آخر خطبة :
وَكَانَتْ عَائِشَةُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَاـ تُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ ـ بَعْدَمَا دَخَلَ بَيْتَهُ وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ ـ : " هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ[1] لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ[2]"، وَأُجْلِسَ فِي مِخْضَبٍ[3] لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ تِلْكَ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ[4]، وعلى رأسه عصابة، فجلس على المنبر، وخطب في المسلمين، وكان ناسٌ من الأنصار يبكون لما ألم برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد أحسوا وعاينوا طلائع التوديع .. فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد حمد الله والثناء عليه ـ: " أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي[5] وَقَدْ قَضَوْا الَّذِي عَلَيْهِمْ وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ"[6].
وخشع الناس، واقفهر الجو، الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : " أوصيكم " .. ما أصعبها من لحظات ! إنها آخر خطبة، وآخر كلمة جامعة تنطلق من فؤاد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الذين آمنوا ...
ويبدو من النصوص التي وردت في هذه الخطبة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يتكلم بالجملة ثم يصمت لما ألم به من شدة الألم ..
ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
"إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ ".. فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ : فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا !!
قال أبو سعيد الخدري : فَعَجِبْنَا لَهُ، وَقَالَ النَّاسُ : انْظُرُوا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ يُخْبِرُ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنْ عَبْدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، وَهُوَ يَقُولُ فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هُوَ الْمُخَيَّرَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ أَعْلَمَنَا بِهِ [7]!
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : " إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ إِلَّا خُلَّةَ الْإِسْلَامِ .. لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ[8] إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ"[9].
هذا التكريم الأخير لأبي بكر ، في هذا الوقت، كان من تدبير الله ـ عز وجل ـ، حتى لا ينسى الناسُ مكانة أبي بكر إذا مات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
وكأنما إرهاصات خلافة الصدّيق؛ أقبلت في طيات إشارات التوديع .
من شؤم التنازع :
ثم توجه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى فراشه، حتى إذا اشتد عليه المرض، نادى على بعض أصحابه، : " ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لا تَضِلُّوا بَعْدَهُ "[10]
فقال بعضهم لبعض : إِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا، فَاخْتَلَفُوا، وَكَثُرَ اللَّغَطُ، فقَالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : " قُومُوا عَنِّي !! وَلا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ"[11].
فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ : إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَبَيْنَ كِتَابِهِ[12].
وهذا لعمرو الله من شؤم التنازع، ومن أثر الاختلاف المذموم، إذ حُرم المسلمون هذا الكتاب بسبب معصية التنازع !
وحسبك تعليق ابن عباس؛ إذ سمى ذلك "رزية ".
-----------------------
[1]جمع وكاء ، وهو ما يشد به رأس القربة
[2]أي : أُوصي
[3]المِخْضَبُ بالكسر شِبهُ الإِجّانةِ يُغْسَلُ فيها الثِّيابُ والمِخْضَبُ المِرْكَنُ، [لسان العرب (1 / 357)]
[4]البخاري : 191
[5]عَيْبةُ الرجل موضعُ سِرِّه، والكرش الجماعة من الناس، ويقال على البطن .
[6]البخاري : 3515
[7]البخاري : 3615
[8]الخوخة : الباب الصغير يكون بين البيت والمصلى
[9]البخاري : 3615
[10]البخاري : 111
[11]البخاري : 111
[12]البخاري : 111