قال تعالى:
{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}
[سورة الأنبياء: 87-88]
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
« دَعْوَةُ ذِى النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِى بَطْنِ الْحُوتِ: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِين".
فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِى شَىْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ»
رواه الترمذي (3505) واللفظ له والإمام أحمد (3/170)، وحسّنه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى كما في الفتوحات الربّانية (11/10).
شرح الحديث:
(دَعْوَةُ ذِى النُّونِ) أي دعوة صاحب الحوت؛ وهو يونس عليه السلام (إذا) أي: حينَ (دَعَا وَهُوَ فِى بَطْنِ الْحُوتِ: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ) أي إنك أنت الإله المعبود الحق الذي تَقْدر على حِفْظ الإنسان حيًا في باطن الحوت، ولا قدرة لغيرك على هذه الحالة،
ثم أَرْدفَ عليه السلام ذلك بِقَوْلِه: (سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِين) تصريحًا منه بالعجز والانكسارِ، وإظهار الذّلّة والافتقار لله جلَّ وعلا،
قال الحسنُ البصريُّ رحمه الله تعالى : "ما نجا إلا بإقراره على نفسه بالظلم"،
(فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِى شَىْءٍ قَطُّ) بنيَّةٍ صادقةٍ صالحةٍ (إِلاَّ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ) لأنها لـَمَّا كانت مسبوقةً بالعَجْز والانكسار، مَلْحوقٌة بهما صارت مقبولةً كما قال تعالى: {أَم مَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [سورة النمل: 62]، فإن قيل : هذا ذِكْرٌ لا دعاء قلنا : هو ذكرٌ يُستفتح به الدعاء، ثم يدعو بما شاء، أو: هو كما ورد في حديثٍ – لكن في إسناده مقال : "مَنْ شغَله ذِكْري عن مَسئلتي أعطيتُه أفضل ما أُعطي السائلين"
انظر –بتصرفٍ كثير جدا: فيض القدير للمناوي رحمه الله تعالى.
قال الشيخ السعدي في تفسيره:
فنادى في تلك الظلمات: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فأقرَّ لله تعالى بكمال الألوهية، ونزَّهه عن كل نقصٍ، وعيبٍ وآفة، واعترف بظلم نفسه وجنايته.
قال الله تعالى: { فَلَوْلاأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ولهذا قال هنا [ ص 530 ]، { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} أي الشدة التي وقع فيها،{وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} وهذا وعدٌ وبشارة لكل مؤمن وقع في شدة وغَمٍّ أن الله تعالى سينجيه منها ويكشف عنه ويخفف لإيمانه كما فعل بـ " يونس " عليه السلام.
فائدة:
قال فضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله تعالى:
(وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنهعن النبي صلى الله عليه وسلمقال: « مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكُرَبِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِى الرَّخَاءِ » . قَالَ الترمذيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. ([1])
من سرّه أى: من أراد أن يرى السرور في الشدة، والتفريج للكُرَب؛ فليكثر الدعاء عند رخائه؛ ليجد أثر ذلك عند شدائده، فإذا كنت في أيامك مطيعًا ومقبلاً وحافظاً لحدوده، وواقفًا عندها ومراعيًا لحقوقه، وممتثلاً لأوامره، ومنتهيًا عن نواهيه، وتتقرب إليه بالنوافل، وأصابك الشيطان والنفس والهوى، ووقعت في التقصير والتفريط إذا برحمة الله تعالى تنتشلك وتحيطك مما وقعت فيه، وإذا بدعائك في الرخاء يقف لك عند الشدة.
وخرّج ابن أبي حاتم وغيره عن أنس مرفوعاً: « أنَّ يونس - عليه السلام - لمَّا دعا في بطن الحوت ، قالت الملائكة : يا ربِّ ، هذا صوتٌ معروفٌ من بلادٍ غريبة »، الصوت معروف، لكن أين ؟ لا نعرف؛« فقال الله - عز وجل - : أما تعرفون ذلك ؟ قالوا : ومَنْ هوَ ؟ قال : عبدي يونس ، قالوا : عبدُك يونس الذي لم يزل يُرفَعُ له عمل متقبل ودعوةٌ مستجابة ؟ قال : نعم ، قالوا : يا ربِّ ، أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيَه من البلاء ؟ قال : بلى ، قال :
فأمر الله الحوتَ فطرحه بالعراء ».
وهذه القصة -بغض النظر عن السند ([2])، ففي سندها مقال- إنما معناها قد ذكره المولى -سبحانه وتعالى- بقوله: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الصافات : 143-144]يعني: لولا أنه كان من المصلين الداعين في رخائه؛ لما استجيب له دعاؤه في الشدة، وللبث في بطن الحوت إلى يوم يبعثون، وهذا كان ليونس -عليه السلام- فما بالك بنا نحن؟!
يعني: لما يقال عن يونس - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام-: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}فكيف بنا نحن إن كان نبي الله يونس عليه السلام كان سيلبث إلى يوم يبعثون لولا أنه كان من المسبحين؟!...
فلنبادر إذن إلى انتهاز أيام الرخاء؛ فلعلها لا تعود، وكلنا في حاجةٍ إلى رحمة الله تعالى في أيام الكرب والبلاء.
وقال الضحاك بن قيس: اذكروا الله تعالى في الرخاء؛ يذكركم في الشدة، وإن يونس -عليه السلام- كان يذكر الله تعالى، فلما وقع في بطن الحوت قال الله -عز وجل-:{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}، وإن فرعون كان طاغيًا ناسيًا لذكر الله -جل وعلا- فلما أدركه الغرق {قَالَ آَمَنْتُ } [ يونس : 90]، فقال الله تعالى له: {آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [ يونس : 91]، لا ليس الآن.
فينبغي - أخي الكريمَ- أن تُصلح أحوالَ نفسِك، حتى لا يُقال لك أيضا: {آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}.
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه :«إذا كان العبد يذكر الله في السّراء ويحمده في الرخاء، فأصابه ضرٌ، فدعا اللهَ؛ قالتِ الملائكة : "صوت معروف من أمرئ ضعيف". فيشفعون له» ، أى: هذا صوت معروفٌ بين الحين والآخر يَصعَد منه إلى الله تعالى دعاءٌ وعملٌ صالح، «وإن كان العبد لا يذكر الله في السراء ولا يحمده في الرخاء، فأصابه ضر، فدعا اللهَ ؛ قالت الملائكة: "صوتٌ منكرٌ". فلم يشفعوا له.»([3]).
قال رجل لأبي الدرداء رضي الله عنه: أوصني. قال: اذكر الله تعالى في السراء؛ يذكرك الله -عز وجل- في الضراء.
وعنه -أي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال: ادْعُ الله في يوم سرائك لعله أن يستجيب لك في يوم ضرائك.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية الكريمة: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} الطلاق : 2] قال: يُنجِّيه من كل كربٍ في الدنيا والآخرة.
انتهى بتصرف كثيرٍ واختصار من "شرح حديث: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ- الطبعة الثالثة" لفضيلة الشيخ محمد الدبيسي حفظه الله تعالى.
--------------------------------------------
[1]- رواه الترمذي (3382) ط دار الكتب العلمية، بيروت، وقال: حديث غريب، وحسَنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (6290)
[2]أخرجه ابن حاتم في تفسيره وفي إسناده ضعف: فيه يزيد الرقاشي، ورُوي أيضا بنحوه عن أبي هريرة رضي الله عنه في مسند البزار وتفسير ابن جرير. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في البداية والنهاية بعد ما ذكر حديثَ أنسٍ وأبي هريرةَ رضي الله عنهما: "ويزيد الرقاشي ضعيف، ولكن يتقوى بحديث أبي هريرة المتقدم كما يتقوى ذاك بهذا والله أعلم".
[3]- رواه ابن أبي شيبة في مُصنفه (8/179) موقوفا على سلمان رضي الله عنه.