مقابلة بني شيبان
في أوج معمعة التنكيل بالمسلمين برمضاء مكة، وبعد وفاة العم والزوج، وبعد رحلة مُرة إلى الطائف؛ كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يَعرض نفسه على القبائل، في موسم الحج، كان يمر على الجماعات في الأسواق، ومواسم الحج، ولا يترك شريفًا معروفًا ولا شاعرًا مشهورًا ولا حكيمًا مُطاعًا إلا عرض عليه الإسلام . وكان قد ركز جهده في السنوات الثلاث الأخيرة قبل الهجرة على البحث عن وطن جديد يكون مقر دولة الإسلام؛ يحتضن الدعوة والداعية؛ حتى تتم رسالة الله . وكان يقول هو يدور على الناس ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ :
« مَنْ يُئْوِينِى ؟ مَنْ يَنْصُرُنِى ؟ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّى، وَلَهُ الْجَنَّةُ »[1] .
***
وكانت له مقابلة تاريخية - أطنب فيها الباحثون – مع قبيلة بني شيبان، تلك القبيلة العربية التي حالفت الفرس، على ألا يأووا مُحْدثًا.. تلك القبيلة العربية القوية التي احتضنت ثلة من نوابغ العرب كانوا من أبنائها، أمثال : المثنى بن حارثة الشيباني، وهانئ بن قبيصة، وكان من نسل هذه القبيلة فيما بعد الأمام أحمد بن حنبل – إمام أهل السنة - ويزيد بن مزيد وغيرهم من العلماء والقادة..
إذنْ نقف وقفة إجبار وإجلال عند حصافة أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – نسَّابة العرب - عندما اقترح على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يعرض الدعوة على بني شيبان.
فقال أبو بكر للنبي – صلى الله عليه وسلم –:
" بأبي وأمي، هؤلاء غُرَر الناس، وفيهم (مفروق) قد غلبهم لسانًا وجمالاً "[2] .
أي : بأبي أنت وأمي يا رسول الله – صلى الله عليك – هؤلاء بنو شيبان من أكابر العرب وأحسنهم، وزعيمهم " مفروق" يفضلهم حكمة وجمالاً.
ومن ثم توجه أبو بكر برسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى مخيم بني شيبان في عرصات الحج.
ودار هذا الحوار الماتع:
تقدم أبو بكر فسلم فقال: من القوم؟
قالوا: شيبان بن ثعلبة
فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟
فقال مفروق: إنا لا نزيد على الألف ولن تغلب ألف من قلة.
فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟
فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى. وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة، ويديل علينا أخرى .. لعلك أخو قريش؟
فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فها هو ذا !
فقال مفروق: إلام تدعونا يا أخا قريش؟
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني عبد الله ورسوله، وإلى أن تُؤووني وتنصروني، فإن قريشًا قد تظاهرت على الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد»
فقال مفروق، وإلام تدعو أيضًا يا أخا قريش؟ فوالله ما سمعت كلامًا أحسن من هذا .
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) [الأنعام: 151].
فقال مفروق: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك, وظاهروا عليك ..
ثم رد الأمر إلى هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا، وصاحب ديننا.
فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى تركنا ديننا, واتباعنا دينك لمجلس جلست إلينا، لا أول له ولا آخر لذل في الرأي, وقلة نظر في العاقبة أن الزلة مع العجلة، وإنا نكره أن نعقد على من وراءنا عقدًا، ولكن نرجع وترجع، وننظر..
ثم كأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا !
فقال المثنى -وأسلم بعد ذلك-: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة، في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك وإنا إنما نزلنا بين صَرَيَين أحدهما اليمامة والآخر السَّمامة !
فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ما هذان الصريان» ؟؟
قال: أنهار كسرى، ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى، فذنب صاحبه غير مغفور, وعذره غير مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى، أن لا نحدث حدثًا ولا نؤوي محدثًا, وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكره الملوك, فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب، فعلنا.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قولته التي أبان فيها سمة أساسية من سمات منهج الله، وعمدة عميدة من عماد النظام الإسلامي، أنه شاملٌ لكل مجالات الحياة، وأنه جزء واحد لا يتجزء:
«ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟» فقال النعمان بن شريك: اللهم فلك ذاك[3].
لماذا رفض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – هذه الفرصة ؟
إنها فرصة بكل المقاييس، أن يرى المستضعفون أنصارًا لهم على أتم الاستعداد أن يدفعوا عنهم ظلم ظالميهم من العرب، علمًا بأن المستضعفين لا يشغلهم أمر الفرس في الوقت الراهن على الأقل ..
ألف فارس عربي من بني شيبان الأبطال في تمام التجهيز، في أتم الاستعداد لضرب قريش !
ولكن لماذا رفضت يا رسول الله ؟
لا شأن لنا الآن بفرس أو كسرى، وعدونا في وقع الأمر هو ذلك الوثني القابع في مكة، الصاد عن سبيل المؤمنين، الذي ألهب ظهور المسلمين، وحرَّق جلود المستضعفين في ساحات مكة ، وقتل الضعفاء أمثال سمية وياسر، وهجّر الموحدين إلى وسط أفريقيًا .. !
ولِـمَ لا نرحل إلى بني شيبان، فنهاجر إليهم حتى إذا قويت شوكتنا على العرب، أو كره الفرس مقامنا بين إخواننا من بني شيبان، انتقلنا إلى ركن آخر ركين، فنجونا من سياط العرب وأعددنا العدة !!!
.............
.............
لعل هذه التساؤلات تدور بخلد القارىء !
والحق أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رفض عرض بني شيبان لعدة أسباب :
1-أنه لا أنصاف حلول في الأصول، فالإسلام نظام شامل، لا يقوم إلا شاملاً، فمن ينصره على العرب لابد أن ينصره على العجم، وإلا فلن ينتصر أبدًا، ويصير بددًا !
2-أن الجهاد الصادق المتجرد، جزء لا يتجزء من الإسلام، فكما لا يصح إسلام قوم تعاقدوا على صلاة الظهر دون العصر، فكذلك لا يصح إسلام قوم تعاهدوا على الجهاد في وجه دون آخر .. فالصلاة وحدة واحدة لا تتجزء، وكذلك الجهاد..
3- أن الحصافة السديدة وبعد النظر، يقتضيان رفض عرض بني شيبان، فلقد قالوا بصريح العبارة أنهم على استعداد أن يقفوا في وجه العرب لحمايتهم بيد أنهم لا يستطعيون ذلك مع الفرس، فلعل الدائرة تدور، فينتقل المسلمون من جحيم العرب إلى جحيم الفرس، فيستغيث المسلم بالنار من الرمضاء .. فيجمع المسلمون على أنفسهم عدوين، إذ كيف يكون الحال لو طلب كسرى من بني شيبان " تسليم محمد " ؟ !
من حاطه من جميع جوانبه ؟
إذًن؛ .. من الذي سينصر دين الله ؟ ومن الذي سيقيم نظام الإسلام في الأرض ؟ ومن الذي سيطبق الشرع الإسلامي السمح ؟ ومن الذي سينصر الإسلام ؟
نعم ..
"من حاطه من جميع جوانبه " !
فكل فرد حاط الإسلام من جميع جوانبه، عقيدة، وعبادة، ومعاملات، وأخلاق، وفكر، وحركة، ودعوة، وجهاد- فهو ناصر لدين الله قائم على شرعه، وهو أحق الناس بالتمكين .
وكل دولة حاطت الإسلام من جميع جوانبه، في العقيدة والعبادة، في الأخلاق والمعاملات، في السياسة والسلطة، في الرحمة والعدل، في العلم والقضاء، في التجارة والاقتصاد، في الجهاد والجيش .. ولم تفصل بين الإسلام والسياسة - فالسياسة جزء من الإسلام -، ولم تفصل بين الإسلام والاقتصاد- فالاقتصاد جزء من الإسلام كذلك-، ولم تفصل بين الإسلام والتربية - فالتربية جزء من الإسلام أيضًا -.... ولم تفصل الإسلام عن الحياة، أو الحياة عن الإسلام، فالإسلام منهج الحياة، والحياة لا تصلح دون الإسلام .
" وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى{124} قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً{125} قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى{126}" [ طه ] .
"إن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه"
فلا فائدة من تلك الدعوات الجزئية، والحركات المختلة، التي اجتزئت الإسلام، فتشبثت بجزء من الإسلام ونامت عن جزء، أو أحيت جزءًا وأماتت جزءًا آخر، فهذه الدعوات أفادت وأضرت، وأصابت وأخطأت، وقدمت وأخرت، وذلك لأنها لم تحط بالإسلام من جميع جوانبه.
فمن هذه الدعوات من جعلت من الإسلام مجرد تعاويذ وتصوف .
ومن هذه الدعوات من جعلت من الإسلام هجرة وانقلابًا، وتكفيرًا وتفسيقًا .
ومن هذه الدعوات من جعلت من الإسلام متونًا تُحفظ، وكتبًا تُدرس، ولا اجتهاد، وأّخذت تحَّفظ الناس : لم يُبقْ الأولُ شيئًا للآخر، وكل شر في اتباع من خلف.
ومن هذه الدعوات من جعلت الإسلام فِرَقًا ومذاهب، وفتنًا وملاحم، وليس لنا من الأمر شيء سوى انتظار المهدي المنتظر، والمجدد المعتبر، وما علينا من واجب سوى أن نعض بجزع شجرة، ونعتزل الناس والفجرة، فالعالم يموج بفتن عمياء، وحرب صماء، وقصور مشيدة وآبار معطلة، ونساء عاريات، وليال ماجنات ..
وبين هذه الدعوات والفرق والملل، نرى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يرسم بيده الكريمة خطوطًا يمنة ويسرة، ثم يضع يده الطاهرة على الخط الأوسط مناديًا :
"هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ !! "
ثم تلا هذه الأية الكريمة :
" وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ "[4].
أدلة الشمولية :
وهذه بعض أدلة الشمولية من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
إياك نستعين :
قال الله تعالى " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ "
فلا عبادةَ إلا لرب العالمين، ولا استعانةَ إلا له سبحانه.
وتقديمُ المفعولِ " إياك "، يفيد الحصرَ، أي لا معبود إلا الله، ولا مستعان إلا الله، فلو قال : " أعبدك" لجاز للعبد أن يعبده ويعبد غيره .
إياك نعبد .. هذا في مجال الدين .
وإياك نستعين .. هذا في مجال الدنيا .
وهكذا نقرأ " مبدأ شمولية الإسلام" في أول سورة وأعظم سورة .
إنه ـ سبحانه ـ يعلمنا أن علاقة العبد بربه، ليست علاقةَ عبوديةٍ فحسب، بل عبودية واستعانة، ليعلمْ المسلم ـ وهو يردد هذه السورة في صلاوته وأوراده ـ أن الله ـ تعالى ـ أنزل منهجًا، وأنه يقوم على دُعامتين أساسيتين، الأولى : "جانب العبادة"، ويندرج تحتها ، الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والذكر ...الخ .
والثانية : " جانب الاستعانة"، ويندرج تحتها، الحُكم، والقضاء، والحدود...الخ
وعجيبٌ جدًا أن يأتي اللفظ بصيغة الجمع، فلم يقل : إياك أعبد، وإياك أستعين، فروح الجماعة هي الأصل في المسلمين، ولا قيام للإسلام إلا بالجماعة، ولن تخرج هذه الآيات والأحكام إلى حيز التطبيق العملي بالشكل الذي يحبه الله إلا إذا تضافر الجميع، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية .
ثم إن صيغة الجمع لهي دليل على "الشمولية" التي أخذناها من هذه الآية.
" نعبد"، و" نستعين"، كلمتان تنطق بها الجماعة بالأحرى، تنطق بها الدولة المؤمنة، تقول لربها، أنا أعبدك زَرَافاتٍ ووُحْدَاناً، وأستعين بك فأحكِّمُ شرعك، وأمضي أمرك{ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }يوسف40.
ادخلوا في الإسلام كله
قال الله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ " [ البقرة : 208]
قال ابن كثير – رحمه الله – أي : "أنْ يأخذوا بجميع عُرَى الإسلام وشرائعه"[5].
توضيحًا لكل شىء
قال الله تعالى : " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ " [النحل89]..
قال الإمام الطبري ـ رحمه الله ـ :
"نزل عليك يا محمدُ هذا القرآن بيانا لكلّ ما بالناس إليه الحاجة من معرفة الحلال والحرام، والثواب والعقاب، (وَهُدًى) من الضلال(وَرَحْمَةً) لمن صدّق به، وعمل بما فيه من حدود الله ، وأمره ونهيه، فأحل حلاله ، وحرّم حرامه( وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) "[6] .
فَرُدُّوهُ إِلَى الكتاب والسنة:
قال الله تعالى : " فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر " [ النساء : 59 ]
قال الشيخ سيد قطب في تفسير هذه الآية :
"وبهذا يبقى المنهج الربانيُ مهيمناً على ما يطرأُ على الحياةِ من مشكلات وأقضية كذلك ، أبد الدهر ، في حياة الأمة المسلمة . . وتمثلُ هذه القاعدةُ نظامها الأساسي ، الذي لا تكونُ مؤمنةً إلا به ، ولا تكون مسلمةً إلا بتحقيقه . . إذ هو يجعلُ الطاعةَ بشروطها تلك، ورد المسائل التي تجدُّ وتختلف فيها وجهاتُ النظر إلى الله ورسوله . . شرط الإيمان وحد الإسلام . . شرطاً واضحاً ونصاً صريحاً "[7].
ما كان لهم الخيرة !
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً }الأحزاب36
أي : "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَة إذَا قَضَى اللَّه وَرَسُوله أَمْرًا أو حُكمًا أَنْ يَكُون" "لَهُمْ الْخِيرَة" أَيْ: الِاخْتِيَار "مِنْ أَمْرهمْ" بِخِلافِ حُكم اللَّه وَرَسُوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة، فدخل على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها، فقالت: لست بناكحته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل فانكحيه". قالت: يا رسول الله، أؤامر في نفسي. فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسوله صلى الله عليه وسلم: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا } الآية، قالت: قد رضيته لي منكحا يا رسول الله؟ قال: "نعم". قالت: إذًا لا أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أنكحته نفسي[8].
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ : خَطَبَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى جُلَيْبِيبٍ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ إِلَى أَبِيهَا، فَقَالَ : حَتَّى أَسْتَأْمِرَ أُمَّهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : " فَنَعَمْ إِذًا".
قَالَ : فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ إِلَى امْرَأَتِهِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهَا، فَقَالَتْ : لاهَا اللَّهُ إِذًا !! مَا وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَّا جُلَيْبِيبًا، وَقَدْ مَنَعْنَاهَا مِنْ فُلانٍ وَفُلانٍ . قَالَ : وَالْجَارِيَةُ فِي سِتْرِهَا تَسْتَمِعُ، قَالَ : فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يُخْبِرَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِذَلِكَ فَقَالَتْ الْجَارِيَةُ : أَتُرِيدُونَ أَنْ تَرُدُّوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَمْرَهُ ؟ إِنْ كَانَ قَدْ رَضِيَهُ لَكُمْ فَأَنْكِحُوهُ !
فَكَأَنَّهَا جَلَّتْ عَنْ أَبَوَيْهَا، وَقَالا: صَدَقْتِ !! فَذَهَبَ أَبُوهَا إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ : إِنْ كُنْتَ قَدْ رَضِيتَهُ، فَقَدْ رَضِينَاهُ، قَالَ: " فَإِنِّي قَدْ رَضِيتُهُ"، فَزَوَّجَهَا ...[9].
والشاهد قول الفتاة المؤمنة : أَتُرِيدُونَ أَنْ تَرُدُّوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَمْرَهُ ؟ إِنْ كَانَ قَدْ رَضِيَهُ لَكُمْ فَأَنْكِحُوهُ !
الحُكم إلى الله :
قال الله تعالى : " وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ " [ الشورى : 10]
قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله ـ :
ولم يقل إلى قياساتكم وآرائكم . ولم يجعل اللهُ آراءَ الرجال، وأقيستها حاكمةً بين الأمة أبداً "[10]
وقال سيد قطب – رحمه الله - :
"إنه يرد كلَ اختلاف يقع بين الناس إلى الله : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) . . والله أنزل حكمه القاطعَ في هذا القرآن؛ وقال قوله الفصلَ في أمر الدنيا والآخرةِ؛ وأقام للناس المنهج الذي اختاره لهم في حياتهم الفردية والجماعية ، وفي نظام حياتهم ومعاشهم وحكمهم وسياستهم ، وأخلاقهم وسلوكهم . وبيّن لهم هذا كلَّه بياناً شافيًا . وجعل هذا القرآنً دستوراً شاملاً لحياة البشر، أوسع من دساتير الحكم وأشمل . فإذا اختلفوا في أمر أو اتجاه فحكم الله فيه حاضر في هذا الوحي الذي أوحاه إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -لتقوم الحياة على أساسه"[11].
فَصَّلْنَاهُ :
قال الله تعالى : " وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا " [ الإسراء : 12 ]
قال الإمام الطبري:
" يقول: وكلّ شيء بيناه بيانًا شافيًا لكم أيها الناس لتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من نعمه، وتخلصوا له العبادة، دون الآلهة والأوثان "[12]
مصدر الحُكم :
قال الله تعالى : " وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله " [ المائدة : 49 ] .
وهو نص مُحكم في جوب الحكم بما أنزل الله وتطبيق الشريعة الإسلامية على جميع المستويات : الفرد والمجتمع والدولة.
ولقد قرن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بين فريضة الصلاة وفريضة الحُكم بما أنزل الله في الحديث الذي أسلفنا ذكره :
" لَيُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلاةُ"[13].
في أي مسألة مستجدة :
قال الله تعالى : " فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ " [ النساء : 65]. فنفى الإيمان عمن لا يتحاكم إليه في حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ومن ثم نفى الإيمان عمن لا يتحاكمون إلى منهجه بعد وفاته، وهو القائل في حجة الوداع :
"وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ؟ "[14] .
العلة من إنزال الكتاب :
قال الله تعالى : " إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله " [ النساء : 105 ] وتأمل : لم يقل بما رأيت أنت .
الصفة الأولى لمن ترك الشريعة:
قال الله تعالى : " وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون " [ المائدة : 44 ] .
قال سيد قطب ـ رحمه الله ـ:
"بهذا الحسمِ الصارمِ الجازم . وبهذا التعميمِ الذي تحمله « من » الشرطيةُ وجملةُ الجواب . بحيث يخرج من حدود الملابسةِ والزمان والمكان ، وينطلق حكماً عاماً، على كل من لم يحكم بما أنزل الله ، في أي جيل ، ومن أي قبيل . .
"وعلةُ ذلك أن الذي لا يحكم بما أنزل الله ، إنما يرفض ألوهيةَ الله . فالألوهيةُ من خصائصها ومن مقتضاها الحاكميةُ التشريعيةُ . ومن يحكم بغير ما أنزل الله ، يرفض ألوهيةَ الله وخصائصها في جانب ، ويدعي لنفسه هو حقَ الألوهيةِ وخصائصها في جانب آخر . . وماذا يكون الكفر إن لم يكن هو هذا وذاك؟ وما قيمة دعوى الإيمان أو الإسلام باللسان ، والعمل - وهو أقوى تعبيراً من الكلام - ينطق بالكفر أفصح من اللسان؟!
"إن المماحكة في هذا الحكم الصارم الجازم العام الشامل ، لا تعني إلا محاولة التهرب من مواجهة الحقيقة . والتأويل والتأول في مثل هذا الحكم لا يعني إلا محاولة تحريف الكلم عن مواضعه . . وليس لهذه المماحكة من قيمة ولا أثر في صرف حكم الله عمن ينطبق عليهم بالنص الصريح الواضح الأكيد "[15].
الصفة الثانية لمن ترك الشريعة :
قال الله تعالى : " وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون " [ المائدة : 45 ] .
قال سيد قطب – رحمه الله - :
" وهذا الوصف الجديد لا يعني أنها حالةٌ أخرى غير التي سبق الوصف فيها بالكفر . وإنما يعني إضافةُ صفةً أخرى لمن لم يحكم بما أنزل الله . فهو كافر باعتباره رافضاً لألوهية الله - سبحانه - واختصاصه بالتشريع لعباده ، وبادعائه هو حق َالألوهية بادعائه حق التشريع للناس . وهو ظالم بحمل الناس على شريعة غيرِ شريعة ربهم ، الصالحة المصلحة لأحوالهم"[16].
الصفة الثالث لمن ترك الشريعة :
قال الله تعالى : " وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون " [ المائدة : 47 ] .
قال سيد قطب – رحمه الله - :
" وصفة الفسق تضاف إلى صفتي الكفر والظلم من قبل . وليست تعني قوماً جدداً ولا حالةً جديدة منفصلة عن الحالة الأولى . إنما هي صفةٌ زائدة على الصفتين قبلها ، لاصقةً بمن لم يحكم بما أنزل الله من أي جيل ، ومن أي قبيل .
الكفر برفض ألوهية الله ممَثلاً هذا في رفض شريعته . والظلمُ بحمل الناس على غير شريعة الله وإشاعة الفساد في حياتهم . والفسقُ بالخروج عن منهج الله واتباع غير طريقه . . فهي صفات يتضمنها الفعل الأول ، وتنطبق جميعها على الفاعل . . ويبوء بها جميعاً دون تفريق"[17].
لا تقدموا قانونًا على قانون الله :
قال الله تعالى : "ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ " [ الحجرات : 1 ].
أي لا تقدموًا حُكمًا على حكم الله، وأمرًا على أمر الله، أو قانونُا على قانون الله.
السؤال عن أعمال الدين :
قال الله تعالى : " فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ " [الحجر : 92، 93]
عما كانو يعملون في مجالات الحياة جميعها، من إصلاح وإفساد، ومن استقامة وانحراف، من عدل وظلم، من حق وباطل .. في خاصتهم وعامتهم، الكبير والصغير، الحاكم والمحكوم، والقائد والمقود..
المحيا والممات لله :
قال الله تعالى : " قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) " [ الأنعام ].
"إنه التجرد الكامل لله ، بكل خالجة في القلب وبكل حركة في الحياة . وبالصلاة والاعتكاف . وبالمحيا والممات . بالشعائر التعبدية ، وبالحياة الواقعية ، وبالممات وما وراءه."[18].
لا ركون ولا تعطيل :
قال الله تعالى : " وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) "
ففي قوله تعالى : " وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا "، دلالة على عصمة الله لنبيه من الميل للكافرين في بعض الأحكام.
وفي ذلك رُوي أنّ ثقيفاً قالت للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لا نَدْخُلُ في أَمْركَ حتى تُعْطِينَا خِصَالاً نَفْتَخِرُ بها على العَرَبِ : لا نُعشَّرُ ، وَلا نُحشَّرُ ، وَلاَ نَحْنِي في صَلاَتِنَا ، وكُلُّ رِبًا لنَا فهُو لنَا ، وكلُّ رِبًا عَلَيْنَا فهو مَوْضُوعٌ ، وأنْ تُمَتِّعنا باللات سَنَةً ، وأن تُحَرِّمَ وَادِيَنا كما حرمت مكة ، فإذا قالت العَرَبُ : لِمَ فَعَلْتَ؟ فقُل : الله أَمَرَنِي بذلك . فأبى عليهم رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وخيب سعيهم !!! فنزلت الآيات[19] .
الدين كله :
قال الله تعالى : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }الأنفال39
قوله تعالى : " وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه " فيه إشارة بوجوب تطبيق الدين كله .
العلمانيون القدماء :
قال الله تعالى : {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ }هود87
يبدوا أن العلمانيين كانوا في عهد شعيب !
هؤلاء يقولون : هل تعاليم دينك يا شعيب تأمرك أن نترك الغش وأكل الأموال بالباطل.
قال صاحب الظلال :
"فهم لا يدركون أولا يريدون أن يدركوا أن الصلاة هي من مقتضيات العقيدة ، ومن صور العبودية والدينونة . وأن العقيدة لا تقوم بغير توحيد الله ، ونبذ ما يعبدون من دونه هم وآباؤهم ، كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شرائع الله في التجارة وفي تداول الأموال وفي كل شأن من شئون الحياة والتعامل . فهي لحمة واحدة لا يفترق فيها الاعتقاد عن الصلاة عن شرائع الحياة وعن أوضاع الحياة "[20].
"يحسن أن نذكر أن الناس اليوم لا يفترقون في تصورهم ولا في إنكارهم لمثل هذه الدعوة عن قوم شعيب . وأن الجاهلية التي نعيش فيها اليوم ليست أفضل ولا أذكى ولا أكثر إدراكاً من الجاهلية الأولى! وأن الشرك الذي كان يزاوله قوم شعيب هو ذاته الشرك الذي تزاوله اليوم البشرية بجملتها بما فيها أولئك الذين يقولون : إنهم يهود أو نصارى أو مسلمون فكلهم يفصل بين العقيدة والشعائر . والشريعة والتعامل . فيجعل العقيدة والشعائر لله ووفق أمره ، ويجعل الشريعة والتعامل لغير الله ، ووفق أمر غيره . . وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله . ."[21].
الخلوة أم الجهاد ؟
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَرَّ بِشِعْبٍ فِيهِ عَيْنٌ عَذْبَة،ٌ فَأَعْجَبَتْهُ ـ يَعْنِي طِيبَ الشِّعْبِ ـ فَقَالَ : لَوْ أَقَمْتُ هَاهُنَا وَخَلَوْتُ، ثُمَّ قَالَ : لَا حَتَّى أَسْأَلَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ :
" مُقَامُ أَحَدِكُمْ ـ يَعْنِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ ـ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ أَحَدِكُمْ فِي أَهْلِهِ سِتِّينَ سَنَةً، أَمَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَتَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ؟ جَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ! مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ "[22].
من أين أتى الذل :
عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ :سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ : " إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ؛ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا، لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ "[23] .
وفيه تحذير من ترك بعض فرائض الدين، وكان عقاب ترك بعض هذه الفرائض أن ضرب الله الذل على الأمة .
وفي هذا الحديث فضيلة عظيمة للجهاد أن سماه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دينًا، فذكر الذنب : " تركتم الجهاد"، والتوبة منه : " ترجعوا إلى دينكم" يعني إلى الجهاد .
أدلةٌ أخرى في مجالات شتى
هذا، ويعج المصحف الشريف، بمئات النصوص التشريعية في مجالات الحياة المختلفة كل على حدى، ومثال ذلك:
في القصاص ..
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) " [ البقرة ].