من كان مستنًا فلستن بمن قد مات، فإن الحيَّ لا تُؤمن عليه الفتنة، وعليك بالأمر العتيق، فقد كُفيت معالم الطريق، وكم كان للرعيل الأوَّل من تُحف!
فقد دخلَ رجلٌ على أبي ذرٍّ رضي الله عنه فجعلَ يُقلِّبُ بصرَهُ في بيتِهِ، فقالَ لَهُ: يا أبا ذرٍّ، ما أرى في بيتِكَ متاعًا ولا غيرَ ذلكَ مِن الأثاثِ؟! فقال: "إنَّ لنا بيتًا نُوجِّهُ إليه صالِحَ متاعِنا"، قال: إنَّهُ لا بُدَّ لكَ مِن متاعٍ ما دُمتَ ها هُنا، فقال: "إنَّ صاحِبَ المنزِلِ لا يَدَعُنا فيهِ".
وهذا وربي! من تُحفِ السلف، يمرُّ أحدهم على الفاكهة لا يستطيع أن يشتريها، فلا يتندم أو يتبرَّم، وإنما يبتسم ابتسامة الرضا والأمل ويقول لها: موعدنا غدًا إن شاء الله في الدار الآخرة!
ويتعدَّى عليه من يظلمه أو يخذله، فيقول له في سكينة وهدوء:
إلَى دَيَّانِ يَوْمِ الدِّينِ نَمْضِي *** وَعِنْدَ اللَّهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ
ويُمنع مما يبتغي، ويُحرم مما يشتهي، فلا يحزن أو يشقى، وإنما يقول في تسليمٍ ورضى: ما عند الله خيرٌ وأبقى!
فمن كان قلبه معلَّقٌ بالسماء، هل يحفل بما يحصل على الغبراء؟!
"تزوجت معاذة العابدة بصلة بن أشيم، فأدخله ابن أخيه الحمَّام، ثمَّ أدخله بيتًا مطيَّبًا، فقام يصلي، فقامت فصلَّت. فلم يزالا يصليان حتى برق الفجر.
قال ابن أخيه: فأتيته، فقلت: أي عَمِّ تزوجت الليلة، فقمتَ تصلي وتركتها؟!
فقال: إنك أدخلتني أمس بيتًا أذكرتني به النار، ثم أدخلتني بيتًا أذكرتني به الجنَّة، فما زالت فكرتي فيهما حتى أصبحت".
أليست هذه التحف الفريدة ألذّ في لسانك من الشهد المصفَّى؟!
المقال السابق
المقال التالى