الفصل الخامس: رحمته صلى الله عليه وسلم بالمسلمين حال الموت وبعده
إن الموت حق على كل مخلوق!!
يقول تعالى: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ[1]".
ويقول: "كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ[2]"
والموت كما سماه ربنا مصيبة، تصيب الميت وأهله..
يقول تعالى: "فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ[3]"
ولأن الموت مصيبة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أشدَّ الناس رحمة بهذا الميت وبأهله، ولقد مَرَّ بنا في هذا البحث كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيمًا بأقارب الميت، وسنتعرض هنا لرحمته صلى الله عليه وسلم بالميت نفسه، وسنتناول هذا المعنى من خلال المباحث الآتية:
المبحث الأول: رحمته بالمسلمين عند الموت
المبحث الثاني: رحمته بالمسلمين في قبورهم
المبحث الثالث: رحمته بالمسلمين يوم القيامة
المبحث الأول: رحمته صلى الله عليه وسلم بالمسلمين عند الموت
كان محمد من أعظم المحسنين للإنسانية[4]
يقدر عدد من مات خلال القرن العشرين نتيجة النزاع المسلح بأكثر من 100 مليون إنسان، وعدد من مات نتيجة لأحداث عنف سياسي 170 مليون إنسان[5]!!
هذا حالهم ولكن الإسلام شئ آخر!!
لأن موقف الموت شديد، ولأن مصيبته كبيرة، ولأنه لا عودة منه إلى الحياة الدنيا مرة أخرى أبدًا، فإن رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالميت كانت رحمة كبيرة جدًا، وأهم ما في هذه الرحمة أنها كانت عملية، بمعنى أنها لم تقتصر على التأثر والبكاء، وإنما كانت رحمة دافعة لكل خير، جالبة لكل نفع، وأعظم هذا النفع هو التركيز المستمر على تذكير المسلمين أنهم على الموت قادمون، وإليه سائرون، وأنه لا مهرب منه ولا فكاك، فيعمل المسلم لهذا اليوم الذي لن يعود فيه إلى الحياة..
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أَكْثِرُوا ذِكْرَهَاذِمِاللَّذَّاتِ"[6] يقول أبو هريرة رضي الله عنه : يَعْنِي الْمَوْتَ.
ويقول أيضًا: "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ"[7].
ويؤكد كثيرًا على أهمية الاهتمام بالعمل الصالح فيقول: "يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ"[8].
إن التأكيد على أهمية الاستعداد للموت والزهد في الدنيا ليعد من أكثر الموضوعات التي اهتم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك رحمة منه بهذا الذي لن يجد فرصة أخرى للتعويض، وخاصة أنه قد نبه صلى الله عليه وسلم أن التوبة من الذنوب لا تصلح عند حدوث الموت، ولابد من فعلها قبل الموت..
قال صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ"[9].
ثم بعد حياة طالت أو قصرت سيأتي الموت لا محالة!، وعندها لابد من حدوثه في موعده!
قال تعالى: "وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا[10]".
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص جدًا على أن يكون إلى جوار الميت لحظة موته - خاصة إن كان مُكلَّفًا - ليساعده قدر ما يستطيع على أن يُحسِن خاتمته، وهذا من فرط رحمته صلى الله عليه وسلم ..
يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُنَّا نُؤْذِنُهُ لِمَنْ حُضِرَ مِنْ مَوْتَانَا، فَيَأْتِيهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ فَيَحْضُرُهُ، وَيَسْتَغْفِرُ لَه،ُ وَيَنْتَظِرُ مَوْتَهُ، قَالَ: فَكَانَ ذَلِكَ رُبَّمَا حَبَسَهُ الْحَبْسَ الطَّوِيلَ، فَشَقَّ عَلَيْهِ، قَالَ:فَقُلْنَا: أَرْفَقُ بِرَسُولِ اللَّهِ أَنْ لَا نُؤْذِنَهُ بِالْمَيِّتِ حَتَّى يَمُوتَ، قَالَ: فَكُنَّا إِذَا مَاتَ مِنَّا الْمَيِّتُ آذَنَّاهُ بِهِ فَجَاءَ فِي أَهْلِهِ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَشْهَدَهُ انْتَظَرَ شُهُودَهُ وَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ انْصَرَفَ، قَالَ: فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ طَبَقَةً أُخْرَى، قَالَ: فَقُلْنَا: أَرْفَقُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَحْمِلَ مَوْتَانَا إِلَى بَيْتِهِ، وَلَا نُشْخِصَهُ وَلَا نُعَنِّيَهُ، قَالَ: فَفَعَلْنَا ذَلِكَ فَكَانَ الْأَمْرُ"[11].
وكان من أهم أدواره صلى الله عليه وسلم عند زيارة مَنْ يتوقع أن يموت قريبًا أن يُلَقِّنه الشهادة، وكان يوصي بذلك ويقول: "لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"[12].
فهو حريص على المسلم حتى عند موته.. بل إنه كان يفعل ذلك مع غير المسلمين رحمة بهم، وأملاً في نجاتهم في الآخرة، وليس موقفه مع عمه أبي طالب بخافٍ على أَحَدٍ.. وقد روى المسيب بن حزن رضي الله عنه أنه لما حضرت أبا طالبٍ الوفاةُ؛ جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ"[13].
وفعل ذلك أيضًا من غلام يهودي كان يعمل خادمًا له، وسيأتي ذكر قصته - إن شاء الله - في موضع آخر من هذا البحث.
وكان صلى الله عليه وسلم من رحمته بالمقبِل على الموت يبشره بكل خير، ويُرَجِّيه في رحمة الله تعالى.. فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ: "كَيْفَ تَجِدُكَ؟" قَالَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَرْجُو اللَّهَ، وَإِنِّي أَخَافُ ذُنُوبِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : "لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ"[14].
وكان صلى الله عليه وسلم يدعو للميت بعد موته، وأمام أهله، وهي رحمة مزدوجة، يرحم بها الميت من ناحية، ويرحم بها أهله بطمأنتهم عليه من ناحية أخرى..
تروي أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ فَأَغْمَضَهُ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ" فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ: "لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ" ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَافْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ"[15].
وكان من رحمته صلى الله عليه وسلم أن عيناه كانت تفيض بالدمع حزنًا لموت مسلم سواء كان من رَحِمِه أو أقاربه أو كان بعيدًا عنه، فهذه مواقف تتفطر لها الأفئدة الرحيمة، وكان هذا يثير أحيانًا عجب الصحابة، الذين يتخيلون أن قوة الرجل وشكيمته تمنعان من بكائه وانهمار دموعه، فكان صلى الله عليه وسلم يُفسِّرها بأنها رحمة وضعها الله في قلوب العباد!
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه : دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي سَيْفٍ[16] الْقَيْنِ[17]، وَكَانَ ظِئْرًا[18] لِإِبْرَاهِيمَ[19] u، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَذْرِفَانِ،
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه : وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟!! فَقَالَ: "يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ" ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ"[20].
ويقول أسامة بن زيد {: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ[21]، يَدْعُوهُ إِلَى ابْنِهَا فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : "ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ" فَأَعَادَتْ الرَّسُولَ أَنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَدُفِعَ الصَّبِيُّ إِلَيْهِ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ[22] كَأَنَّهَا فِي شَنٍّ[23] فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا؟!! قَالَ: "هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ"[24].
وكان صلى الله عليه وسلم يهتم كثيرًا أن يصلي الجنازة على من يموت من المسلمين، وأحيانًا يتكلف المشاق كي يحضر هذه الصلاة، وكان يأمر الصحابة بهذه الصلاة، ويحض عموم المسلمين عليها لما فيها من رحمة بالميت..
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَنْ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّه يَرْجِعُ مِنْ الْأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ"[25].
بل كان يجعل ذلك حقًا لكل مسلم، وهذا عجيب! فهو يجعل للميت حقًا على الأحياء، وهذا ليس في أي تشريع أو قانون من قوانين الأرض إلا الإسلام.. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ، رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ"[26]. فانظر إلى رحمته صلى الله عليه وسلم كيف يجعل اتباع الجنازة حقًا للميت على المسلمين، ولهذا فإن فقهاء المسلمين جعلوا صلاة الجنازة فرض كفاية على المسلمين[27].
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكتفي من المسلم بأن يذهب إلى صلاة الجنازة، فيصليها بصورة شكلية لا روح فيها ولا إخلاص، بل يقول في رحمة بالغة: "إِذَا صَلَّيْتُمْ عَلَى الْمَيِّتِ فَأَخْلِصُوا لَهُ الدُّعَاءَ"[28].
وكان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: "اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ"[29].
ولما مات ذو البجادين[30] رضي الله عنه دفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان ذلك في غزوة تبوك - ثم استقبل القبلة رافعًا يديه يقول: "اللهُمَّ إِنِّي أَمْسَيْتُ عَنْهُ رَاضِيًا فَارْضَ عَنْهُ"[31].
وهذا الدعاء المخلص دفع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن يقول: فواللهِ لوَدِدْتُ أني مكانه، ولقد أسلمت قبله بخمس عشرة سنة[32]، وفي رواية أن أبا بكر الصديق قال: وددتُ أني - والله - صاحب القبر[33]، ويقول وائلة بن الأسقع رضي الله عنه عنه: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ فِي ذِمَّتِكَ، فَقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ"، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: "مِنْ ذِمَّتِكَ وَحَبْلِ جِوَارِكَ فَقِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ وَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَمْدِ اللَّهُمَّ فَاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"[34].
بل كان من رحمته صلى الله عليه وسلم أنه يحرص على الصلاة على الميت حتى وإن دُفِنَ قبل أن يصلِّي عليه..
قال عبد الله بن العباس {: صلى النبي صلى الله عليه وسلم على رجل بعدما دُفِنَ بليلة، قام هو وأصحابه، وكان قد سأل عنه فقال: "من هذا؟" فقالوا: فُلَانٌ دُفِنَ الْبَارِحَةَ، فَصَلَّوْا عَلَيْهِ"[35].
بل إن من رحمته صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي صلاة الغائب على من لم يستطع أن يصلى عليه حاضرًا، فقد روي أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ، وَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ[36].
ولم تكن هذه الرحمة بأصحابه المقربين فقط أو برَحِمِهِ ومعارفه أو بكبار القوم، وإنما كانت شاملة لكل من يعرف، حتى وإن صَغُرَ شأنه في أعين الناس..
يقول أبو هريرة رضي الله عنه : أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ - أَوْ شَابًّا - فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَ عَنْهَا - أَوْ عَنْهُ - فَقَالُوا مَاتَ قَالَ: "أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي" قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا - أَوْ أَمْرَهُ – فَقَالَ: "دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ" فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: "إنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ"[37].
فانظر إلى رحمته حتى بمن استصغر عموم الصحابة أمرهم!
ويجدر بنا أن نختم هذا المبحث بذكر رحمة عجيبة له صلى الله عليه وسلم مع رجل آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كثيرًا، بل إنه من المنافقين المعلومين بطريق الوحي، بل إنه رأس المنافقين جميعًا!!
إنه عبد الله بن أبي ابن سلول الذي لا تُحصَى جرائمُه، ولا تُعَدُّ مَعايبُه، والذي آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصيًا قبل ذلك في ماله وأهله وعِرْضِه وأصحابه.. لقد مَرَّت الأيام وحان أجل هذا المنافق، فماذا كان من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم معه؟!
يقول عبد الله بن عمر {: لمَّا توفي عبد الله بن أُبَيٍّ ابن سلول جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يُصَلِّيَ عليه؛ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي؛ فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال: يا رسول الله تُصَلِّي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ فَقَالَ: "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً[38]" وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ". قال: إنه منافق! قال: فصَلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأنزل الله: "وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [39]" [40].
إن رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا عجيبة، وتعبر بوضوح عن عدم تَكَلُّفِه مطلقًا في رحمته صلى الله عليه وسلم ، فهو لا يحمل في قلبه غلاً ولا حقدًا لأحد، حتى لهذا الرجل الذي اتهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالفاحشة -وحاشاها - وحرَّض المشركين على حرب المسلمين، وتعاون مع اليهود ضد المؤمنين، وحَثَّ الأنصار على إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة، وأكثر من ذلك فقد نزل الوحي مرارًا يكشف نفاق قلبه نفاقًا أكبر، فهو يبطن الكفر ويظهر الإسلام، ومع كل ذلك فرحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تشمله بهذه السعة العجيبة، وهذا الرفق النادر..
إن كل من يشاهد هذه المواقف أو يسمع عنها لا يسعه إلا أن يُقِرَّ بما ذكره ربنا في حق رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال:"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[41]".
----------------------------------
[1](آل عمران: 185).
[2](القصص: 88).
[3](المائدة: 106).
[4]إدوار مونتيه (مستشرق وفيلسوف فرنسي كان مديرًا لجامعة جنيف) : العرب
[5]روبرت هندي، أوقفوا الحرب، الحوار الثقافي، لبنان، 2005م، ص30.
[6]الترمذي (2307)، وقال: حسن غريب، والنسائي (1824)، وابن ماجة (4258)، وأحمد (7912)، وابن حبان (2992)، والحاكم (7909)، وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، والطبراني في الأوسط 6/56 بإسناد حسن، وقال الشيخ الألباني في صحيح الجامع:حسن، حديث (1211).
[7]البخاري: كتاب الرِّقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" (6053)، والترمذي (2333)، وابن ماجة (4114)، وأحمد (6156)، وابن حبان (698)، والطبراني في الصغير (63)، والبيهقي في شعب الإيمان (10245).
[8]البخاري: كتاب الرقاق، باب سكرات الموت (6149)، ومسلم في أوائل الزهد والرقائق (2960)، والترمذي (2379)، والنسائي (1937)، وأحمد (12101)، وابن حبان (3107)،وأبو نعيم في الحلية 3/710.
[9]الترمذي (3537 )، وقال: حسن غريب، وابن ماجة (4253)، وأحمد (6160)، وابن حبان (628)، والحاكم (7659)، وقال: حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال الشيخ الألباني في صحيح الجامع: حسن (1903).
[10](المنافقون: 11).
[11]أحمد (11646)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد ورجاله ثقات.
[12]مسلم: كتاب الجنائز، باب تلقين الميت لا إله إلا الله (917)، والترمذي (976)، والنسائي (1826)، وأبو داود (3117)، وابن ماجة (1444)، وأحمد (11006)، وابن حبان (3004).
[13]البخاري: كتاب الإيمان والنذور، باب إذا قال: واللهِ لا أتكلم اليوم فصلَّى أو قرأ أو سبَّح أو كبَّر أو حَمِد أو هلَّل فهو على نيته (6303)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضرة الموت ما لم يشرع في النزع (24)، والنسائي (2035)، وأحمد (23724).
[14]الترمذي (983) وقال: حسن، وابن ماجة (4261)، وابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله (31)، والبيهقي في شعب الإيمان (1001)، وأبو نعيم في الحلية 6/292، وقال الشيخ الألباني في الترغيب والترهيب صحيح: (3383).
[15]مسلم: كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت (920)، وأبو داود (3118)، وأحمد (26585)، وابن حبان (7041).
[16]أبو سيف هو البراء بن أوس بن خالد الأنصاري. شهد أُحُداً وما بعدها، وهو زوج مرضعة إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم ، واسمها خولة بنت المنذر بن زيد.. الإصابة الترجمة (613)، أسد الغابة1/228.
[17]القَيْن: الحدَّاد.
[18]ظئرًا: زوج المرضعة التي ترضع إبراهيم u.
[19]إبراهيم u: هو ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية رضي الله عنه .
[20]البخاري: كتاب الجنائز، باب وإنا بك لمحزونون (1241)، ومسلم: في الفضائل، باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال (2315)، والترمذي (1005)، وأبو داود (3126)، وابن ماجة (1589).
[21]هي زينب رضي الله عنه .
[22]تقعقع: تضطرب وتتحرك.
[23]الشنّ: القرية القديمة.
[24]البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تبارك وتعالى: "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيًّا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى" ( 6942) واللفظ له، ومسلم: في الجنائز باب البكاء على الميت (923)، وأبو داود (3125)، والنسائي (1868)، وابن ماجة (1588)، وأحمد (21824)، وابن حبان (461).
[25]البخاري: كتاب الإيمان، باب اتباع الجنائز من الإيمان (47) واللفظ له، ومسلم: كتاب الجنائز، باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها (945)، والترمذي (1040)، والنسائي (5032)، وأبو داود (3168)، وابن ماجة (1539)، وأحمد (10768)، وابن حبان (3078).
[26]البخاري: كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز (1183)، ومسلم: كتاب السلام، باب من حق المسلم للمسلم رد السلام (2162)، وأبو داود (5030)، وابن ماجة (1435)، وأحمد (8378)، وابن حبان (241).
[27]ابن قدامة: الكافي في فقه ابن حنبل 1/362.
[28]أبو داود (3199)، وابن ماجة (1497)، وابن حبان (3076)، والبيهقي في سننه الكبرى (6755)، وقال الشيخ الألباني في صحيح الجامع: حسن (669).
[29]أبو داود (3221)، والحاكم (1372) وقال: صحيح ولم يخرجاه، وقال الشيخ الألباني في صحيح الجامع: صحيح (945).
[30]ذو البجادين: له صحبة، كان عبد الله رجلاً من مُزَيْنَة يتيمًا في حِجر عمه، وكان محسنًا له فبلغ عمه أنه أسلم فنزع منه كل شيء أعطاه حتى جرَّده من ثوبه؛ فأتى أمه؛ فقطعت له بجادًا لها نصفين؛ فاتزر نصفًا وارتدى نصفًا؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "أنت عبد الله ذو البجادين.." الإصابة الترجمة (4802).
[31]البزار (1706)، وأبو نعيم: حلية الأولياء 1/122، والإصابة الترجمة (4802).
[32]ابن الأثير: أسد الغابة 3/197.
[33]أبو نعيم: حلية الأولياء 1/122، ابن الأثير: أسد الغابة 2/104.
[34]أبو داود (3202)، وابن ماجة (1499)، وأحمد (16061)، وقال الشيخ الألباني في تلخيص أحكام الجنائز: صحيح ص55.
[35]البخاري: كتاب الجنائز، باب الدفن بالليل (1275)، وابن حبان (3091)، والبيهقي في سننه الكبرى (6791).
[36]البخاري: كتاب الجنائز، باب التكبير على الجنائز أربعًا (1268) واللفظ له، ومسلم: كتاب الجنائز، باب في التكبير على الجنازة (951)، والترمذي (1022)، والنسائي (1971)، وأبو داود (3204)، وابن ماجة (1534)، وأحمد (10864)، وابن حبان (3101).
[37]البخاري: كتاب أبواب المسجد، باب كنس المسجد، والتقاط الخرق والقذى والعيدان (446)، ومسلم في الجنائز باب الصلاة على القبر واللفظ له (956)، وابن ماجة (1527)، وأبو داود (3203)، وأحمد (9025).
[38](التوبة:80).
[39](التوبة:84).
[40]البخاري: كتاب التفسير، باب براءة التوبة (4393)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل عمر رضي الله عنه (2400)، والترمذي (3097)، والنسائي (3638)، وابن ماجة (1523)، وأحمد (95)، وابن حبان (3176).
[41](الأنبياء:107).