هديه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع زوجاته أمهات المؤمنين رضيَ الله عنهن .
يقول الدكتور أكرم ضياء العمري : صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم إن تصفح سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يعطي صورا مشرقة من خلقه الكريم عليه الصلاة والسلام في معاملة الناس جميعا ، ولكن سلوكه في بيته مع أزواجه له دلالته الخاصة ، على رقة طباعه وعمق عاطفته ، وقدرته الفذة على مراعاة مشاعر أزواجه واحترام رغباتهن ، ما دامت لا تخرج عن حدود الشرع وأحكامه )) [1] .
نعم إنه لكلام صحيح وقول مقبول ، لكنه ليس بالسهل أن ينثر المرء تفاصيل حياة النبي الزوجية فيتحدث عن زواجه وحبه صلى الله عليه وسلم ، ووصاله وفصاله صلى الله عليه وسلم ، أو يتناول الجوانب الاجتماعية من سيرته مع آبائه وأمهاته صلى الله عليه وسلم ، ومع إخوانه وأخواته ، ومع أحبائه وأصدقائه صلى الله عليه وسلم .
هل نملك من الأدب والاحترام ما يأذن لنا بالدخول على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أهله ، وهل في قاموسنا اللغوي من التعبيرات اللائقة لننقل ما نشاهده من تصرفاته بمقتضى الزوجية أو الأبوة أو الأخوة أو القرابة .
إنه – والله- لولا إيماننا الجازم بأن الله جمع لنبيه الكريم من مظاهر الكمال البشري الذي لم يبلغه بشر من قبله ولا من بعده ، لما أقدمنا على كتابة هذه السطور ولا تأليف هذا الكتاب ، فهو صلى الله عليه وسلم رسول أمين ، وزوج مخلص ، وأب رحيم ، وابن كريم ، لم يصدر منه طيلة حياته ما يناقض أمانة المرسلين ، أو إخلاص الأزواج ، أو رحمة الآباء ، أو كرم الأبناء صلى الله عليه وسلم .
هديه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع زوجاته أمهات المؤمنين رضيَ الله عنهن .
وسنحاول إن شاء الله تعالى أن نسلط الأضواء الساطعة على هذا الجانب المهم من سيرته العطرة ، لنقتبس من أنوار هديه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع أمهات المؤمنين وزوجاته الطاهرات رضيَ الله عنهن ، ونشعل من أخلاقياته الرفيعة سرجا تنور بيوتنا وتسعد حياتنا الزوجية بإذن الله تعالى .
وذلك في المطالب التالية :
المطلب الأول : زواج النبي الكريم صلى الله عليه وسلم دليل كماله البشري .
إن مما أجمع عليه العقلاء وتواطأ عليه الفضلاء أن الزواج بالنسبة للبالغين من الرجال كمال وليس نقصا ، وما ينتج عن الزواج من أولاد وذرية مما طبع كل إنسان على محبته والفرح به ، قال تعالى : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [2] ، ولذلك نرى ذكور كل قبيلة ورجال كل شعب من البشر يتزوجون إذا بلغوا مبلغ الرجال ، ويعد من لم يتزوج منهم أو لم يقدر على الزواج ناقصين غير كاملين .
وكذلك الأديان السماوية شرعت للناس الزواج عند توفر الشروط المادية والمعنوية ، وعلى رأس من شرع في حقهم الزواج الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام ، قال تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ }[3] .
ولم يؤثر سلوك التبتل وترك النكاح عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إلا ما يذكر عن نبي الله يحيى عليه الصلاة والسلام الموصوف في القرآن ب صلى الله عليه و سلم الحصور ) ، قال تعالى : {فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ } [4] ، وقد اختلف المفسرون في معنى صلى الله عليه و سلم الحصور ) ، قال ابن كثير رحمه الله : صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم روي عن ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء ، وعطية العوفي ، أنهم قالوا : الذي لا يأتي النساء ، وعن أبي العالية ، والربيع بن أنس : هو الذي لا يولد له ، ولا ماء له )) [5] ، وقيل : الحصور هو : من لا ذكر له )) .[6]
وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله : صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم والتحقيق في معنى { حصورا } أنه الذي حصر نفسه عن النساء مع القدرة على إتيانهن تبتلا منه وانقطاعا لعبادة الله ، وكان ذلك جائزا في شرعه ، وأما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهي التزويج وعدم التبتل ، أما قول من قال إن الحصور فعول بمعنى مفعول ، وأنه محصور عن النساء لأنه عنين لا يقدر على إتيانهن ، فليس بصحيح ، لأن العنة عيب ونقص في الرجال ، وليست من فعله حتى يثنى عليه بها ، فالصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا واختاره غير واحد من العلماء )) [7] .
ولذلك كان زواج النبي صلى الله عليه وسلم دليلا عمليا على كمال بشريته ، حيث تزوج وتسرى ، وأنجب له ، فجعل الله له أزواجا وذرية ، سنته فيمن سبق من إخوانه الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ، قال ابن كثير صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم وهي في حق من قدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه ، درجة عليا ، وهي درجة نبينا صلى الله عليه وسلم ، لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة ، بتحصينهن وقيامه عليهن ، وإكسابه لهن ، وهدايته إياهن ... )) [8].
وكان اليهود بجهلهم وقصدهم الإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيرون الرسول صلى الله عليه وسلم بكثرة الزواج ، ويقولون : ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء ، ولو كان نبيا لشغله أمر النبوة عن النساء ، فأنزل الله تعالى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [9] .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى صحابته الكرام رضيَ الله عنهم عن التبتل وترك الزواج لمن قدر عليه ، ويعتبر ذلك السلوك مخالفة لسنته المطهرة ، ورغبة عما جاء به من الهدى ، صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم فعن أنس بن مالك رضي الله عنه : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها ، فقالوا : وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل أبدا ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله ، وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) [10] .
هديه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع زوجاته أمهات المؤمنين رضيَ الله عنهن .
2- خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم في باب الزواج .
رغم كون الزواج مما شرعه الله تعالى لعباده وسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ، إلا أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصية في باب الزواج لا يشاركه فيها أحد من أمته ، ألا وهي جواز التزوج بأكثر من أربع نساء ، قال الله تعالى مبينا حدود ما يباح للمسلم من النساء : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } [11] .
ومع ذلك فقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصمته إحدى عشر امرأة ، وكان يأمر من أسلم من الصحابة وتحته أكثر من أربع نساء أن يختار منهن أربعا ويفارق سائرهن ، صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم عن مالك عن ابن شهاب قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من ثقيف أسلم وعنده عشر نسوة : صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم أمسك منهن أربعا ، وفارق سائرهن )) [12] .
وهذه الخصوصية فضل ومنة من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ناسب ما كان يتمتع به من علو المنزلة ومزيد الشرف على أمته ، وما رزقه الله تعالى من قوة بدنية وباءة في النكاح ، صلى الله عليه و سلم صلى الله عليه و سلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار ، وهن إحدى عشرة ، قال صلى الله عليه و سلم الراوي ): قلت لأنس : أو كان يطيقه ؟ قال : كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين )) [13] .
ومن كمال عبوديته لله تعالى وشكره لنعمه سبحانه أن وظف هذه الخصوصية في الزواج في تحقيق غايات عظيمة وتحصيل مقاصد جليلة تعود على الأمة الإسلامية وعلى البشرية جمعاء بالخير العاجل والآجل في الدنيا والآخرة .
والغريب في الأمر هو أن أكثر الخائضين في موضوع زواج النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب يعرفون أن عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قليل جدا إذ قورن بأعداد أزواج بعض من سبقه من أنبياء بني إسرائيل ، حيث بلغ عدد أزواج بعضهم المائة أو يزيد ، وذلك مدون في كتبهم إلى الآن .
ومهما وصل إليه الإنسان من عدد الزوجات ، وفي حدود ما أذن الله به ، فهو خير مما يقع فيه كثير من الرؤساء والقادة من غير المسلمين من السفاح والشذوذ الجنسي ، وكثيرا ما يسمع عن أولاد لهم من غير بيوت الزوجة من السكرتاريات والعشيقات والفنانات وغيرهم ، في قصص غرامية فاضحة ، تنشر في الصحف وكتب الروايات والجاسوسية .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] السيرة النبوية الصحيحة ، له ، ( 2 / 643 )
[2] سورة آل عمران الآية 14
[3] سورة الرعد الآية 38
[4] سورة آل عمران الآية 39
[5] تفسير القرآن العظيم ( 1 /362 )
[6] تفسير القرآن العظيم ( 1 / 362 )
[7] أضواء البيان ( 3 / 384 )
[8] تفسير القرآن العظيم ( 1 / 362 ، 363 )
[9] سورة الرعد الآية 38
[10] صحيح البخاري ( 5 / 1949 ) صحيح مسلم ( 1020 )
[11] سورة النساء الآية 3
[12] موطأ الإمام مالك ( 2/ 586 )
[13] صحيح البخاري ( 1/ 105)