أتيتَ والناسُ فوضى ...!
جاء، والناسُ بين ساجدٍ لوثنٍ، وعابدٍ لبقر، وخاضع لبشر، في جهل مُظلم، وفقرٍ مدقع، وغرم مفظع، ودم موجع، و رِقٍ غائر في العادات، وظُلم بائن للبنات، وفواحش مبثوثة في أرجاء الأرض، ومفاهيم مغلوطة صارت أصولاً راسخة في أذهان الناس،...،...، فلما كان كل ذلك؛ جاء الهدى، محمدٌ صلى الله عليه وسلم !
***
السؤال :
يا قارئي الكريم، ماذا قال قسٌ كبير جمعَ علوم الأديان بين جنبيه يصْفُ حالَ أهل الأرض عشية البعثة المحمدية ؟
الجواب :
قال : الشيخ إبراهيم خليل أحمد (القـس إبراهيم فيلـوبـوس سابقًا)، في كتابه: محمد في التوراة والإنجيل والقرآن ، ص 47:
"بينما كان العالم الشرقي والعالم الغربي بفلسفاتهما العقيمة يعيش في دياجير ظلام الفكر، وفساد العبادة، بزغ من مكة المكرمة في شخص محمد رسول الله نورٌ وضّاء؛ أضاء على العالم فهداه إلى الإسلام".
التعليق :
هكذا لخّص هذا الرجل ما دارت حوله الكتب والدراسات من إثبات حقيقة خروج النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى العالمين، في وقت بلغت فيه أمم الأرض دركة من الانحطاط لم تصل إليها من قبل، بل هي دركات، دركات في نواحٍ شتى، في التخلف العقدي، والضمور الفكري، والتراجع الثقافي، والانحلال الأخلاقي، والظلم الاجتماعي، والفساد السياسي.
***
العرب
بُعث النبيُ – صلى الله عليه وسلم – والأرضُ تمر بساعة حرجة، فقد كانت البشرية تعاني صنوف الجهل والظلم .
أما العرب؛ - على ما فيهم من صفات الكرم، والفروسية والشجاعة، والذكاء، والقِيَافة، والفصاحة والنظافة - فكانوا يعبدون الأوثان، ويئدون البنات، ويرثون النساء كما يرثُ أحدهم الدابة، ويتكسبون من وراء الدعارة، وأنشأوا بيوتًا مخصصة لذلك، فضلاً عن عادات قبيحة أخرى تفشت فيهم؛ من نعرات عصبية، وحروب على توافه الأمور، وكانت فيهم حروب طوال على مدار عقود، هلكت فيها أجيالٌ، أهمها:
1- حرب ابني قيلة : وهم الأوس والخزرج، وهي حرب بعاث، وكانت حتى بعثة الرسول -صلى الله عليه سلم- .
2- وحرب ابنى وائل : بكر وتغلب ( وهي حرب البسوس ) على مدار أربعين سنة.
3- وحرب ابنى بغيض : عبس وذبيان، في مجرى داحس وغبراء، كانت بينهم نحواً من أربعين سنة .
وهذه الثلاثة يسمونها الحروب الطوال .
وبين هذه الحروب الكبرى؛ لم يذكروا حرب الفجار، تلك التي كانت في مكة ! وفي الـحَرم ! وفي الحُرم ! وذلك لحقراتها من حيث المدة وعدد القتلى مقارنةً بحروب بعاث والبسوس وداحس التي دارت رحاها عقودًا، وقُتل في سبيل هذه الحروب رجالٌ ورجالٌ ورجالٌ؛ ولكن في سبيل ناقة أو دون ذلك !
ومن ثم لك أن تتخيل حالة الهدوء التي عاشتها الجزيرة العربية بعد البعثة المحمدية.
لقد كانت جزيرة العرب تموج بالظلم والتخلف .. إلى أن أرسل الله برحمته محمدًا – صلى الله عليه وسلم -
يقول الباحث الفرنسي "هنري ماسيه " في كتابه "الإسلام " :
"بفضل إصلاحات محمد [ صلى الله عليه وسلم]الدينية والسياسية - وهي إصلاحات موحدة بشكل أساسي- فإن العرب وعوا أنفسهم، وخرجوا من ظلمات الجهل والفوضى، ليعدّوا دخلوهم النهائي إلى تاريخ المدنية" [ ص 55]
الرومان
أما أوربا فقد كانت في ظلام تحت ظلال الكنيسة، فكان الحُكم الكنسي المتعصب؛ القائم على كراهية الآخر، الثائر على الأديان، القاتل للعلم والمعرفة، حيثُ حُرّمت القراءةُ والكتابةُ على عامة الناس، فضلاً عن تكبيل هؤلاء العامة بالحَجْر الفكري ضد أي مذهب مسيحي أو غير مسيحي يخالف مذهب الكنيسة، ومن ثم تم تحريّق المعارضين بالنار، وتغريّق المخالفين في الماء.
وتزايدت المكوسُ و الإتاوات على كاهل الرعية؛ ومن ثم كثرت الثورات، وتنامت الفوضى .
وتفشى الانحلال الأخلاقي، وانتشرت كل ضروب العهر في الفئات الغنية .
مصر
وفي مصر، التي كانت تابعة لكنسية أوربا، قام ( قيرس ) – عامل الكنيسة - في مصر على مدار عشر سنين؛ يفعل بالمصريين ما يشيبُ له الولدان، فقد أوقد المحارق للمخالفين، وسلط النيران على أجساد الأبرياء لإكراههم على اعتناق مذهب الكنيسة الحاكمة، وذكرت كتب التاريخ نماذجَ لوسائل التعذيب التي مارسها الرومان على المصريين، وأطنبوا في ذكرها، حتى شبهوها بمحاكم التفتيش التي كانت في الأندلس . .
نعم .. لقد أكُرهت مصر على النصرانية .
يؤكد ذلك التاريخ والمؤرخون على اختلاف مرجعياتهم، وتأمل ما قاله الباحث الفرنسي " جوستاف لوبون ":
"ولقد أكرهت مصر على انتحال النصرانية . ولكنها هبطت بذلك إلى حضيض الانحطاط الذي لم ينتشلها منه سوى الفتح العربي[1] ، وكان البؤس والشقاء مما كانت تعانيه مصر التي كانت مسرحاً للاختلافات الدينية الكثيرة في ذلك الزمن. وكان أهل مصر يقتتلون ويتلاعنون بفعل تلك الاختلافات ، وكانت مصر التي أكلتها الانقسامات الدينية ، وأنهكها استبداد الحكام تحقد أشد الحقد على سادتها الروم . وتنتظر ساعة تحريرها من براثن قياصرة القسطنطينية الظالمين "[2].
وذاقت مصر المُر ألوانًا في حُكم أوربا المسيحية، من جباية وظلم، واضطهاد واستعباد، واستنزاف لثرواتها الطبيعية، لقد كانت مصر ضاحية زراعية تابعة لـحُكّام أوربا، يُجبى إليهم منها ثمراتُ كلُ شىء .
ولعل الدراس لواقع الشعب المصري آنذاك، وما كانوا يكابدونه، يدرك لماذا تنفسوا الصعداء يوم نزلت مصرَ خيلُ المسلمين المحررين بقيادة الصحابي الجليل عمرو بن العاص ـ رضوان الله عليه ـ.
***
الفرس
أما الفرس، فلن نعرّج على حضارتهم، فقد أكلتهم عبادة النار، وبالغوا في تقديس الأكاسرة حتى جعلوهم كالآلهة، وبمقدار هذه المبالغة أمعن الأكاسرة في ظلم الرعية، والإسراف الجنوني الذي يذهب بالألباب .
***
الصين
أما الحضارات والبلدان الأخرى، فلا يقل انحطاطها عن هذه التي ذكرناها في السطور الأخيرة، فالصين متهالكة في الوثنية حيث عبادة تمثال الفيلسوف ( جواتما بوذا ) وهو رجل يُحارب النسل وُلد سنة 558 ق .م، ومتهالكة أيضًا في الرجعية الاجتماعية حيث العدون الصارخ ضد النساء، ذلك العدون المتولد من الفلسفة البوذية التي تدعو إلى هجر النسل. .
***
الهند
أما الهند، فهي أحط الأمم آنذاك، فقد استفحشت فيها الطبقية بصورة مريعة، وسادت بين أهلها الإباحية الجامحة، وبلغ من هوسهم الجنسي ـ كما حكى العلامة الهندي أبو الحسن الندوي ـ أن " رجال بعض الفرق الدينية كانوا يعبدون النساء العاريات والنساء يعبدن الرجال العراة، وكان كهنة المعابد من كبار الخونة والفساق الذين كانوا يرزءون الراهبات والزائرات في أعز ما عندهن ، وقد أصبح كثير من المعابد مواخير يترصد فيها الفاسق لطلبته، وينال فيها الفاجر بغيته ، وإذا كان هذا شأن البيوت التي رُفعت للعبادة والدين؛ فما ظن القارئ ببلاط الملوك وقصور الأغنياء ؟ ! "[3] .
والمضحك المبكي في هذه الحضارة الهندية ـ أيضًا ـ أن عدد الآلهة المعبودة في الهند في هذا القرن وصل إلى 330مليون إله !!!
***
ضخامة المهمة
في هذا الوقت كان العالم في طريقه للانتحار الاجتماعي؛ فقد وصل الفساد في البر والبحر مبلغًا بشعًا، لقد كانت البشرية تتهالك نحو الزوال والدمار، كانت ـ بحق ـ في أحط دركاتها منذ بدء الخليقة .
وهذه الصورة التي عرّجنها عليها سريعًا، تفصح لك عن عِظم الجهد الذي بذله النبيُ – صلى الله عليه وسلم – في تغيير هذا الواقع الـمُـر، وعن ضخامة التغيير الذي أحدثه الإسلامُ في العالم، وعن التضحيات التي قدمها المسلمون لبناء حضارة الإسلام وأستاذية الإسلام[4] .
أُستاذية العالم
لقد عرف العربُ لأول مرة الوحدة الحضارية، حيث جعل منهم الإسلام ُ أمة، وجعل لهم دولة، وجعل لهم حضارة :
يقول الباحث الألماني "رودي بارت ":
"كان العرب يعيشون منذ قرون طويلة في بوادي وواحات شبه الجزيرة، يعيثون فيها فسادًا. حتى أتى محمد [صلى الله عليه وسلم ] ودعاهم إلى الإيمان بإله واحد، خالق بارئ، وجمعهم فيكيان واحد متجانس"[5] .
ويقول المؤرخ النصراني "فيليب حتى" :
" إذا نحن نظرنا إلى محمد [صلى الله عليه وسلم] من خلال الأعمال التي حققها، فإن محمدًا الرجل والمعلم والخطيب ورجل الدولة والمجاهد؛ يبدو لنا بكل وضوح؛ واحدًا من أقدر الرجال في جميع أحقاب التاريخ؛ لقد نشر دينًا هو الإسلام، وأسس دولة هي الخلافة، ووضع أساس حضارة هي الحضارة العربية الإسلامية، وأقام أمة هي الأمة العربية[6]. وهو لا يزال إلى اليوم قوة حية فعالة في حياة الملايين من البشر"[7] .
وكانت لمقومات الأمة الجديدة، والدولة العادلة، والحضارة الرشيدة؛ الأثر الفاعل الذي مكنَّ للمسلمين من التفوق الحضاري على الآخرين، الذي جعل أممَ الأرض تنظر للمسلمين بإجلال، وصار الناسُ يقتبسون النور من الحضارة الأستاذة، والدين المهيمن.
وامتد نور الأستاذية الإسلامية في ربوع الأرض، بل قامت حضارة أوربا الحديثة من مشكاة الحضارة الإسلامية، حتى قال الفيلسوف الفرنسي" سان سيمون" [ 1760ـ 1825] في كتابه " علم الإنسان ":
" إن الدارس لبنيات الحضارات الإنسانية المختلفة، لا يمكنه أن يتنكر للدور الحضاري الخلاق الذي لعبه العرب والمسلمون في بناء النهضة العلمية لأوربا الحديثة "[8]
***
وهكذا، بالإسلام – وهو الحل الوحيد لمعضلات البشرية - ؛ وبه تحول الإنسان؛ من الجاهلية إلى الإسلام.
وبالإسلام انتقلت الأسرة والطفل والمرأة العربية من حمئة الظلم الاجتماعي إلى ظل العدل الإسلامي..
وبه انتقل المجتمع من الظلام إلى النور..
وتحول العرب من التخلف إلى التحضر .
وصارت لهم قيادة موحَّدة، وحكومة محكمة، ودولة ظاهرة.
واستخلفهم الله، وجعلهم خلفاء الأرض، يحكمون بين الناس بالعدل، فسادوا، وقادوا.
***
لكن :
فينا معاشِرُ لم يَبْنُوا لقومهمُ ... وإن بني قومُهم ما أَفْسدوا عادوا
توصية عملية :
اعقد مقارنة بين حضارات الصين والهند والفرس والرومان والإسلام في " مجالات المرأة والعلم والأخلاق " وذلك في أبان العصر الإسلامي.
-------------------------
[1]الصواب: الفتح الإسلامي
[2]حضارة العرب ، 336
[3]ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ، 68
[4]طالع كتابنا " نبي الرحمة "، فصل : رحمته في مجال التنوير والحضارة، ـ دار الخراز ، جدة
[5]الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ، ص 20
[6]الصواب : الأُمة الإسلامية ـ قلتُ : وهذا من طريقة وضع السم في العسل .
[7]الإسلام منهج حياة ، ص56
[8]نقلاً عن رشدي فكار: نظرات إسلامية للإنسان والمجتمع خلال القرن الرابع عشر الهجري ، ص 31