بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30].
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}؛ يعني: "الافتراء على الله والتكذيب"؛ (تفسير الطبري: [112/17]).
ويقول ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في الآية السابقة: "واتقوا قول الكذب والفرية على الله بقولكم في الآلهة: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، وقولكم للملائكة: هي بنات الله... ونحو ذلك من القول؛ فإن ذلك كذبٌ وزور وشرك".
• والكذب على الله من أخطر وأشد أنواع الكذب، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].
• والكذب على الله تعالى يتضمَّن القول عليه بغير علم، كوصفه بأوصاف لم يصف الله بها نفسه، ولم يصفها بها رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا من الكذب.
• والكذب على الله تعالى يدخل فيه أيضًا: تحليل ما حرَّم الله تعالى، أو تحريم ما أحلَّ الله تعالى، وقد حذَّر الله تعالى من هذا، فقال الله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [النحل:116].
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في تفسيره (زاد المسير في علم التفسير):
"وقد ذهب طائفة من العلماء: إلى أن الكذب على الله وعلى رسوله كفر، ولا ريب أن الكذب على الله وعلى رسوله مُتَعَمدًا في تحليل حرام، أو تحريم حلال - كفر محض" اهـ.
وكان السلف الكرام يخافون أن يتجرؤوا على قولهم: هذا حلال وهذا حرام.
يقول الإمام مالك رحمه الله: "لم يكن أسلافنا يقولون: هذا حلال وهذا حرام، ما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره هذا، ونرى هذا حسنًا، ونتقي هذا، ولا نرى هذا، فالله تعالى يقول: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59]، الحلال ما أحل الله، والحرام ما حرَّمه الله". اهـ؛ (جامع بيان العلم وفضله)، (إعلام الموقعين: [38/1]).
إذًا من الكذب على الله تعالى تشريع أمرٍ لم يأذن به الله تعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم رأى عمرو بن عامر الخزاعي يجُرُّ أمعاءه في النار؛ لأنه أول مَن غيَّر في دين العرب، وشرع لهم أمورًا لم يأذن بها الله تعالى، فحرَّم أنواعًا من الإبل أن تركب، وأنواعًا أخرى حرَّم حلبها، وأنواعًا أخرى سيَّبها لآلهتهم المزعومة.
وقد جاء في (الصحيحين) من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يَجُرُّ قُصْبَه في النار، وكان أول من سيَّب السوائب».
وصدق الله سبحانه وتعالى حيث قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:144]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [يونس:69].
• ومن الكذب على الله ادعاء أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة الإسراء والمعراج، وكذلك مَن كتم شيئًا من كتاب الله تعالى، ومَن ادَّعى الغيب؛ فقد أخرج الإمام مسلم عن مسروق قال: "كنتُ مُتَّكئًا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة، ثلاثٌ مَن تكلَّم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية [1]، قلت: ما هُنَّ؟ قالت: مَن زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئًا فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني [2] ولا تُعْجِليني، ألم يقل الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير:23] {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13]، فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «إنما هو جبريل، لم أرَه على صورته التي خُلِقَ عليها غيرَ هاتين المَرَّتين، رأيته مُنْهَبِطًا من السماء سادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ ما بين السماء إلى الأرض» [3]، فقالت: أولم تسمع أن الله يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103]؟ أولم تسمع أن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51]؟ قالت: ومَن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من كتاب الله؛ فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، قالت: ومَن زعم أنه يُخبِرُ بما يكون في غَدٍ فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65]".
• ومن الكذب على الله قول البعض: "يعلم الله كذا وكذا" وهو على يقين أن الأمر بخلاف ذلك، وقد نهى الشرع عن هذا القول كذبًا أو حال الشك؛ فقد أخرج البخاري في (الأدب المفرد) بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لا يقولنَّ أحدكم لشيء لا يَعلمه: الله يَعلمه، والله يَعلم غير ذلك، فيُعلم اللهَ ما لا يَعلم؛ فذاك عند الله عظيم".
قال الإمام النووي رحمه الله في (الأذكار [326]):
"وهذه العبارة (يعلم الله) فيها خطر، فإن كان صاحبها مُتيقِّنًا أن الأمر كما قال، فلا بأس بها، وإن كان تشكك في ذلك، فهو من أقبح القبائح؛ لأنه تعرَّض للكذب على الله تعالى، فإنه أخبر أن الله تعالى يعلم شيئًا لا يتيقن كيف هو، وفيه وقيعة أخرى أقبح من هذا، وهو أنه تعرَّض لوصف الله تعالى بأنه يعلم الأمر على خلاف ما هو، وذلك لو تحقَّق كان كفرًا، فينبغي للإنسان اجتناب هذه العبارة". اهـ.
• ومن الكذب على الله تخصيص بعض الليالي أو الأيام أو الشهور بعبادات لم يأذن بها الشرع الحكيم.
• ويدخل في الكذب على الله ورسوله كذلك الفتوى بغير علم، ولقد حذَّر الله من هذا، فقال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].
قال ابن الجوزي رحمه الله في قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}: "عام في تحريم القول في الدين من غير يقين"؛ (زاد المسير في علم التفسير: [192/3]).
وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العِبَاد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا، اتخذ الناسُ رؤوسًا جُهَّالاً، فسُئِلُوا فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا».
فالله عز وجل لم يُبِح لأحد أن يتقوَّل عليه ما لم يقله، وتوعَّده بوعيد شديد! حتى إنه قال عن خليله وصفيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ . لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ . فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44-47]. ومعنىالوتين: يقول ابن عباس رضي الله عنه: "هو نياط القلب، وهو العِرْقُ الذي القلب معلقٌ فيه".
والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتصور منه شرعًا ولا عقلًا أن يكذب على رب العالمين، حاشاه فهو المعصوم، ولكن المعنى والمقصود من الآية: تحذير الأمة من الكذب على الله تعالى، وكأنه سبحانه يقول: هذا نبيِّي وخليلي لو كذب عليَّ لقطعت منه نياط قلبه، فكيف أنتم؟!
ومن الآيات التي تُرَهِّب من الكذب قوله تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8].
• قال ابن القيم رحمه الله كما في (إغاثة اللهفان [83/1]): "عجبًا والله... سُئِلُوا وحوسبوا وهم صادقون، فكيف بالكاذبين؟".
• ومن الكذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ادعاء النبوة:
فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيخرج في هذه الأمة كذَّابون دجَّالون يدَّعون النبوة؛ كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم من حديث جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن بين يدي الساعة كذَّابين»، قال جابر: فاحذروهم.
• وعند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث له: «... ولا تقوم الساعة حتى يبعث[4] دجَّالون كذَّابون قريبًا من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله».
• وأخرج الإمام مسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها في قصة مقتل ابنها عبدالله بن الزبير، قالت وهي تخاطب الحجاج بن يوسف الثقفي الذي قاد الجيش لقتال عبدالله بن الزبير: "أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّثنا أن في ثقيف كذَّابًا ومبيرًا، فأمَّا الكذَّاب فقد رأيناه، وأما المبير فلا إخَالُك إلا إياه، قال: فقام عنها ولم يراجعها".
• قال الإمام النووي رحمه الله كما في (شرح مسلم [328/8]): "وقولها في الكذَّاب: "فرأيناه"؛ تعني: به المختار بن أبي عبيد الثقفي[5]، كان شديد الكذب، ومن قبحه ادعى أن جبريل عليه السلام يأتيه، واتفق العلماء على أن المراد بالكذَّاب هنا "المختار بن أبي عبيد"، وبالمبير "الحجاج بن يوسف الثقفي"، والله أعلم". اهـ
• وكان من جملة هؤلاء الكذَّابين مسيلمة الكذَّاب باليمامة، الذي كان يدَّعي أنه يوحى إليه كما يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93]، وآخر هؤلاء الكذَّابين خروجًا هو المسيح الأعور الكذَّاب؛ ففي (مسند الإمام أحمد) بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وإنه والله لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذَّابًا، آخرهم الأعور الكذَّاب».
• وعند البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بُعِثَ نبيٌّ إلا أنذر أمته الأعور الكذَّاب، ألاَ إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وإن بين عينيه مكتوب كافر».
وبعد:
فقد وقفنا على بعضٍ من صور الكذب على الله تعالى، وأنها من الخطورة بمكان، وقد جعل الله تعالى علامةً يوم القيامة يعرف بها كلُّ مَن كذب عليه، قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر
:
المقال السابق
المقال التالى