شبهة أن الرسول يسب ويلعن
لجأ بعض المضللون إلى القول بأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يتطاول (وحاشا لله أن يكون كذلك) بلسانه على المسلمين فكان يسبهم ويلعنهم وهذا يعد مخالفا لما أمر به أصحابه من عفة الألسن وصيانتها
دليل الشبهة
عن عَائِشَةَ قالت: دخل على رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلَانِ فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ لَا أَدْرِى ما هو فَأَغْضَبَاهُ فَلَعَنَهُمَا وَسَبَّهُمَا فلما خَرَجَا قلت: يا رَسُولَ اللَّهِ من أَصَابَ من الْخَيْرِ شيئا ما أَصَابَهُ هَذَانِ قال (وما ذَاكِ) قالت قلت: لَعَنْتَهُمَا وَسَبَبْتَهُمَا قال صلى الله عليه وسلم: (أَوَ ما عَلِمْتِ ما شَارَطْتُ عليه رَبِّى قلت اللهم إنما أنا بَشَرٌ فَأَى الْمُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ أو سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْهُ له زَكَاةً وَأَجْرًا) ([1])
الرد على الشبهة
بالنظر فى تلك الشبهة فإنه يفوح منها رائحة تعمد الفهم الغير صحيح لسيرته وسلوكه صلى الله عليه وسلم .
الحكم على الحديث
هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة فقد بينا فى تأصيله أنه من الأحاديث التى أخرجها الإمام مسلم رضى الله عنه وكذلك ورد فى عدة روايات أخرى ([2]) ولذا فإن الحديث صحيح
معنى الحديث
تحكى لنا السيدة عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها موقفا من عشرات المواقف التى قصتها لنا من حياته صلى الله عليه وسلم وكيف وأنه قد دخل عليه رجلان لم تعرف فيما أتيا له صلى الله عليه وسلم وتقول وأغضباه أى أن الرجلين أتيا بكلامهما أو بفعلهما أمرا أغضب النبى صلى الله عليه وسلم فسمعته يسبهما ويلعنهما فلما خرجا من عنده سألته فى ذلك فقال لها صلى الله عليه وسلم إنه قد عاهد الله تبارك وتعالى بعهد ألا وهو أن أى إنسان سبه النبى صلى الله عليه وسلم أو شتمه من المسلمين فإن ذلك يقع مغفرة من الله على من وقع عليه هذا السب أو الشتم وذلك بشرط كونه مستحقا لهذه المغفرة والرحمة
سبابه ليس كسبابنا
أمر بديهى أن يفكر أى إنسان فى هذا الأمر كيف يكون النبى صلى الله عليه وسلم سبابا أو لعانا ولكن ألا تفكر أولا فى كيف كان سبابه صلى الله عليه وسلم ومتى كان يفعل ذلك.
ولو أن أحدهم فتح كتب السنة أو اطلع على أحد كتب شروح الحديث لعلم أن عادة العرب قديما اعتادت السب بألفاظ لا تعد فى عصرنا هذا سبابا بالمرة ولم يكن الغرض منها السباب بالمفهوم العصرى وإنما كان الغرض منها الحث على فعل أمر أو النهى عنه وكانوا يستعملون ألفاظا معينة لذلك ولنضرب على ذلك أمثلة
تربت يداك
وهو لفظ يقصد به الحث على فعل أمر من الأمور وإن لم يفعله صاحبه أصيب بالفقر مثلا .
ثكلتك أمك
لفظ يقال عندما يسأل السائل سؤالاً غريبا غير معتاد ما كان يجب له أن يسأل مثله
وهذا ما نقل عن عياض رضى الله عنه فى تأويل هذا الحديث النبوى الشريف([3])
الأمثلة من السنة
1- عن أبى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)([4])
وجه الدلالة
بين الحبيب صلى الله عليه وسلم الصفات التى تنكح من أجلها المرأة وأن أهم معول عليه فى الاختيار هو التدين
أما قوله صلى الله عليه وسلم تربت .
قول صاحب فتح البارى:
يقول صاحب فتح الباري: تربت يداك قصد به لصقتا بالتراب وهى كناية عن الفقر وهو خير بمعنى الدعاء لكن لا يراد به حقيقته وبهذا جزم صاحب العمدة زاد غيره أن صدورذلك من النبى صلى الله عليه وسلم فى حق مسلم لا يستجاب لشرطه ذلك على ربه ([5])
2- عن عِكْرِمَةَ قال صَلَّيْتُ خَلْفَ شَيْخٍ بِمَكَّةَ فَكَبَّرَ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً فقلت لابن عَبَّاسٍ إنه أَحْمَقُ فقال ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ سُنَّةُ أبى الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم ([6])
وجه الدلالة
أن عكرمة صلى هو وعبد الله بن عباس رضى الله عنهما خلف شيخ فى مكة فزاد هذا الشيخ فى عدد التكبيرات فى صلاته فاعترض عليه عكرمة وقال لابن عباس رضى الله عنهما إنه أحمق أى ما كان له أن يفعل ذلك
وأما عن قوله ثكلتك أمك
فيقول صاحب فتح البارى
فكأنه دعا عليه أن يفقد أمه أو أن تفقده أمه لكنهم قد يطلقون ذلك ولا يريدون حقيقته ([7])
ومما سبق يتضح لنا أن الألفاظ التى كانت تستعمل عندالعرب لم يكن المقصود منها السباب فى حد ذاته ولم تكن كتلك التى فى عصرنا هذا وحتى الغرض من هذه الألفاظ يختلف عما يحدث الآن
فالغرض من تلفظ العرب بهذه الألفاظ لا يخرج إلا عن كونه زجرا أو حثا أو منعا من أمر من الأمور
شهادة أنس
إن أولى الناس بالشهادة على خلق إنسان ما هم المجاورون والملازمون له فترة من الزمان وهذا أنس بن مالك رضى الله عنه يسجل شهادة تبقى إلى أن تقوم الساعة فى حق خير البرية وإليك بيانها
عن أَنَسِ بن مَالِكٍ قال: (خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ والله ما قال لى أُفًّا قَطُّ ولا قال لى لِشَيْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلَّا فَعَلْتَ)([8])
وجه الدلالة
يتضح من هذا الحديث النبوى الشريف أن النبى صلى الله عليه وسلم وعلى طوال فترة عشر سنين لم يعقب على خادمه أنس بن مالك رضى الله عنه بأى تعقيب فيما كان يأتى به من تصرفات وليس من المعقول أن يظل الخادم كل هذه الفترة بلا أخطاء يستحق عليها اللوم ولكن لو كان النبى صلى الله عليه وسلم سبابا كما زعمتم لتحدث أنس بموقف أو موقفين من الأمور التى دارت بينه وبين النبى صلى الله عليه وسلم ولكنه لما تحدث أثنى على مخدومه صلى الله عليه وسلم خير الثناء
البيان الثانى عن انس رضى الله عنه
(عن أَنَسِ بن مَالِكٍ رضى الله عنه قال لم يَكُنْ النبى صلى الله عليه وسلم سَبَّابًا ولا فَحَّاشًا ولا لَعَّانًا كان يقول لِأَحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ ما له تَرِبَ جَبِينُهُ)([9])
وجه الدلالة
ها هو أنس بن مالك رضى الله عنه يسجل شهادته مرة أخرى وينفى فيها عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان سبابا أو فحاشا وكان الله تبارك وتعالى قيد هذه الحقيقة على لسان أنس رضى الله عنه ليسجلها أصحاب السنن لتكون لنا سيفا ندافع به وباستماتة عن الحبيب صلى الله عليه وسلم
لم يسب من سبه صلى الله عليه وسلم
قد ثبت إذا أن النبى صلى الله عليه وسلم قد فعل ما فعل توبيخا وتأديبا للرجلين اللذان كانا عنده ولا بد أن نذكر هنا موقفا منه صلى الله عليه وسلم ينفى عنه أنه كان يسب ويلعن كما يدعى هؤلاء
عن عَائِشَةَ رضى الله عنها أَنَّ يَهُودَ أَتَوْا النبى صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ فقالت عَائِشَةُ: (عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمْ الله وَغَضِبَ الله عَلَيْكُمْ قال مَهْلا يا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ قالت أو لم تَسْمَعْ ما قالوا قال أو لم تَسْمَعِى ما قلت رَدَدْتُ عليهم فَيُسْتَجَابُ لى فِيهِمْ ولا يُسْتَجَابُ لهم فِيَّ) ([10])
وجه الدلالة
يوضح هذا الحديث النبوى الشريف أن بعضا من اليهود مروا على النبى صلى الله عليه وسلم بدلا من أن يحيوه بقولهم السلام عليكم قالوا له السام عليكم أى الموت عليكم فدعت عليهم السيدة عائشة بأن يكون الموت عليهم وأن يصيبهم غضب من الله فنهاها الحبيب صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمرها بالترفق ونهاها عن العنف والفحش وأخبرها بأن ما يقوله هؤلاء لا يؤثر فى الحبيب صلى الله عليه وسلم بل هو مردود عليهم
نهى عن السب
وهذه آخر نقطة أضعها فى الرد على هذه الشبهة ذلك لأنى فقط أردت أن أبين أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن مساوئ الأخلاق وأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم خالف قوله فعله بل كان التطابق منه صلى الله عليه وسلم فى الظاهر والباطن أمر حتمى فهو قدوة الناس أجمعين إلى جنة رب العالمين ولذا فإنه صلى الله عليه وسلم ينهى عن الكلام الذى لا خير فيه
وإليك الدليل
عن أبى هُرَيْرَةَ قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (من كان يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فلا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كان يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كان يُؤْمِنُ بِاللَّهِوَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أو لِيَصْمُتْ) ([11])
وجه الدلالة
جعل الحبيب صلى الله عليه وسلم من توابع الإيمان بالله ومقتضياته عدداً من الأمور من بينها قوله صلى الله عليه وسلم ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت فكيف يمكن القول بأنه كان سبابا وعموم الأدلة تثبت عكس ذلك
----------------------
[1]ـ صحيح مسلم جـ 4 صـ 2007 حديث رقم 2600 وهذا سنده حدثنا زُهَيْرُ بن حَرْبٍ حدثنا جَرِيرٌ عن الْأَعْمَشِ عن أبى الضُّحَى عن مَسْرُوقٍ
[2]ـ راجع فى ذلك فتح البارى جـ 11 صـ 171
[3]ـ فتح البارى جـ 11 صـ 171 وما بعدها
[4]ـ صحيح البخارى جـ 5 صـ 1958 حديث رقم 4802 وهذا سنده حدثنا مُسَدَّدٌ حدثنا يحيى عن عُبَيْدِ اللَّهِ قال حدثنى سَعِيدُ بن أبى سَعِيدٍ عن أبيه
[5]ـ فتح البارى جـ 9 صـ 137
[6]ـ صحيح البخارى جـ 1 صـ 272 حديث رقم 755 وهذا سنده حدثنا مُوسَى بن إِسْمَاعِيلَ قال أخبرنا هَمَّامٌ عن قَتَادَةَ
[7]ـ فتح البارى جـ 2 صـ 272
[8]ـ صحيح مسلم جـ 4 صـ 1804 حديث رقم 2309 وهذا سنده حدثنا سَعِيدُ بن مَنْصُورٍ وأبو الرَّبِيعِ قالا حدثنا حَمَّادُ بن زَيْدٍ عن ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ
[9]ـ صحيح البخارى جـ 5 صـ 2243 حديث رقم 5684 وهذا سنده حدثنا أَصْبَغُ قال أخبرنى بن وَهْبٍ أخبرنا أبو يحيى هو فُلَيْحُ بن سُلَيْمَانَ عن هِلَالِ بن أُسَامَةَ
[10]ـ صحيح البخارى جـ 5 صـ 2243 حديث رقم 5683 وهذا سنده حدثنا محمد بن سَلَامٍ أخبرنا عبد الْوَهَّابِ عن أَيُّوبَ عن عبد اللَّهِ بن أبى مُلَيْكَةَ
[11]ـ صحيح البخارى جـ 5 صـ 2240 حديث رقم 5672 وهذا سنده حدثنا قُتَيْبَةُ بن سَعِيدٍ حدثنا أبو الْأَحْوَصِ عن أبى حَصِينٍ عن أبى صَالِحٍ