داخل محراب قلبك الكسير، ودَعْ عنفوان شبابك يُشرِق مِن جديد، كي تطرب روحك وتصفق كطائر هزَّه الشوق إلى غصنِه القديم.

 

وما أنت أيها الصباح إلا فرحة قد أشرقت على خد الحياة، فأزهر الثغر وتبسم، وبعدها حل المساء وهو يتدلل، وأرخى سدله على شقه الأحمر، كي يمد الآمال بشريان الوصل بين الشروق والغروب.






                      المقال السابق                       المقال التالى




Bookmark and Share


أضف تعليق