جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وفي صحيح مسلم من حديث عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان مع أصحابه، جاء في حديث عمر: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، فسأله عن الإيمان وعن الإسلام وعن الإحسان، وفي النهاية قال النبي عليه الصلاة والسلام: «هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم»، فسأله عن الإيمان، فقال له: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسوله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره» ، فذكر في تفسير الإيمان وفي تعريفه: الأركان الستة التي منها الإيمان باليوم الآخر، فلا يصح إيمان عبدٍ إذا لم يؤمن بالغيب، لم يؤمن باليوم الآخر، فلا بد من الإيمان باليوم الآخر ليصح الإيمان ببقية أركانه.
الإيمان بالحوض:
من الأمور التي يجب الإيمان بها من أمور الآخرة ما جاء في الحوض، حوض النبي عليه الصلاة والسلام-، وهذا أعني الحوض أجمع على ثبوته واعتقاده جميع من يعتد بقوله من أهل الإسلام، أنكره بعض المعتزلة، أو أنكره المعتزلة عموماً؛ لأنهم يقدمون العقول والآراء على ما جاء في النصوص، لكن ثبوت الحوض قطعي، بل هو متواتر على ما سيأتي ذكره في الأحاديث الثابتة فيه.
وجاء أيضاً ذكره في القرآن، إلا أنه ليس بصريح، لكن الصراحة جاءت في الأحاديث القطعية التي تزيد رواتها من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام على الخمسين، في قول الله جل وعلا: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ . فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ . إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:1-3] ، وتفسير السورة بكاملها يناسب الظرف الذي نعيش فيه، وإن كان الحظ الأوفر للحوض، ففي قوله جل وعلا: (إِنَّا) بضمير الجمع، وضمير الجمع والمتكلم واحد، هو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الله جل وعلا؛ لكن العرب كما في صحيح البخاري في تفسير إنا أنزلناه، تؤكد فعل الواحد بضمير الجمع، هذا ذكره الإمام البخاري رحمه الله تعالى في تفسير سورة إنا أنزلناه، ومثل ذلك قوله جل وعلا: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}، أعطيناك: نعم أعطاه الله جل وعلا الكوثر قبل وقته وبشره به، والنبي عليه الصلاة والسلام بينما هو نائم أغفى إغفائه ثم استيقظ متبسماً عليه الصلاة والسلام فقال: «لقد أنزل عليّ الليلة سورة، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ. إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ})»، فالله جل وعلا أعطاه الكوثر، لا يقال: إن الكوثر لا حاجة إليه قبل يوم القيامة، قبل قيام الساعة، قد يقول قائل: وقد قال المعتزلة: أن الجنة والنار ليستا مخلوقتين الآن، وإنما تخلقان عند الاحتياج إليهما بعد قيام الساعة، ولا شك أن هذا ضلال مخالف للقطع من نصوص الكتاب والسنة، ونقول مثل هذا في الحوض لا يتوقف وجوده وتبشير النبي عليه الصلاة والسلام به قبل الحاجة إليه؛ لأن الحاجة إليه إنما تكون إذا قام الناس من قبورهم عطشى، المقصود أن التبشير به ووجوده لا يترتب على الحاجة إليه من الشرب منه.
معنى الكوثر:
الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى في قوله جل وعلا: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} يقول: اختلف أهل التأويل في معنى الكوثر، فقال بعضهم: هو نهر في الجنة أعطاه الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم ساق بأسانيده إلى من قال بذلك كابن عمر وابن عباس وعائشة وأنس بن مالك رضي الله عنهم ومجاهد وجمع من التابعين، وقال آخرون: عني بالكوثر الخير الكثير، وذكره بأسانيده عن ابن عباس أيضاً وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد، وقال عكرمة: الكوثر وهو النبوة والخير الذي أعطاه الله إياه، وقال آخرون: هو حوض أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، وذكره بإسناده عن عطاء ثم رجح الطبري أنه اسم النهر الذي أعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة وصفه الله بالكثرة -الكوثر مأخوذ من الكثرة- لعظم قدره، ثم ساق بأسانيده إلى أنس بن مالك قال: لما عرج بنبي الله صلى الله عليه وسلم أو كما قال عرض له نهر حافتاه الياقوت المجوف، أو قال: المجوب، فضرب الملك الذي معه بيده فيه يعني في النهر فاستخرج مسكاً، فقال محمد عليه الصلاة والسلام للملك الذي معه ما هذا؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك الله.
وفي تفسير الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى، قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن فضيل عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال: أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفائه فرفع رأسه متبسماً، إما قال لهم، وإما قالوا له؟ لم ضحكت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ابتدرهم بالكلام أو سألوه عن سبب ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: إنه نزل عليّ آنفاً سورة، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} حتى ختمها، فقال: «أتدرون ما الكوثر؟» قالوا: الله ورسوله أعلم -هذه عادتهم يسلمون ويكلون العلم إلى عالمه، ولا يجتهدون بحضرته عليه الصلاة والسلام إلا إذا طلب منهم ذلك- قال: «هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة عليه -أو فيه- خير كثير ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يختلج العبد منه، فأقول: يا ربي إنه من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك»، وهذا كما هو ملاحظ من ثلاثيات المسند يعني من عوالي ما يرويه الإمام أحمد؛ لأنه يرويه بواسطة ثلاثة من الرواة، وقد روى هذا الحديث مسلم وأبو داود والنسائي من طريق علي بن مسهر ومحمد بن فضيل كلاهما عن المختار عن أنس ولفظ مسلم قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءةً ثم رفع رأسه متبسماً قلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: لقد أنزلت عليّ آنفاً سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}، ثم قال: «أتدرون ما الكوثر؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه أو فيه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد نجوم السماء فيختلج العبد منهم، فأقول: يا ربّ إنه من أمتي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك»، ونهتم لما جاء في الخبر: «ما أحدثوا بعدك»، لنعرف من يهنأ بالشرب من هذا الحوض على ما سيأتي إن شاء الله تعالى: «فإنك لا تدري ما أحدثوا بعدك»، أو ما أحدث بعدك -هذا المختلج-.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة عن أنس بن مالك قال: لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: «أتيت على نهرٍ حافتاه كقباب اللؤلؤ المجوف فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر»، ثم قال ابن كثير: وقد تواترت، قد تواتر هذا الحديث من طرقٍ تفيد القطع عند كثير ٍمن أئمة الحديث، وكذلك أحاديث الحوض، من الأحاديث المتواترة المقطوع بها أحاديث الحوض.
وفي تفسير الرازي: ووجه التوفيق بين القولين، يعني ما جاء من أنه هو نهر وما جاء من تفسيره بالحوض، يقول: ووجه التوفيق بين القولين يعني النهر والحوض أن يقال: لعل النهر يصب في الحوض، أو لعل الأنهار إنما تسيل من ذلك الحوض، فيكون ذلك الحوض كالمنبع لهذه الأنهار.
وفي تفسير القرطبي المسمى بالجامع لأحكام القرآن: يقول رحمه الله تعالى: العرب تسمي كل شيءٍ كثير في العدد والقدر والخطر كوثراً، قال سفيان: قيل لعجوزٍ رجع ابنها من السفر بما آب ابنك؟ قالت: بكوثر، أي بمالٍ كثير، والكوثر من الرجال السيد الكثير الخير، ثم قال: واختلف أهل التأويل في الكوثر الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم على ستة عشر قولاً.
القول الأول: أنه نهر في الجنة، رواه البخاري عن أنس، ورواه الترمذي أيضاً عنه وعن ابن عمر.
الثاني: أنه حوض النبي عليه الصلاة والسلام في الموقف، قاله عطاء.
والقول الثالث: أنها النبوة والكتاب، قاله عكرمة.
والرابع: أنه القرآن، قاله الحسن.
والخامس: أنه الإسلام، حكاه بعضهم.
والسادس: أنه تيسير القرآن {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:40]، فلا شك أن هذا التيسير نعمة من الله جل وعلا يمتن به على عباده وتخفيف الشرائع قاله: الحسين بن الفضل.
السابع: هو كثرة الأصحاب والأشياء، قاله أبو بكر بن عياش.
والقول الثامن: أنه الإيثار، قال ابن كيسان.
والقول التاسع: أنه رفعة الذكر، حكاه الماوردي.
والقول العاشر: أنه نور في قلب النبي عليه الصلاة والسلام فضله على ما سواه.
والحادي عشر: أنه الشفاعة.
والثاني عشر: أنه معجزات الرب، يعني معجزات النبي عليه الصلاة والسلام التي من ربه جل وعلا، وهذا القول حكاه الثعلبي.
والثالث عشر: قال هلال بن يساف: هو لا إله إلا الله محمد رسول الله.
والرابع عشر: أنه الفقه في الدين.
والخامس عشر: أنه الصلوات الخمس.
السادس عشر: أنه العظيم من الأمر، قاله ابن إسحاق.
هذه أقوال ستة عشر ذكرت في تفسير الكوثر، استعراضها على وجه السرعة، لكن القرطبي يقول: أصح هذه الأقوال الأول والثاني، يعني: أنه نهر في الجنة أو أنه حوض النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام.