حكم سابِّ النبي صلى الله عليه وسلم
إن معرفة حكم ساب الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة دينية لا غنى لمسلم عنها اعتقاداً وعملاً، أما الاعتقاد فبالكامل، وأما العمل فعلى قدر الاستطاعة، وإن هذه الضرورة أكثر تمحضاً اليوم من الأمس القريب إذ لم نعهد حتى القريب مثل هذه الحملة الشعواء الشرسة لأكابر مجرمي الأرض ممن يتجرأون على مقام النبوة وجناب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وليكن مقام أحدنا مِن تعلُّم حكم هؤلاء المجرمين مقام المصحح لعقيدته والمقوِّم لانحراف أمته المجاهد في سبيل إعلاء دينه، والحذر كل الحذر من أن ينجرف أحدنا إلى مهاوي الخذلان والتهالك فيكون حاله حال من وصفهم الله تعالى فقال:" ولِيَعلمَ الذين نافقوا وقيل لهم تعالَوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلمُ قتالاً لاتَّبعناكم هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون".
وقبل الخوض في تفاصيل هذا المبحث لا بد من مقدمة للتعريف بأقسام الناس من حيث الإسلام والكفر حيث إن تفريع بعض الأحكام المتعلقة بسب الرسول صلى الله عليه وسلم ينبني عليه، فنقول وبالله التوفيق:
الناس إما مسلمون وإما كفار. والكفار أصنافٌ أربعة هي كما ذكر ابن قيم الجوزية رحمه الله :"الكفار إما أهل حرب وإما أهل عهد، وأهل العهد ثلاثة أصناف: أهل الذمة، وأهل هدنة، وأهل أمان". وهذه نبذة عن كل نوع منهم:
1.أهل الذمة:فهم الذين دخلوا مع المسلمين في عقد الذمة بحيث رضوا بأن يكونوا تحت حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مقيمين في دار الإسلام مضروباً عليهم الجزية والصغار في مقابل إقرارهم على دينهم فيما بينهم مع حماية الدولة الإسلامية لهم،كما قال الله تعالى :" قاتِلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرَّم اللهُ ورسولُه ولا يَدِينُون دينَ الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطُوا الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرون"وعقد الذمة عقدٌ مؤبد ما لم ينقضه الذمي بناقضٍ من نواقض العهد المعروفة.
2.أهل الهدنة:ويعرفون أيضاً بأهل العهد وأهل الصلح وهم الذين صالحوا المسلمين على أن يكونوا في دارهم – أي دار الكفار - لا تجري عليهم أحكام الإسلام كما تجري على أهل الذمة، ولكن عليهم الكف عن محاربة المسلمين، وهؤلاء الذين قال الله تعالى فيهم:" فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم"
3.أهل الأمان:المستأمَن هو الكافر يدخل دار الإسلام من غير استيطان لها أو إقامة فيها يدخلون بأمان المسلمين، وهؤلاء إما رسل وسفراء أو تجار أو مستجيرين يدخلهم المسلمون حتى يسمعوا كلام الله تعالى ويُعرَض عليهم الإسلام كما قال الله تعالى:"وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجِره حتى يسمعَ كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون" فإن أسلموا فبها، وإن لم يسلموا بُلِّغوا مأمنهم بعد قضاء الغاية من زيارتهم لبلد الإسلام، ولا تضرب عليهم الجزية ولا يقتلوا، فإذا عاد إلى دار الحرب عاد حكمه حربياً.
4.أهل الحرب:هم كل الكفار ما عدا الأصناف المذكورة، وهم الذين قال الله تعالى فيهم:" كيف يكون للمشركين عهدٌ عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام"، فأهل الكفر في الأصل محاربون، فإن عقد المسلمون معهم صلحاً كانوا أهل هدنة، وإن عقدوا معهم الجزية كانوا أهل ذمة، وإن دخلوا مستأمنين كانوا أهل أمان، والله تعالى أعلم.
ثم إن أهل الذمة قد عاهدوا المسلمين على الامتناع عن أمور إن هم تعاطوها نقضوا العهد وترتبت على نقض العهد أحكام شرعية وعقوبات شرعية بحسب هذا الناقض، وهذا كله مبسوط في مظانه، وأذكر في هذا المقام بعض ما ورد في الشروط العمرية التي صالح عليها المسلمون نصارى الشام وشرط النصارى على أنفسهم في مقابل الذمة والصلح شروطاً وفيها :" ولا نُظهر شركاً، ولا نُرغِّب في ديننا، ولا ندعو إليه أحداً"، فكتب الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى المسلمين :" أن أمضِ لهم ما سألوا وألحِق فيهم حرفين أشترطهما عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم : ألا يشتروا من سبايانا، ومن ضرب مسلماً فقد خلع عهده"، فتأمل جيداً هذه الشروط:
1.أن لا نُظهر شركاً: فلا يجوز لهم أن يعلنوا ويظهروا على الملأ شعائر دينهم الشركية كإظهار الصليب أو التحديث ببنوة عيسى لله تعالى سبحانه وتعالى عما يشركون، ونحو ذلك مما فيه أذى لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا قد أُقروا عليه فيما بينهم في مقابل دفع الجزية وجريان حكم الله ورسوله عليهم.
2.ولا نرغِّب في ديننا: فلا يدعون أحداً إلى دينهم الباطل لأن هذه الدعوة معناها تفضيل دينهم على دين الإسلام وهو مخالف لما عاهدناهم عليه من خضوعهم لحكم الإسلام.
3.ومن ضرب مسلماً فقد خلع عهده: فإذا كانت هذه هي حرمة المسلم فحرمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من باب أولى.
فإذا تأملت هذه الشروط وجدت أنها تدل بقياس الأَولى على حرمة ومنع التطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسب والإساءة والشتم والتعريض، فلا يخفى ولا يحتاج إلى تقريرٍ صريح أن وقوع مثل هذا ناقض للعهد مع ما يستجره من عقوبة على ما نبين لاحقاً. وإنما كان التفصيل في هذه الأصناف محتاجاً إليه في موضوع هذا الكتاب لما كان من وجود أهل الذمة في أرجاء الدولة الإسلامية مع ما لهم وعليهم من حقوق وواجبات، وما يحتاج لمعرفته من أحكام الشريعة الجارية عليهم فيما يقع منهم من إخلال بالعهد أو اقتراف جناية كزنى وقتل وحرابة أو سب للدين ولله عز وجل وللرسول صلى الله عليه وسلم، وأما أحكام المستأمنين فإن عهدهم أقل توثيقاً من عهد أهل الذمة فنقضه بمثل سب رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب أولى، وأما المحارب فلا عصمة لدمه أصلاً والمقاتلةُ منهم يُخيَّر الإمام فيهم بين القتل والرق والفداء والمن، أما غير المقاتلة فلا يجوز قتلهم كالنساء والرهبان ومَن في حكمهم إلا أن يقاتلوا، وأحكام هذا كله مبسوطة في كتب الفقه والسياسة الشرعية فليرجع إليه.
ويمكننا أن نقسم الناس اليوم بخصوص ما يتعلق بمسألة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قسمين اثنين فقط هما : مسلم وكافر، بغض النظر عن وضع الكافر من حيث الأقسام المذكورة آنفاً، لأن أقوى هذه الأقسام عهداً وتوثيقاً وأماناً – أعني أهل عقد الذمة – غير موجودين اليوم على الصفة الشرعية المذكورة، فكل ما سوى ذلك من أقسام الكفار أقل درجةً من حيث عصمة الدم والأمان، وكل ما تكلم فيه الفقهاء قديماً عن انتقاض عهد أهل الذمة وترتُّب عقوبة جريمة سب الرسول صلى الله عليه وسلم على الساب منهم يقع على غير أهل الذمة من الكفار بطريق الأولى على تفصيل نبينه إن شاء الله تعالى.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:"اعلم وفقنا الله وإياك أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه، أو ألحق به نقصاً في نفسه أو نسبه أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو عرَّض به، أو شبَّهه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه، أو التصغير لشأنه، أو الغض منه، والعيب له، فهو سابٌّ له، والحكم فيه حكم السابِّ ؛ يُقتل على ما نبينه، ولا نستثني فصلاً من فصول هذا الباب على هذا المقصد، ولا نمتري فيه تصريحاً كان أو تلويحاً. وكذلك مَن لعنه أو دعا عليه، أو تمنى له مضرة، أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسُخفٍ من الكلام وهُجر، ومنكر من القول وزور، أو عيَّره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه، وهذا كله إجماعٌ من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرا"
رحم الله القاضي عياض، وجعل كل حرف من هذه الأحرف وكل مَن عمل بها من بعده إلى يوم القيامة في ميزان حسناته، وهكذا فليكن انتصار العلماء الربانيين للنبي صلى الله عليه وسلم أو لا يكونوا، فالأمة بغنى عن عالم متعالم لا يزمجر بمثل هذه الكلمات في أرجاء الكون حتى ترتعد فئران الكفر والضلال وتموت كمداً في جحورها أو دهساً تحت أقدام الموحدين، رحم الله القاضي عياض رحمةً واسعة ينور بها قبره ويعلي بها قدره بين العلماء العاملين.
وإن كلامنا في هذا المبحث يتعلق بما يلي :
1.بيان الأدلة الشرعية المتضافرة على انتقاض إيمان وأمان ساب النبي صلى الله عليه وسلم ووجوب قتله.
2.بيان الأدلة على تعيُّن قتل الساب وعدم صلاح أية عقوبة أُخرى معه
3.بيان الأدلة على عدم استتابة ساب النبي صلى الله عليه وسلم وبيان حكمه إن تاب.
واعلم أن استطرادنا في عرض الأدلة ليس لترددٍ في صدورنا أو اختلاجٍ تجاه حكم الله تعالى في هؤلاء، فإن الفطرة السليمة لا تقبل لهذا المجرم عقوبةً دون القتل، ولكننا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم لا نصدر عن انفعالاتنا ولا عن عقولنا بل نصدر عن الوحي، فما جاء به صلى الله عليه وسلم سمعنا وأطعنا، وما لم يأتِ به توقفنا حتى يأتي أو يستبين لنا أمره بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، والله الموفق.