عربي English עברית Deutsch Italiano 中文 Español Français Русский Indonesia Português Nederlands हिन्दी 日本の
  
  

   

عن أنس بن مالك  قال: بينما نحن في المسجد مع رسول اللَّه  إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول اللَّه : مَه مَهْ([1])، قال: قال رسول اللَّه : ((لا تزرموه([2])، دعوه))، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول اللَّه  دعاه فقال لـه: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر اللَّه، والصلاة وقراءة القرآن))، أو كما قال رسول اللَّه .

قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه([3]) عليه([4]).

وقد ثبت في البخاري وغيره أن هذا الرجل هو الذي قال: <اللَّهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً>، فعن أبي هريرة t قال: قام رسول اللَّه  وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللَّهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم النبي  قال للأعرابي: ((لقد حجرت واسعاً)) يريد رحمة اللَّه([5]).

وتفسر هذه الرواية الروايات الأخرى عند غير البخاري، فعن أبي هريرة  قال: دخل رجل أعرابي المسجد فصلى ركعتين ثم قال: اللَّهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً! فالتفت إليه رسول اللَّه  فقال: ((لقد تحجّرت واسعاً))، ثم لم يلبث أن بال في المسجد، فأسرع الناس إليه فقال لهم رسول اللَّه : ((إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين، أهريقوا عليه دلواً من ماء، أو سجلاً من ماء))([6]).

قال: يقول الأعرابي بعد أن فقه، فقام النبي  إليّ بأبي وأمي فلم يسب، ولم يؤنب، ولم يضرب([7]).

النبي  أحكم خلق اللَّه، فمواقفه وتصرفاته كلها مواقف حكمة مشرفة، ومن وقف على أخلاقه ورفقه وعفوه وحلمه، ازداد يقينه وإيمانه بذلك.

وهذا الأعرابي قد عمل أعمالاً تثير الغضب، وتسبب عقوبته وتأديبه من الحاضرين؛ ولذلك قام الصحابة إليه، واستنكروا أمره، وزجروه، فنهاهم النبي  أن يقطعوا عليه بوله.

وهذا في غاية الرفق والحلم والرحمة، ويجمع ذلك كله الحكمة، فقد أنكر النبي  بالحكمة على هذا الأعرابي عمله، فقال لـه حينما قال: "اللَّهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً": ((لقد تحجرت واسعاً))، يريد  رحمة اللَّه، فإن رحمة اللَّه قد وسعت كل شيء، قال : ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ([8])، فقد بخل هذا الأعرابي برحمة اللَّه على خلقه.

وقد أثنى اللَّه  على من فعل خلاف ذلك حيث قال: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ([9]).

وهذا الأعرابي قد دعا بخلاف ذلك، فأنكر عليه النبي  بالحكمة([10]).

وحينما بال في المسجد أمر النبي  بتركه؛ لأنه قد شرع في المفسدة، فلو منع ذلك لزادت المفسدة، وقد حصل تلويث جزء من المسجد، فلو منعه  بعد ذلك لدار بين أمرين:

1-        إما أن يقطع عليه بوله فيتضرر الأعرابي بحبس البول بعد خروجه.

2-        وإما أن يقطعه فلا يأمن من تنجيس بدنه، أو ثوبه، أو مواضع أخرى من المسجد.

فأمر النبي  بالكف عنه للمصلحة الراجحة، وهي دفع المفسدتين أو الضررين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما([11]).

وهذا من أعظم الحكم العالية، فقد راعى النبي  هذه المصالح، وما يقابلها من المفاسد، ورسم  لأمته والدعاة من بعده كيفية الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف، ولا سبٍّ ولا إيذاء ولا تشديد، إذا لم يكن ذلك منه عناداً ولا استخفافاً، وقد كان لهذا الاستئلاف والرحمة والرفق الأثر الكبير في حياة هذا الأعرابي وغيره، فقد قال بعد أن فقه – كما تقدم – وفي رواية الإمام أحمد: فقام النبي إليّ بأبي وأمي، فلم يسبّ، ولم يؤنّب، ولم يضرب([12]).

فقد أثّر هذا الخلق العظيم في حياة الرجل([13]).



([1])  مه: كلمة زجر، وهو اسم مبني على السكون، معناه: اسكت. وقيل: أصلها: ما هذا؟ انظر: شرح النووي، 3/193.

([2])  لا تزرموه: أي لا تقطعوا عليه بوله. والإزرام: القطع. انظر: المرجع السابق، 3/190.

([3])  شنه: أي صبه عليه. انظر :المرجع السابق، 3/193.

([4])  أخرجه مسلم بلفظه في كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد وأن الأرض تطهر بالماء من غير حاجة إلى حفرها، 1/236، (رقم 285)، والبخاري مع الفتح، بمعناه مختصراً في كتاب الوضوء، باب ترك النبي × والناس الأعرابي حتى فرغ من بوله في المسجد، 1/322، (رقم 219)، وروايات بول الأعرابي في البخاري في عدة مواضع، 1/223، 10/449، 10/525.

([5])  البخاري مع الفتح، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، 10/438، (رقم 6010).

([6])  أخرجه الترمذي بنحوه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في البول يصيب الأرض، 1/275، (رقم 147)، وأخرجه أحمد في المسند بترتيب أحمد شاكر واللفظ لأحمد، 12/244، برقم 7254، وأخرجه أحمد أيضاً مطولاً، 20/134، برقم 10540، وأبو داود مع العون، 2/39.

([7])  أخرجه أحمد في المسند بترتيب أحمد شاكر وهو تكملة للحديث السابق من رواية أبي هريرة t، 20/134، برقم 10540، وابن ماجه، 1/175.

([8])  سورة الأعراف، الآية: 156.

([9])  سورة الحشر، الآية: 10.

([10])  انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، 10/439.

([11])  انظر: فتح الباري، شرح صحيح البخاري، 1/325، وشرح النووي على مسلم، 3/191.

([12])  أخرجه ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب الأرض يصيبها البول كيف تغسل، 1/175، (رقم  529)، وتقدم تخريجه عند أحمد.

([13])  انظر: فتح الباري، 1/325، وشرح النووي، 3/191، وعون المعبود شرح سنن أبي داود،
2/39، وتحفة الأحوذي، شرح سنن الترمذي، 1/457.




                      المقال السابق                       المقال التالى




Bookmark and Share


أضف تعليق