شُبهة قتل بعض الأسرى والرد عليها
"لقد أخذ بعض المستشرقين على النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل بعض الأسرى بعد غزوة بدر، كما أنه خرج إلى ساحة الحرب لرؤية صرعى المعركة وغنائمها بعد انتهائها .. فهو أمر لا يصلح الحكم فيه إلا بالنظر إلى موضعه وموقعه وأشخاصه ، لأنه ليس بالحكم العام الذي اتبعه الإسلام في جميع الأسرى وجميع الحروب ،وإنما هي حالة أفراد كانوا معروفين بتعذيب المسلمين والتنكيل بهم في غير مبالاة ولا نخوة . وليست هي كحالة الأسرى الذين يقعون في أيدي أعدائهم ،غير معروفين بماض ولا بحاضر سوى أنهم جند كسائر الجند الذين يحشدهم الأعداء ؛
فقتل الأسرى بعد بدر إنْ هو إلا قِصاص كقصاص المتَّهَمين بالتعذيب , وقد وقعوا في أيدي من يتولى عقابهم من الغالبين ؛ ولقد جاز هذا في كل قانون , وجاز أن يحاسب المغلوب على جرائمه التي ليست هي من فروض القتال أو من مباحاته في شيء .
وهناك فرق بين معاملة هؤلاء ومعاملة أسير كل ما تعلمه في شأنه أنه جندي لا بغضاء بينك وبينه قبل حمل السلاح ولا بعد وضع السلاح , وليس في عمله محل للثأر والمحاسبة بعد انقضاء واجبه وهو القتال الشريف.
أما رؤية القتلى في ساحة الحرب , فقد نسى فيها أولئك الناقدون أن اغتباط المنتصر بفوزه طبيعة إنسانية لا غضاضة فيها .. ما لم تجاوز حدها إلى الفرح برؤية الدماء لمحض الفرح برؤية الدماء. وهذا ما لم يزعمه أحد من شاهدي المعركة عن النبي صلى الله عليه وسلم , ولا نمَّ عليه كلام أحد من المشركين أو المسلمين .
ونسى أولئك الناقدون كذلك أن الرجل الذي يرى الدم في المدينة العصرية ، غير الرجل الذي يرى الدم في حروب البادية , وفى حياة البادية على الإجمال .. ونعني بها حياة الرعاة التي تتكرر فيها إراقة الدم كل يوم , وحياة القبائل التي كانت تغزو وتُغزى في كثير من الأيام !
فإنك لا ترمى بالقسوة طبيباًً قد ألف النظر إلى الجثث وأشلائها والأجسام الحية وجراحها .. لأن الطب لن يكون في الدنيا رحمة من الرحمات إن لم يألف الأطباء هذه المناظر ويملكوا جأشهم وهم يفتحون أعينهم عليها . ولكنك قد ترمى بالقسوة إنسانا لم تقع عينه على منظر مثلها ثم هي تفاجئه فلا ينفر منها . وما من رجل عاش في البادية وشهد غزوة من غزواتها يمكن أن يُقال فيه إن ساحة الحرب تفاجئه بما لم يكن يراه . أو بما يستلزم النظر إليه قسوة في الطباع واستراحة إلى رؤية الدماء. كان على أولئك الناقدين أن يشهدوا بدرا ًً , لينظروا بعين النبي صلى الله عليه وسلم إلى عواقب هذه الوقعة التي أوشكت أن تصبح الوقعة الحاسمة في تاريخ الإسلام .
كان عليهم أن ينظروا هنالك بعين النبي صلى الله عليه وسلم إلى جيشين .. أحدهما فيه السلاح والخيل والعدد, والآخر في ثلث من يقاتلونه عددا ًً , ويكاد أن يتجرد من كل سلاح غير السيف ومن كل مطية غير الأقدام .. وكان عليهم أن يلمسوا إشفاق النبي صلى الله عليه وسلم من عاقبة هذه الوقعة , ويستمعوا إليه وهو يناشد ربه :< اللهم هذه قريش قد أتت بخيلها وخيلائها تكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تُعبد .. >
وكان عليهم أن ينظروا إليه, وقد مد يديه وشخص ببصره وجمع نفسه في صلاته .. حتى جعل رداؤه يسقط عن منكبيه وأبو بكر يرده ويناديه :" يا نبي الله ، كفاك بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك .. وهو لا يلتفت إلى سقوط ردائه ولا إلى مناداة صفيِّه لاستغراقه في الدعاء.. ".
وكان عليهم أن يعلموا حرص قريش أن يستبقوا رجالا ًً منهم يرجعون إلى مكة قبل المعركة أو بعدها ليثابروا على مناوأة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإعادة الكرة عليه حتى لا يهدأ له بال بعد الصبر على هذا الجهد ، وليس الصبر عليه بيسير .
كان على الناقدين أن يعلموا هذا كله ليعلموا أن الشعور بالفرح في مثل هذا الموقف العصيب أمر لا غرابة فيه، وأنه شعور مطبوع فى نفس حية تجاوب كل ما يحيط بها من بواعث الحياة في مواقف السلم أو مواقف القتال ، فأول ما يبادر النفس الحية من شعور مطبوع صادق في ذلك الموقف أن تغتبط بالنصر ، وتخرج من الضيق إلى الفرج ، وتنظر في ساحة الحرب إلى من قضى فيها من قريش ومن عاد منها إلى وكره ليعيد الكرة ويستأنف الإيذاء والمكيدة , وأن ترى ما هي تلك الأسلاب والغنائم التي أوشكت أن تفتن بعض المقاتلين ، لأنها أول شيء شهدوه من نوعه ، ولما يتنزل حكم الدين في سلب أو غنيمة .
إن محمداًً صلى الله عليه وسلم رجل حي جياش النفس بدوافع الحياة ، وليس بناسك مهزول من نساك الصوامع الذين يكبون في جوانحهم كل دافعة وكل إحساس.. فامتناعه أن يشهد نتيجة المعركة التي سبقتها كل تلك المخاوف، وستلحق بها كل تلك العواقب ، أمر لم يكن بالمنتظر من قائد في مثل موقفه ، ولم تكن توجبه الفطرة الإنسانية على المقاتل .. وهو في اللحظة الأولى بعد الظفر خليق أن يعلم مدى انتصاره ، ومدى ما يتوقعه بعده ، ومدى ما فعلته الفئة القليلة بالفئة الكثيرة ، ليقيس عليه ما تفعله مثلها فيما يليها من وقعات ، وهؤلاء مراسلو الصحف الحربيون الذين يدرسون اليوم أشباه هذه المواقف ، يجدون من واجبهم ألا يتخلفوا عن ساحات القتال بعد انجلاء الفريقين ، ليشرحوا دروس النصر والهزيمة بينهما ، ويسجلوا ما لا غنى عن تسجيله في جميع الحروب ، فانصراف النبي محمد صلى الله عليه وسلم عن ساحة بدر على أثر النصر عمل غريب يخل بمكانة القائد ، وبواجب التحقيق , والاستفادة من كل ما يفيد .
بعد معركة الخندق(أو الأحزاب ):
ونحن في صدد الحديث عن الرحمة والقسوة يحسن بنا أن نستقصى ما ذكره المؤرخين الأوربيون من مآخذ في هذا الباب , وأهمه عدا ما قدمناه قتل المقاتلين من بني قريظة بعد معركة الأحزاب .. فإن أولئك المؤرخين يستعظمون قتلهم ويحسبونه مخالفا ً للعرف المتبع في الحروب, وينسون أموراً لا يصدق الحكم في هذه المسألة ما لم يذكروها ويستحضروها أتم استحضار , وهى أن بني قريظة حنثوا في أيمانهم مرات فلا يُجدي معهم أخذ المواثيق من جديد , وأنهم قبلوا حكم سعد بن معاذ وهم الذين اختاروه , وأن سعدا ًً إنما دانهم بنص التوراة الذي يؤمنون به كما جاء فى التثنية : < حين تقرب من مدينة لكى تحاربها استدعها إلى الصلح , فإن إجابتك إلى الصلح , وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستبعد لك , وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا ًً فحاصرها , وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف , وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمة فتغنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك > (إصحاح 10 إلى 15 تثنية).
و ينبغى أن يسأل الناقدون أنفسهم بعد هذا : ماذا كان مصير المسلمين لو ظفرت بهم الأحزاب؟
فالقضاء الذي قضاه النبي صلى الله عليه وسلم فى بنى قريظة عدل وحكمة وصواب , وما من أحد يقضى غير ذلك القضاء, وهو مؤتمن على مصير أمة يرحمها من غدر أعدائها , ومن شِدَّتهم في خصومتها , ومن استباحتهم كل منكر في التربص والوثبة بعد الوثبة عليها.
وإن حملة تأديبية واحدة من حملات العصور الحديثة يحملها قوم مسلحون على قوم عزل يذودون عن أوطانهم وحقوقهم , لفيها من البطش والتعذيب ما لم يحدث قط نظير له فى عقاب بني قريظة , ولا في جميع الحروب التي نشبت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أعداء له ولدينه , هم المتفوقون عليه في العدد والثروة والسلاح .
إن عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم في قيادته لعبقرية ترضاها فنون الحرب , وترضاها المروءة , وترضاها شريعة الله والناس , وترضاها في أحدث عصورها , كما يرضاها المنصفون من الأصدقاء والأعداء "[1]
--------------------------------------------------------------------------------
عباس محمود العقاد .عبقرية محمد ، ص55- 59، بتصرف يسير .[1]