المبحث الثالث: رحمته صلى الله عليه وسلم بالمسلمين يوم القيامة
وتستمر الرحمة!!
إنها تستمر إلى ما بعد مرحلة القبور!
وماذا بعد مرحلة القبور؟!
إنه يوم القيامة، "يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[1]" إن هذا اليوم العصيب هو أكثر الأوقات التي يحتاج فيها العبد إلى عون ورحمة.. ولم يكن هذا اليوم أبدًا بعيدًا عن ذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بل كان يقول: "بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ، قَالَ وَضَمَّ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى[2]، ولذلك كثيرًا ما كان يُذَكِّرُ الناس به؛ لأنه يعلم أنه حق لا ريب فيه، وأنه آتٍ لا محالة، فكان من رحمته صلى الله عليه وسلم بالمسلمين أنه كان حريصًا على أن يستعدُّوا لمثل هذا اليوم الصعب، فكان يُحوِّل حياتهم دائمًا إلى حياة إيجابية، تهدف إلى الإعداد لهذه اللحظات الخطيرة القادمة..
جاءه رجل فسأله عن الساعة قائلاً: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟" قَالَ: لَا شَيْءَ إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ"أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ"[3]. فكانت هذه أعظم رحمة منه صلى الله عليه وسلم ، وهي رحمة التنبيه للإعداد لهذا اليوم، قبل أن يأتي يوم يموت فيه الإنسان فتضيع عليه فرصة العمل...
ثم إنه كان مشغولاً للغاية بأمته في ذلك اليوم، حتى إنه ادَّخرَ دعوته الخاصة جدًا إلى يوم القيامة ليشفع لأمته بها!!
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ[4]، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا"[5].
وقد يعتقد البعض أن هذه الشفاعة، ستكون لأهل الطاعة والتقوى فقط، ولكن الأمر على خلاف ذلك! فشفاعته صلى الله عليه وسلم ستكون كذلك لأهل المعاصي! بل لأهل الكبائر من الذنوب!!
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي"[6] وليست هذه - بالطبع - دعوة لفعل الكبائر دون خشيةِ عقابٍ من الله عز وجل، فإن العبدَ قد يُعذَّبُ في النار وقتًا لا يعلمه إلا الله، ثم يخرج بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا العذاب - ولو كان مؤقتًا - لا يجوز أبدًا أن يستهين به العبد، فإن غمسةً واحدةً في جهنم تُنسِي نعيم الدنيا بأكمله..
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ"[7].
والأخطر من هذا أن لا يُوَفَّقَ العبدُ المصِرُّ على الكبائر إلى الموت على الإسلام، فيخرج بذلك من أمة الرسول صلى الله عليه وسلم تمامًا، وبهذا لا تناله الشفاعة...
فليس المقصود من الشفاعة لأهل الكبائر هو إطلاق المجال لهم لفعل المنكرات، إنما المقصود هو إبراز مدى رحمته صلى الله عليه وسلم ، وحرصه عليها، حتى بلغ الحرص أهل الكبائر أنفسهم..
ولعل من أروع مواقف الرحمة يوم القيامة هو موقف الشفاعة لعموم الخلائق كي يُحاسَبُوا، وقد صَوَّر لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حالَ الناس في ذلك الموقف أبلغ تفسير فقال: "يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمْ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنْ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ النَّاسُ: أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ، أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: عَلَيْكُمْ بِآدَمَ فَيَأْتُونَ آدَمَ uَ فَيَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا، فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ نَهَانِي عَنْ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ إِنَّكَ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَقَدْ سَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُهَا عَلَى قَوْمِي، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ كُنْتُ كَذَبْتُ ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ - فَذَكَرَهُنَّ أَبُو حَيَّانَ فِي الْحَدِيثِ - نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى، فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلَامِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، فَيَقُولُ عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ، فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا، فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتِمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَبْوَابِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَحِمْيَرَ، أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصْرَى"[8].
فهذه – والله- رحمة عظيمة!!
إنه يقوم بما أَبَى الأنبياء أن يقوموا به، ثم عند الطلب، لم يقل: نفسي نفسي، إنما قال: "يا رب أمتي" ويكررها ثلاثًا لإبراز مدى حرصه عليها!
إن القلم ليعجز حقيقةً عن تصوير مدى هذه الرحمة النبوية الفياضة! ثم يكون الحساب بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويدخل قوم الجنة، ويدخل آخرون النار، وممن سيدخلون النار قوم من أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
غلبت سيئاتهم حسناتهم، فأُدْخِلُوا النار عقابًا على ذنوبهم الكثيرة.. فهل ينساهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
إنه صلى الله عليه وسلم الآن في الجنة يُنعَّم فيها، ومعه المؤمنون الأطهار، فهل شُغِل عن جزء عاصٍ من أمته أَبَى أن يستجيب للشرع في الحياة الدنيا، فعُوقِبَ بالنار يوم القيامة؟!
أبدًا والله.. إنه صلى الله عليه وسلم لا ينساهم!
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لَيَخْرُجَنَّ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي مِنْ النَّارِ بِشَفَاعَتِي، يُسَمَّوْنَ: الْجَهَنَّمِيُّونَ"[9].
بل إن هناك تفصيلاً جميلاً في رواية الإمام أحمد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إِنِّي لَأَوَّلُ النَّاسِ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْ جُمْجُمَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأُعْطَى لِوَاءَ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَإِنِّي آتِي بَابَ الْجَنَّةِ فَآخُذُ بِحَلْقَتِهَا فَيَقُولُونَ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ: أَنَا مُحَمَّدٌ، فَيَفْتَحُونَ لِي، فَأَدْخُلُ، فَإِذَا الْجَبَّارُ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَقْبِلِي فَأَسْجُدُ لَهُ، فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَتَكَلَّمْ يُسْمَعْ مِنْكَ، وَقُلْ يُقْبَلْ مِنْكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: اذْهَبْ إِلَى أُمَّتِكَ، فَمَنْ وَجَدْتَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ شَعِيرٍ مِنْ الْإِيمَانِ فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، فَأُقْبِلُ فَمَنْ وَجَدْتُ فِي قَلْبِهِ ذَلِكَ فَأُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ، فَإِذَا الْجَبَّارُ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَقْبِلِي، فَأَسْجُدُ لَهُ فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَتَكَلَّمْ يُسْمَعْ مِنْكَ، وَقُلْ يُقْبَلْ مِنْكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي أَيْ رَبِّ، فَيَقُولُ اذْهَبْ إِلَى أُمَّتِكَ فَمَنْ وَجَدْتَ فِي قَلْبِهِ نِصْفَ حَبَّةٍ مِنْ شَعِيرٍ مِنْ الْإِيمَانِ فَأَدْخِلْهُمْ الْجَنَّةَ، فَأَذْهَبُ فَمَنْ وَجَدْتُ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَلِكَ أُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ، فَإِذَا الْجَبَّارُ عَزَّ وَجَلَّ مُسْتَقْبِلِي، فَأَسْجُدُ لَهُ فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، وَتَكَلَّمْ يُسْمَعْ مِنْكَ، وَقُلْ يُقْبَلْ مِنْكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: اذْهَبْ إِلَى أُمَّتِكَ فَمَنْ وَجَدْتَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ الْإِيمَانِ فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، فَأَذْهَبُ فَمَنْ وَجَدْتُ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَلِكَ أَدْخَلْتُهُمْ الْجَنَّةَ، وَفَرَغَ اللَّهُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ، وَأَدْخَلَ مَنْ بَقِيَ مِنْ أُمَّتِي النَّارَ مَعَ أَهْلِ النَّارِ، فَيَقُولُ أَهْلُ النَّارِ: مَا أَغْنَى عَنْكُمْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْبَدُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا تُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، فَيَقُولُ الْجَبَّارُ عَزَّ وَجَلَّ: فَبِعِزَّتِي لَأُعْتِقَنَّهُمْ مِنْ النَّارِ، فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ فَيَخْرُجُونَ، وَقَدْ امْتَحَشُوا، فَيَدْخُلُونَ فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ فِيهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي غُثَاءِ السَّيْلِ، وَيُكْتَبُ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيُذْهَبُ بِهِمْ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلَاءِ الْجَهَنَّمِيُّونَ، فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: بَلْ هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الْجَبَّارِ عَزَّ وَجَلَّ"[10]
فانظر - رحمك الله - إلى هذه الدرجة الرفيعة، وإلى هذا المقام المحمود، وإلى هذا الحرص العجيب من رسولنا صلى الله عليه وسلم على مَنْ فعل الموبقات كلها، ولم يكن في صدره سوى مثقال حبة من خردل من الإيمان!!
إن رحمة كهذه تشرح لنا قول ربنا: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[11]".
---------------------------------
[1](المطففين: 6).
[2]البخاري: كتاب الرِّقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين (6138)، ومسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قُرْب الساعة (2951) واللفظ له، والترمذي (2214)، وابن ماجة (45)، وأحمد (12267)، والدارمي (2759)، وابن حبان (6641).
[3]البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب (3485)، ومسلم في البر والصلة والآداب، باب المرء مع مَنْ أَحَبَّ (2639)، والترمذي (2385)، وأحمد (12715)، وابن خزيمة (1796)، وابن حبان (563).
[4]ظاهر الحديث أنها دعوة واحدة مستجابة وهذا خلاف ما نعرفه عن دعوات الأنبياء فغالبها مستجاب؛ ولذلك أوَّلَ العلماء هذه الكلمة على معانٍ كثيرة كأن تكون هذه أهم الدعوات، أو تكون الدعوة على الأمة عامَّة بالإهلاك أو النجاة، أو الدعوة المجابة على سبيل القطع لا الرجاء، وغير ذلك، انظر: ابن حجر: فتح الباري 11/96.
[5]البخاري: كتاب الدعوات، باب لكل نبي دعوة مستجابة (5945)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته (199) واللفظ له، والترمذي (3602)، وابن ماجة (4307)، وأحمد (9500)، ومالك برواية يحيى الليثي (494)، وبرواية محمد بن الحسن الشيباني (907)، والدارمي (2467)، وابن حبان (6196).
[6]الترمذي (2435) وقال حسن صحيح، وأبو داود (4739)، ابن ماجة، وأحمد (13245)، وابن حبان (6467)، والحاكم (228) وقال: صحيح على شرط مسلم، وقال الشيخ الألباني في صحيح الجامع: صحيح (3714).
[7]مسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب صَبْغ أنعم أهل الدنيا في النار، وصبغ أشدهم بؤسًا في الجنة (2807)، وابن ماجة (4321)، وأحمد (13134).
[8]البخاري: كتاب التفسير، سورة بني اسرائيل (4435)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (194)، والترمذي (2434)، أحمد (12174).
[9]البخاري: كتاب التوحيد، باب ما جاء في قوله تعالى: "إن رحمت الله قريب من المحسنين" (7012)، والترمذي (2600) واللفظ له، وقال: حسن صحيح، وأحمد (12280).
[10]أحمد (12491)، والدارمي (52)، وقال الشيخ الألباني: صحيح انظر السلسلة الصحيحة (1571).
[11](الأنبياء: 107).