يوم فتح مكة
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا عزيزا منتصرا، ودخل مكة في عشرة آلاف من أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، وكما ذكرنا لم يلق مقاومة تذكر في مكة المكرمة، إلا عند منطقة واحدة، واستطاعت فرقة خالد بن الوليد رضي الله عنه أن تقضي على هذه المقاومة في لحظات، ودانت مكة لحكم المسلمين بعد أقل من يوم واحد من فتحها، والرسول صلى الله عليه وسلم دخل بموكبه المهيب إلى صحن الكعبة، اخترق مكة بكاملها حتى وصل إلى صحن الكعبة صلى الله عليه وسلم، وأول شيء فعله صلى الله عليه وسلم أنه بدأ في تكسير الأصنام، وكانت الأصنام كثيرة حول الكعبة، فقد كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، وكانت موزعة حول الكعبة وفوقها وداخلها، غير هبل أعظم آلهتهم،وكان تكسير الأصنام خطوة سياسية في منتهى الروعة، فهذه الخطوة كسرت تماما كل معنويات مكة، فكل صنم يقع على الأرض يكسر من معنويات أهل مكة؛ لأن هذه الأصنام ظلت تعبد من دون الله ، لا أقول عشرات السنين، بل مئات السنين، ففي داخل مكة المكرمة أجيال وراءها أجيال تعبد هذه الأصنام، والجميع يعتقد في داخله أنها ستصيبه صلى الله عليه وسلم بضرر أو بسوء؛ لأنه كسرها، ومع ذلك لم يحدث له شيء، والجيش الإسلامي بكامله لم يحدث له شيء، وظهرت الحقيقة واضحة أمام أعين المشركين أنهم كانوا في ضلال مبين في كل هذه السنوات السابقة، وكانت خطوة كسر الأصنام مهمة للغاية؛ لأن القرشيين الكفار بعد هذا التكسير للأصنام خارت قواهم، وفقدوا كل أمل في المقاومة،
ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بتكسير الأصنام في مكة المكرمة، بل حرص صلى الله عليه وسلم على تكسير الأصنام في كل المناطق المحيطة بمكة المكرمة، ونحن نعلم أن أهل مكة كانوا يعبدون كثيرا من الأصنام منها ما هو داخل مكة ومنها ما هو في خارج مكة، فأرسل صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه لكسر العزى، وكان صنم العزى من أكبر الآلهة التي كانت تعبد من دون الله عز وجل، وأرسل سرية بقيادة سعد بن زيد رضي الله عنه وأرضاه لكسر صنم مناة، وكان من أشهر أصنام العرب أيضًا، وأرسل سرية بقيادة عمرو بن العاص لهدم صنم سواع ، وصنم سواع من الأصنام المشهورة عند العرب، وكسر الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه صنم هبل في صحن الكعبة، ولم يبق إلا صنم مشهور من أصنام العرب، وهو صنم اللات، وكان موجودا في مدينة الطائف عند قبيلة ثقيف، وهو من أعظم الأصنام عند العرب، ولم يكسر إلا بعد إسلام ثقيف في السنة التاسعة من الهجرة، فالرسول صلى الله عليه وسلم كسر كل الأصنام حول مكة، وبذلك كسر كل معنويات قريش، وحطم كل أمل عندهم للمقاومة، وكانت هذه أول خطوة قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة.
واتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم خطوة مهمة في طريق تربية قريش على تعاليم الإسلام العظيمة، وحتى يفقهوا الإسلام على حقيقته، وهو أن الله عز وجل يعز من انتمى إلى هذا الدين، بصرف النظر عن جنسه وعن لونه وعن قبيلته، بل إن الذي لم ينتم إليه ذليل، ورآه المشركون من أهل قريش بأعينهم، فقد نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم على بلال رضي الله عنه وأرضاه ليؤذن للصلاة وهذه هي المرة الثانية التي يفعل فيها بلال هذا الأمر، فقد أَذّن في عمرة القضاء، والآن يقوم بنفس الأمر، ويصعد بلال رضي الله عنه وأرضاه فوق أشرف بقعة في الأرض؛ ليرفع الأذان لله عز وجل، وكلنا نتذكر ذكريات بلال في مكة، وهو يقول: أحد أحد.
في ذلك الوقت كان يهمس بها همسات لا يسمعها إلا من يعذبه، أما الآن فهو يعلو بها في كل أرجاء مكة المكرمة، والجميع مسلمهم و مشركهم يسمع إليه رضي الله عنه.
وكان أذان بلال رضي الله عنه من فوق الكعبة له أشد الأثر على المشركين، ودليل ذلك ما حدث من أبي سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد، والحارث بن هشام، وكان الثلاثة في فناء الكعبة يستمعون إلى بلال وهو يؤذن، وكان أبو سفيان قد أعلن إسلامه قبل ذلك بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن عتاب بن أسيد كان من الشباب في قريش، وكان عمره اثنتين وعشرين سنة، وهو ما زال مشركا، والحارث بن هشام أيضا ما زال مشركا، والحارث بن هشام أخو أبي جهل، فهم من كبار الزعماء في مكة، فقال عتاب بن أسيد وهو يعلق على أذان بلال رضي الله عنه وأرضاه فوق الكعبة:
لقد أكرم الله أسيدا ألا يكون سمع هذا، فسمع منه ما يغيظه، ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا؟
فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته.
فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، فلو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصاة.
قد أدرك أبو سفيان أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي، وإذا تكلم سيعرف ذلك الوحي، وجاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هذه الكلمات، وقال قد علمت الذي قلتم، ثم ذكره لهم، وقال أنت يا فلان قلت كذا، وأما أنت يا فلان فقد قلت كذا كذا، فقال أبو سفيان:
أما أنا يا رسول الله فما قلت شيئا. فضحك صلى الله عليه وسلم
وقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، ما اطلع على هذا أحد فنقول أخبرك.
وأسلموا في هذا الموقف العظيم، وعندما رأى بعض بني سعيد بن العاص بلالا يؤذن على الكعبة، قالوا: لقد أكرم الله سعيدا إذ قبضه قبل أن يسمع هذا الأسود على ظهر الكعبة.
وقال رجل من قريش للحارث بن هشام: ألا ترى هذا العبد أين صعد؟
فرد عليه الحارث بن هشام وقال: دعه فإن يكن الله يكرهه فسيغيره.
ونعتقد أن هذا الكلام قاله الحارث بن هشام بعد أن أسلم رضي الله عنه، وكان هذا في بداية إسلامه.
وسار بعض شباب قريش يستهزئ، ويقلد صوت بلال غيظا، حتى قلده أحد الشباب، وكان اسمه أبو محذورة الجمحي، وكان عمره ست عشرة سنة، ولكن صوته كان جميلا، وكان من أحسن قريشا صوتا، فلما رفع صوته بالأذان مستهزئا سمعه الرسول صلى الله عليه وسلم، فاكتشف طاقة موجودة داخل مكة، فناداه، فمثل الرجل بين يديه صلى الله عليه وسلم وهو يظن تمام الظن أنه مقتول؛ لأنه كان يستهزئ بالأذان، فمسح صلى الله عليه وسلم على صدر وناصية هذا الشاب بيديه الشريفة، فقال أبو محذورة:
فامتلأ قلبي بإيمان ويقين، فعلمت أنه رسول الله .
والرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن آمن هذا الشاب علمه الأذان وأصبح هو الذي يؤذن لأهل مكة بعد رحيل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وظل الأذان في أبي محذورة، وعقبه بعد موته إلى فترة طويلة من الزمان، فقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الأذان لقريش أن الله عز وجل يعز من يشاء ويذل من يشاء، وأن العزة الحقيقية لا تكون إلا بالإسلام، وفهم القرشيون ذلك في هذا الموقف العظيم.
رِقَّتـــه لأبي سفيان رغم ما فعله:
وجاء رجل آخر قبيل الفتح ، كان عاقاً مسرفاً في هجوه وإيذائه للرسول وهو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وطلب الإذن عليه فقال : لا حاجة لي به وقد هتك عرضي ! وكان مع أبي سفيان ابناَ له ، فقال : والله ليأذن لي أو لأخذن بيد ابني هذا لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشاً رجوعاً فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق له فدخل عليه وعفا عنه فقال :
لعمرك إني يوم أحمل راية لتغلب خيل اللات خيل محمـد
لكالمدج الحيران أظلم ليلـة فهذا أواني حين أهدي وأهتدي
عن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قال: « لَمَّا نَزَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَرِّ الظَّهْرَانِ قالَ الْعَبَّاسُ قُلْتُ: وَ الله لَئِنْ دَخَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ عَنْوَةً قَبْلَ أنْ يَأْتُوهُ فَيَسْتَأْمِنُوهُ إنَّهُ لَهَلاَكُ قُرَيْشٍ، فَجَلَسْتُ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ : لَعَلِّي أجِدُ ذَا حَاجَةٍ يَأْتِي أهْلَ مَكَّةَ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَكَانَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لِيَخْرُجُوا إلَيْهِ فَيَسْتَأْمِنُوهُ فَإنِّي لأَسِيرُ إذْ سَمِعْتُ كَلاَمَ أبا سُفْيَانَ وَبُدَيْلُ بنُ وَرْقَاءَ، فَقُلْتُ: يَا أبَا حَنْظَلَةَ، فَعَرَفَ صَوْتِي، فقالَ أبُو الْفَضْلِ، قُلْتُ: نَعَمْ، قال مَالَكَ فِدَاكَ أبِي وَأُمِّي ؟ قُلْتُ: هٰذَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ ، قال: فَمَا الْحِيلَةُ؟ قال: فَرَكِبَ خَلْفِي وَرَجَعَ صَاحِبُهُ، فَلَمَّا أصْبَحَ غَدَوْتُ بِهِ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَأسْلَمَ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إنَّ أبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ هٰذَا الْفَخْرَ فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئاً ، قال: نَعَمْ مَنْ دَخَلَ دَارَ أبي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أغْلَقَ عَلَيْهِ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ المَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ. قال: فَتَفَرَّقَ النَّاسُ إلَى دُورِهِمْ وَإلَى المَسْجِدِ » رواه أبو داود ..[1]
حِكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في إحكام التخطيط لفتح مكة:
لقد تم فتح مكة بحرب عسكرية، وحرب سياسية، وحرب معنوية، وأتقن الرسول صلى الله عليه وسلم كل هذه الحروب بمنتهى الدقة، حرب عسكرية أعد لها الجيش إعدادا قويا، وقد وضع الرسول صلى الله عليه وسلم خطة محكمة تخفي تحركات الجيش قدر المستطاع، حتى وصل إلى قريش دون أن تعلم بوصوله إلا على بعد اثنين وعشرين كيلو مترا من مكة المكرمة، وأدار حربا سياسية بارعة عندما حيد أبا سفيان زعيم مكة، بل استخدمه لصالح المسلمين في منع القرشيين من المقاومة عند دخول الجيش الإسلامي إلى مكة المكرمة، ثم مارس الحرب المعنوية بكل أشكالها ابتداءًً من إظهار عدد الجيش الإسلامي، وإشعال النيران، وجَعْل أبي سفيان يرى الجيوش الإسلامية الكثيرة، والقبائل المتعددة، وكسر الأصنام، وأذان بلال فوق الكعبة، وكل هذا تحطيم لمعنويات القرشيين لتخمد عندهم روح المقاومة الحقيقية، إنه إعداد باهر ومتقن وحكيم، يبرز لنا كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين القيادة وبين النبوة صلى الله عليه وسلم... لم يكتف الرسول بهذا الإعداد القوي ليفتح مكة، بل لجأ إلى وسيلة قلما يلجأ إليها زعيم من زعماء الدنيا بصفة عامة، وهى وسيلة امتلاك قلوب الشعب الذي فُتِح الآن على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم ما بداخلهم من الحقد والحسد؛ لذلك أراد صلى الله عليه وسلم أن يؤلف قلوبهم، ورأينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ألف قلب أبي سفيان بإعطائه الفخر، وأبو سفيان زعيم قبيلة بني أمية، وبنو أمية قبيلة كبيرة داخل قريش،
وقد ألّف الرسول صلى الله عليه وسلم قلب أحد أكبر القبائل القرشية داخل مكة المكرمة، ثم يؤلف الرسول قلب قبيلة أخرى كبيرة في قريش، فعندما دخل الرسول الكعبة المكرمة، وصلى فيها، ثم خرج، نادى على عثمان بن طلحة رضي الله عنه الذي أسلم في أوائل العام الثامن من الهجرة قبل فتح مكة بعدة شهور مع عمرو بن العاص وخالد بن الوليد في يوم واحد، وعثمان بن طلحة من بني عبد الدار، وبنو عبد الدار من أعظم القبائل القرشية، وفيها شرف كبير، وهي حاملة مفتاح الكعبة لسنوات طويلة قبل ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت نادى على عثمان بن طلحة، وأمره أن يأتي بمفتاح الكعبة، والجميع ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيأخذ منه مفتاح الكعبة؛ ليعطيه لأحد أقاربه من بني هاشم، بل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه طلب ذلك صراحة، وأن يضم مفتاح الكعبة إلى شرف بني هاشم، فعندهم السقاية، و الحجابة، فيكون عندهم أيضا مفتاح الكعبة، فيكون ذلك شرف لهم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ المفتاح ووضعه في يد عثمان بن طلحة رضي الله عنه، ونرى في هذا الموقف مدي العظمة والحكمة، فقد دار بينه صلى الله عليه وسلم وبين عثمان بن طلحة حوار قبل الهجرة، وطلب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من عثمان بن طلحة أن يعطيه مفتاح الكعبة ليدخل الكعبة، ولكن عثمان بن طلحة رفض في ذلك الوقت، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يَا عُثْمَانَ لَعَلَّكَ تَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ يَوْمًا بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْتُ. فقال عثمان: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت.
فقال: بَلْ عَمَرَتْ وَعَزَّتْ يَوْمَئِذٍ.
ومرت الأيام وجاء صلى الله عليه وسلم فاتحا مكة المكرمة، وطلب المفتاح من عثمان بن طلحة، ودون تردد أتى عثمان بالمفتاح، وهو الآن قد أصبح من الصحابة المؤمنين البررة، فأتى بالمفتاح، ووضعه في يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سيعطي المفتاح إلى إنسان غيره، ولكن الرسول صلى الله عليه وضع المفتاح مرة ثانية في يد عثمان بن طلحة، وقال: هَاكَ مِفْتَاحُكَ يَا عُثْمَانُ، الْيَوْمَ يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاءٍ، خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً، لَا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ.
وظل مفتاح الكعبة مع بني عبد الدار، وهو إلى الآن في نسل بني عبد الدار، وهذا الموقف من أروع الموقف التي استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكسب به قلوب بني عبد الدار جميعا، وشعرت بنو عبد الدار أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينزل الناس منازلهم، وسيبقى لهم على الفخر الذي كان لهم، وبذلك استطاع صلى الله عليه وسلم أن يسيطر على الموقف إلى درجة كبيرة في داخل مكة المكرمة، وقبل ذلك استطاع أن يكسب قلوب بني أمية، والآن هو يكسب قلوب بني عبد الدار.
لقد فعل صلى الله عليه وسلم أمرا من المستحيل أن تجده في تاريخ أي دولة من الدول، وقف الرسول الله صلى الله عليه وسلم في صحن الكعبة، ونادى على شعب مكة جميعا أن يأتوا إلى الكعبة، فأتوا جميعا وهم في حرج شديد بعد صراعهم الطويل مع الإسلام والمسلمين، وإيذاء للرسول صلى الله عليه وسلم، ومصادرة للأموال والديار، وقتل بعض الأصحاب وجلد وتعذيب، وغيرها، تاريخ طويل من العناء من أهل مكة، وسألهم الرسول صلى الله عليه وسلم –كما أسلفنا-سؤالا واحدا بسيطا: مَا تَظُنُّونَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟
ما تنتظرون مني بعد الذي فعلتموه معي ومع أصحابي من إيذاء في هذه السنوات المتتالية، وكان الطبيعي أن يأخذ كل أهل مكة أسرى وسبايا وغنائم، فهذا فتح عسكري، ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة بالقوة، وأحاطها بعشرة آلاف مقاتل، ولكن الرؤية كانت واضحة عنده صلى الله عليه وسلم، فهو لم يدخل مكة؛ ليهلك أهلها، ولم يفتح بلدا من البلاد سواء مكة أو غير مكة ليهلك أهلها، بل كان دائما حريصا على إسلامهم، وإسلام رجل كان أحب إليه من أموال الدنيا جميعا، وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أن قوة أهل مكة قد انهارت، ورأوا أصنامهم قد كسرت، وأصبح صلى الله عليه وسلم يأمل في إسلامهم، فهم على مقربة من الإسلام ولم يبق إلا أن ينطقوا بالشهادة؛ لذلك قال لهم صلى الله عليه وسلم وهو يتلطف بهم، ويشعرون ذلك في نبرات صوته:
مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟
فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم.
فقريش الآن في أزمة شديدة، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد عليهم: أنتم تعلمون ذلك منذ زمن بعيد، وتعلمون أني أشرف العرب نسبا، وأشرف قريش نسبا، والصادق الأمين، وكل ذلك أنكرتموه بعد أن نزلت عليه الرسالة، ولم يذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بكل ذلك ولم يعنفهم...
بل قال في سماحة ورحمة: أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفَ: [ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] {يوسف:92}اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاء
فأطلقهم جميعا مَنّا بغير فداء، مع أنه كان من الممكن أن يأخذهم أسرى، والدولة الإسلامية في مرحلة النشأة، وتحتاج إلى أموال ومع ذلك أطلقهم؛ لأن إسلامهم أحب إليه من أموال الدنيا كلها.[2]
"إن النبي صلى الله عليه وسلم المنتصر لم يكن طالب ثأر ولا ناشد قِصاص ، بل كانت الرغبة المستولية عليه أن يفتح أقفال القلوب ، وأن ينقذ التائهين الحيارَى،وأن يعالج الأخطاء القديمة بالرفق ،وأن يتلقى الأحقاد القديمة بالعفو ، وأن يحبب الناس في الإسلام ،وان تقر عيناه برؤيتهم يدخلون فيه أفواجاً ، لأنه رحمة مهداه ، ورسول يقود العباد إلى ربهم، وليس بشراً ينزع إلى التسلط والجبروت ، ما انتقم لنفسه قط ولا طلب لها علواً في الأرض
--------------------------------------------------------------------------------
[1]رحمة الحبيب صلى الله عليه وسلم مع الكفار والمشركين ، متاح في:
http://www.alnabee.com/rahmaa/mshrkeen.htm
[2]راغب السرجاني.إسلام مكة ، 1/5/2006 ، شوهد في : 27/7/2007، على موقع: http://www.islamstory.com/articleprint.aspx?articleid=1.2.25