إِنَّ النبيَّ صلى الله عليه و سلم لَم يكنْ مَعه سَيْفٌ يضْرِبُ بِه أعناقَ النَّاسِ لإرْغَامِهم عَلَى الدُّخولِ فِي الإِسْلَامِ، فَالقرْآنُ واضحٌ أشدَّ الوضُوحِ في رفْضِ هَذَا المبْدَأ، قَالَ تَعالى: لَآ إِكۡرَاهَ فِى ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَىِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّـٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 256]، وقال: وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأَمَنَ مَن فِى ٱلۡأَرۡضِ ڪُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ [يونس: 99]، وقال: لَكُمۡ دِينُكُمۡ وَلِىَ دِينِ [الكافرون: 6].
وَلَكِنَّ هَذَا لَا يعْنِي أن تَقِفَ الدولةُ مكتوفةَ الأيْدِي تِجاهَ الاعتِداءَاتِ الدَّاخليةِ والخارِجيَّةِ، فَقَدْ أَذِنَ اللهُ تَعَالَى لِأَهْلِ الإيمَانِ أَنْ يُدَافِعُوا عَنْ أنفُسِهمْ وأنْ يأخُذُوا حَقَّهمْ بقدْرِ مظلَمَتِهمْ دُونَ زيادَةٍ أو اعْتدَاءٍ.
قَالَ تَعَالى: وَٱقۡتُلُوهُمۡ حَيۡثُ ثَقِفۡتُمُوهُمۡ وَأَخۡرِجُوهُم مِّنۡ حَيۡثُ أَخۡرَجُوكُمۡۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۚ وَلَا تُقَـٰتِلُوهُمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَـٰتِلُوكُمۡ فِيهِۖ فَإِن قَـٰتَلُوكُمۡ فَٱقۡتُلُوهُمۡۗ كَذَٲلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَـٰفِرِينَ [البقرة: 191].
وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ أَصلَ مشرُوعيَّةِ القِتَالِ فِي الإسْلَامِ هُو للدِّفَاعِ عَنِ النفْسِ وَحِمَايةِ الأمَّةِ مِنَ الاعْتِداءَاتِ وَالمؤامَرَاتِ والمكَائِدِ الدَّاخليَّةِ والخارِجيَّةِ. وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى تَارِيخِ القِتَالِ فِي الإسْلَامِ تأكَّدَتْ لَنَا هَذِهِ الحقيقةُ فَإِنَّه "لَما ازْدَاد طُغيانُ أَهْلِ مَكَّةَ أَلجئوا النبيَّ صلى الله عليه و سلم إِلَى الخُرُوجِ مِن دَارِهِ بَعْدَ أنْ ائتمَرُوا عَلَى قَتْلِه، فَكَانُوا هُمُ البَادِئينَ بِالعِدَاءِ عَلَى المسْلِمِينَ،
فَلما تمالَأ عَلَى المسْلِمِينَ غَيرُ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ مُشْرِكي العرَبِ، وَاتَّحدُوا عَلَيْهِمْ مَعَ الأعْدَاءِ، أَمَرَ اللهُ بِقِتَالِ المشْرِكِينَ كَافَّةً بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِإِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّہُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَہۡرً۬ا فِى ڪِتَـٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَٲتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡہَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٌ۬ۚ ذَٲلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيہِنَّ أَنفُسَڪُمۡۚ وَقَـٰتِلُواْ ٱلۡمُشۡرِڪِينَ كَآفَّةً۬ ڪَمَا يُقَـٰتِلُونَكُمۡ ڪَآفَّةً۬ۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلۡمُتَّقِينَ [التوبة: 36].
وَبِذَلِكَ صَارَ الجِهَادُ عَامًّا لكلِّ مَنْ لَيْسَ لَه كِتابٌ مِنَ الْوَثْنِيِّينَ وَهَذَا مِصْدَاقُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللهُ، فَإِنْ قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَـهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ".
ولما وَجَدَ المسْلِمونَ مِنَ اليهُودِ خِيانةً للعُهودِ، حَيْثُ إِنَّهم سَاعَدُوا المشْرِكِينَ فِي حُرُوبِهمْ, أَمَر اللهُ بِقتالِـهِمْ بقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الأَنْفَالِ: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِيَانَةً۬ فَٱنۢبِذۡ إِلَيۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَآءٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡخَآٮِٕنِينَ [الأنفال: 58].
وَقِتَالُهم وَاجِبٌ حَتَّى يَدِينُوا أَوْ يُعطُوا الجزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ, ليأْمَنَ المسْلِمُونَ جَانِبَهمْ(1).
وَكَذَلِكَ النَّصَارَى لَمْ يَبْدَأ النبيُّ صلى الله عليه و سلم بقتالِهم، قَالَ شَيْخُ الإسْلَامِ ابنُ تَيْميةَ: "وَأَمَّا النَّصَارَى فَلَمْ يُقَاتِلْ أَحَدًا مِنْهُمْ، حَتَّى أَرْسَلَ رُسَلَه بَعْدَ صُلْحِ الحدُيْبيةِ إِلَى جَميعِ الملُوكِ يدْعُوهُمْ إِلَى الإسْلَامِ، فَأَرْسَلَ إِلَى قَيْصَرَ، وَإِلَى كِسْرَى والمقَوْقِسِ وَالنَّجَاشِيِّ، وَمُلوكِ العَربِ بِالشَّرْقِ وَالشَّامِ.
فَدَخَل فِي الإسْلَامِ مِنَ النَّصَارَى وغيرِهم مَنْ دَخَلَ، فَعَمِدَ النَّصارَى بالشَّامِ، فقَتلُوا بَعضَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ مِنْ كُبَرائِهمْ بِمعَان.
فَالنَّصارَى حَارَبُوا المسْلِمينَ أَوَّلاً، وَقتلُوا مَنْ أَسْلَم مِنْهُمْ بَغْيًا وَظُلمًا, وَإِلَّا فَرُسُله أَرْسَلَهُمْ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الإسْلَامِ طَوْعًا لَا كُرْهًا, فَلَمْ يُكرِهْ أَحَدًا عَلَى الإسْلَامِ"(2).
وَعَلَى هَذَا فَقَدْ صَار قِتالُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه و سلم للأَعْدَاءِ عَلَى المبَادِئ التَّالِيةِ:
1- اعْتِبارُ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ مُحارِبينَ لأنَّهمْ بَدَؤوا بِالعُدْوَانِ, فَصَارَ للمسْلِمِينَ قِتَالُهم.
2- مَتَى رُئِي مِنَ اليهودِ خيانةٌ وتحيُّزٌ للمشْرِكينَ قُوتِلُوا.
3- مَتَى تَعَدَّتْ قَبيلَةٌ مِنَ العَرَبِ عَلَى المسْلِمِيْنَ، أَوْ سَاعَدتْ قُرَيْشًا قُوتِلتْ حَتَّى تَدِينَ بالإسْلَامِ.
4- كُلُّ مَنْ بَادَأ بعدَاوَةٍ مِنْ أَهْل الكِتابِ كَالنَّصَارَى قُوتِلَ حَتَّى يذْعِنَ بالإسْلَامِ أَوْ يُعْطِي الجزيةَ.
5- كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ فَقَدْ عَصَمَ دَمَهُ وَمَالَه إِلَّا بِحَقِّه، وَالْإِسْلَام يقْطَعُ مَا قَبْلَه(3).
_______________________________________