عام الوفود
9 هـ
فُتحت مكة، وأسلمت ثقيف، وكانت تبوك، واستتب الأمن شمالاً وجنوبًا، وبات الإسلامُ ملأ المسامع والأبصار، وأقبل الناس من كل فج عميق يدخلون في دين الله أفواجًا . وصدق الله تعالى :
" إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) " [ النصر]
في زحام الوفود التي جاءت من كل حدَب صوب لتدخل في دين الله أفواجًا..كانت لنا هذه الوقفة مع وفد من الوفود :
ففي العام العاشر جاء ثلاثةُ نفر من غسان، فقدموا على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَأَسْلَمُوا، وَقَالُوا : لَا نَدْرِي أَيَتْبَعُنَا قَوْمُنَا أَمْ لا ؟ وَهُمْ يُحِبّونَ بَقَاءَ مُلْكِهِمْ وَقُرْبَ قَيْصَرَ، وكانت غسان موالية للرومان، فَأَجَازَهُمْ رَسُولُ اللّهِ ـ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ـ بِجَوَائِزَ، وأكرمهم، وعلمهم، وفقههم، ثم انْصَرَفُوا رَاجِعِينَ، فَقَدِمُوا عَلَى قَوْمِهِمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهم في دخول الإسلام، وحينئذٍ كتم الثلاثةُ إسلامهم، حَتّى مَاتَ مِنْهُمْ رَجُلانِ عَلَى الْإِسْلامِ، وَأَدْرَكَ الثّالِثُ مِنْهُمْ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ـ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ـ عَامَ الْيَرْمُوكِ [ 15 هـ ـ636م]، فَلَقِيَ أَبَا عُبَيْدَةَ بن الجراح؛ فَأَخْبَرَهُ بِإِسْلامِهِ وسبقه؛ فَكَانَ يُكْرِمُهُ[1].
وثمة موقف طريف حدث مع هؤلاء النفر لما قدموا المدينة، حيث قابلوا أبا بكر يسألونه عن كيفية لقاء محمد، فقال أبوبكر : من أنتم ؟ فقالوا : رهط من غسان، قد قدمنا على محمد، نسمع من كلامه ونرتاد لقومنا .
قال أبو بكر: فانزلوا حيث ينزل الوفد!
قالوا : وأين ينزل الوفد ؟
قال: دار رملة بنت الحارث
[ وقد كان النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستقبل بعض الوفود بهذه الدار لشرفها، وسعتها ] .
ثم قال أبو بكر لرهط الغسسانة : ثم ائتوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكلموه !
فقالوا : ونقدر عليه كلما أردنا ؟
[ وقد ظنوا أنه يصنع كما يصنع الملوك من الاحتجاب عن الرعية ...]
فتبسم المسلم وقال : لعمري إنه ليطوف بالأسواق ويمشي وحده[2] !
صلى الله عليه ما أعظم تواضعه !
قال الرهط : كنا قومًا نسمع كلام النصارى وصفتهم رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ [أي في الكتب السماوية السابقة] وأنه يمشي وحده لا شرطة معه..
قلتُ : وفي ذلك خبرٌ في البخاري :
عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ : قَالَ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ قُلْتُ : أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي التَّوْرَاةِ قَالَ : أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ، بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ :
(" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا"، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلا غَلِيظٍ، وَلا سَخَّابٍ فِي الأسْوَاقِ، وَلا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ... " الحديث[3].
ثم قال الرهط : من أنت لك الجنة ؟
قال : أنا أبو بكر بن أبي قحافة
فقالوا : أنت فيما يزعم النصارى تقوم بهذا الأمر بعده ؟
قال أبو بكر : الأمر إلى الله عز وجل ؟
ثم مضى الوفد إلى دار رملة بنت الحارث للقاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال لهم: "أنتم الغسانيون" ؟
قالوا : نعم .
قال:" قدمتم مرتادين لقومكم، فما انتفعتم بعلم من كان معكم من أهل الكتاب؟"
فقالوا : يا محمد لم نر أحدا منهم اتبعك فوقفنا عنك لذلك، ونحن الآن على غير ما كنا عليه فالإم تدعو ؟
قال : "أدعو إلى الله، وحده لا شريك له ، وخلع ما دُعي من دونه، وأني رسول الله "!
توصية عملية :
اسع في الخير كما سعى هؤلاء النفر . وتعلمْ من تواضع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
---------------------
[1]انظر : زاد المعاد 3 / 585
[2] سليمان بن موسى الكلاعي : الاكتفاء، (2 / 291)
[3]البخاري : 1981