8- وفي هذه المعركة مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة وقد قتلها خالد بن الوليد ، والناس متقصفون ( مزدحمون) عليها، فقال : ما هذا ؟ قالوا : امرأة قتلها خالد بن الوليد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض من معه : أدرك خالدا ًفقل له :إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليداً ، أو امرأة ، أوعسيفاً ( أجيراً ) ...
لاشك في أن النهي عن قتل الضعفاء ، أو الذين لم يشتركوا في القتال ، كالرهبان ، والنساء ، والشيوخ ، والأطفال ، أو الذين أجبروا على القتال ، كالفلاحين ، والأجراء ( العمال) شيء تفرد به الإسلام في تاريخ الحروب تبيح للأمة المحاربة قتل جميع فئات الشعب من أعدائها المحاربين بلا استثناء ، وفي هذا العصر الذين أعلنت فيه حقوق الإنسان ، وقامت أكبر هيئة دولية عالمية لمنع العدوان ، ومساندة الشعوب المستضعفة كما يقولون ، لم يبلغ الضمير الإنساني من السمو والنبل حداً يعلن فيه تحريم قتل تلك الفئات من الناس ، وعهدنا بالحربين العالميتين الأولى والثانية تدمير المدن فوق سكانها ، واستباحة تقتيل من فيها تقتيلاً جماعياً ، كما كان عهدنا بالحروب الاستعمارية ضد ثورات الشعوب التي تطلب بحقها في الحياة والكرامة .
إن المستعمرين يستبيحون في سبيل إخماد تلك الثورات تخريب المدن والقرى وقتل سكانها بالآلاف وعشرت الآلاف ، كما فعلت فرنسا أكثر من مرة في الجزائر ، وكما فعلت إنجلترا في أكثر من مستعمرة من مستعمراتها ، وكما تفعل اليوم البرتغال في مستعمراتها في إفريقيا .
كما أننا لم نعهد قط في تاريخ شعب من شعوب العالم القديم والحديث النهي عن قتل العمال والفلاحين الذين يجبرون على الحرب جبراً ، ولكن الاسلام جاء قبل أربعة عشر قرناً بالنهي الصريح عن قتلهم ، ولم يقتصر الأمر على مجرد النهي تشريعاً ، بل كان ذلك حقيقة وواقعاً ، فهناك في معركة حنين ترى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه وهو صاحب الشرعية ومبلغها عن الله إلى الناس ، يغضب لقتل امرأة ، ويرسل إلى بعض قواده أن لا يتعرض للنساء والأطفال والأجراء ، وحين جهز جيش أسامة لقتال الروم ـ قبل وفاته بأيام ـ كان مما أوصاهم به : الامتناع عن قتل النساء ، والأطفال ، والعجزة ، والرهبان الذين لا يقاتلون ، أولا يعينون على قتال ، وكذلك فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين أنفذ بعث اسامة ، وحين كان يوجه الجيوش للقتال في سبيل الله : في سبيل الحق والخير والهدى والعدالة ،
وكذلك فعل سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه في كل مكان ، وفي مختلف العصور هذه المبادئ الإنسانية النبيلة التي لم يعرفها تاريخ جيش من جيوش الأرض ، وبذلك على حرص الجيش الإسلامي على هذه التقاليد معاملة صلاح الدين للصلبيين بعد أن انتصر عليهم ، واسترد منهم بيت المقدس ، فقد أعطى الأمان للشيوخ ، ورجال الدين ، والنساء ، والأطفال ، بل وللمحاربين الأشداء ، فوصلهم إلى جماعاتهم بحراسة الجيش الإسلامي ، لم يمسسهم سوء ، بينما كان والوحشية ، والدناءة ، فقد أمن الصليبيون سكان بيت المقدس المسلمين على أرواحهم وأموالهم ، إذا رفعوا الراية البيضاء فوق المسجد الأقصى ، فاحتشد فيه المسلمون مخدوعين بهذا العهد ، فلما دخل الصليبيون بيت المقدس ذبحوا كل من التجأ إلى المسجد الأقصى تذبيحاً عاماً ، وقد بلغ من ذبحوا فيه سبعين ألفاً من العلماء والزهاد ، والنساء والأطفال ، حتى إن كاتباً صليبياً رفع البشارة بهذا الفتح المبين إلى البابا ، وقال فيه مباهياً : لقد سالت الدماء في الشوارع حتى كان فرسان الصليبين يخوضون في الدماء إلى قوائم خيولهم .
إننا لا نقول اليوم هذا للمفاخرة والمباهاة بتاريخ فتوحاتنا وقوادنا وجيوشنا التي قال فيا " لوبون " : " ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم ولا أعدل من العرب " وإنما نقول هذا لننبه إلى إننا كنا أرحم بالإنسانية وأبر بها من هؤلاء الغربيين وهم في القرن العشرين ، وإلى أن هؤلاء الغربيين حين يتحدثون الينا عن حقوق الإنسان ويوم الأطفال ، ويوم الأمهات ، تدليلاً منهم على سمو حضارتهم إنما يخدعوننا نحن ، بل يخدعون السذج والسخفاء ، وفاقدي الثقة بأمتهم وتاريخهم ممن يزعمون أنهم أبناؤنا ومثقفونا .
نريد أن يكون جيلنا المعاصر واعياً لهذه الدسائس ، واثقاً بدينه وتراثه الحضاري الانساني النبيل ، فلا يخضع لهؤلاء الغربيين خضوع الفقير الذليل أمام الغني القوي ، ولا يتهافت على زادهم الفكري دون تمييز بين غثه وسمينه ، تهافت الفراش على النار ليحترق بها .
لقد أثبت العالم أن الإسلام خير الأديان ، وأقربها إلى فطرة الإنسان ، وأضمنها لصلاح الناس ، وأثبت التاريخ أن حروب الإسلام أرحم الحروب وأقلها بلاءاً ، وأكثرها خيراً ، وأنبلها هدفاً ، وفي كل يوم جديد برهان جديد على أن الإسلام دين الله ، وأن محمداً رسول الله ،وأن المسلمين الصادقين صفوة عباد الله وخيرتهم من الناس أجمعين. ( سَنُرِيهِمْ آيَاِتنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أنْفِسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ الحَقُّ ، أوَلمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنَّهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ شَهِيدٌ ) [ فصلت : 53] .
9- بعد أن تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من انهزم من هوازن على ثقيف بالطائف ، وحاصرها أياماً فلم تفتح عليه ، عاد إلى المدينة وفي الطريق قسم غنائم معركة حنين ، وكانت ستة آلاف من الذراري والنساء ، ومن الأبل والشياه مالا يدري عدته ، وقد أعطى قسماً كبيراً منها للاشراف من العرب يتألفهم على الاسلام ، وأعطى كثيراً منها لقريش ولم يعط منها للأنصار شيئاً ، وتكلم بعضهم في ذلك متألمين من حرمانهم من هذه الغنائم ، حتى قال بعضهم : لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ، أي إنه لم يعد يذكرنا بعد أن فتح الله مكة ودانت قريش بالاسلام ، فجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار وخطب فيهم فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه : " يا معشر الأنصار ! مقالة بلغني عنكم ، وجدة ( أي عتب ) وجدتموها على في أنفسكم ؟ ألم تكونوا ضلاًلاً فهداكم الله ؟ وعالة فأغناكم الله ؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟ " بلى ! الله ورسوله أمن وأفضل . ثم قال : " ألا تجيبونني يا معشر الأنصار " ؟ قالوا : بماذا نجيبك يا رسول الله ؟لله ولرسوله المن والفضل ، " أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم : أتيناك مكذباً فصدقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فأويناك ، وعائلاً فأسيناك ، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة ( البقية اليسيرة ) من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ، وتركتكم إلى إسلامكم ، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فو الذي نفس محمد بيده ، لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار ، ولو سلك الناس شعباً ( هو الطريق بين جبلين ) وسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار ، اللهم أرحم الأنصار ، وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار " فبكي القوم حق أخضلوا ( بللوا ) لحاهم ، وقالوا : رضينا برسول الله قسماً وحظاً .
وها هنا مسائل يمكن التعليق عليها :
أولاً : قضية الغنائم كجزء من نظام الحرب في الإسلام ، وقد اتخذها أعداؤه وسيلة للطعن فيه على أنها باعث مادي من بواعث إعلان الحرب في الإسلام ، ومنشط فعال للجنود والمسلمين يدفعون إلى التضحية والفداء ، ولذلك يتهافتون عليها بعد الحرب ، كما في هذه المعركة ، ولا ريب في أن كل منصف يرفض هذا الادعاء ، فبواعث الحرب في الاسلام معنوية تهدف إلى نشر الحق ، ودفع الأذى والعدوان ، وهذا ما صرحت به آيات وأحاديث كثيرة صريحة ، ومن الغرابة بمكان أن يضحي الإنسان بحياته ، ويعرض مستقبل أسرته للضياع ، طمعاً في مغنم مادي مهما كبر ، والطمع في المغانم المادية لا يمكن أن يؤدي إلى البطولات الخارقة التي بدت من المحاربين المسلمين في صدر الإسلام ، ولا يمكن أن يؤدي إلى النتائج المذهلة التي انتهت اليها معارك الإسلام مع العرب في حياة الرسول ، والتي انتهت اليها معاركه مع فارس والروم فيما بعد ، على أن أعداء الإسلام لم تكن تنقصهم المطامع المادية ، فغنيمة أموال المسلمين ورقابهم في حال هزيمتهم كانت من نصيب أعدائهم حتماً ،
ولم يكن المسلمون وحدهم هم الذين يقتسمون أموال أعدائهم ورقابهم عند الانتصار عليهم ، بل كان هذا شأن كل جيوش المتحاربين فلماذا لم تؤد المطابع المادية عند الأعداء إلى البطولات الخارقة ، والنتائج المذهلة التي كانت تبدو من الجنود المسلمين ، والتي أسفرت عنها الحروب الإسلامية ؟ وفي وقائع الحروب الإسلامية ما ينفي نفياً قاطعاً بأن الدوافع المادية كانت هي الباعث الرئيسي في نفس الجندي المسلم ، ففي معارك بدر ، وأحد ، ومؤته ، وغيرها كان البطل المسلم يتقدم إلى المعركة مؤملاً في إحراز شرف الشهادة ونعيم الجنة ، حتى كان أحدهم يقذف بالتمرة من فمه حين يسمع وعد الرسول للشهداء بالجنة ، ويخوض المعكرة وهو يقول : بخ بخ ، ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا هذه التمرات ، والله إنها لمسافة بعيدة ، ثم ما يزال يقاتل حتى يقتل ،
وكان أحدهم يبرز لقتال الأعداء وهو يقول الجنة ّ! والله إني لأجد ريحها دون أحد ( أي أقرب من جبل أحد ، وكان ذلك في معركة احد ) . وفي معارك الفرس كان جواب قائد الوفد المسلم لرستم حين عرض أن يدفع للمسلمين أموالاً أو ثياباً ليعدلوا عن الحرب ويرجعوا إلى بلادهم ، والله ما هذا الذي خرجنا من أجله ، وإنما نريد إنقاذكم من عبادة العباد الى عبادة الواحد القهار ، فإن انتم أسلمتم رجعنا عنكم ويبقى ملككم لكم ، وأرضكم لكم ، لا ننازعكم في شيء منها .. فهل هذا جواب جماعة خرجوا للمغانم والاستيلاء على الأرضي والأموال . أما أن يستشهد لتلك الدعوى الباطلة بما حصل عند تقسيم الغنائم بعد معركة حنين من استشراف نفوس كثيرين من المحاربين إليها ، وموجدة الانصار لحرمانهم منها ، فذلك المغانم من حديثي العهد بالإسلام الذين لم تتمكن هداية الإسلام من نفوسهم كما تمكنت من السابقين إليه ، ولذلك لم يستشرف لها أمثال أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن عوف ، وطلحة ، والزبير ، من كبار الصحابة السابقين إلى دعوة الإسلام ، وما حصل من الأنصار إنما كانت مقالة بعضهم ممن رأوا في تقسيم الغنائم يومئذ تفضيل بعض المحاربين على بعض في مكاسب النصر ، وهذا يقع من أكثر الناس في كل عصر ، وفي كل مكان ، وهذا المعنى مما يجده كل إنسان في نفسه في مثل تلك الظروف .
وليس أدل على إرادة رضي الله وثوابه وجنته ، وطاعة رسوله عند الأنصار ، من بكائهم حين خطب صلى الله عليه وسلم فيهم ، وكان مما قاله لهم : " ألا تريدون أن يرجع الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم " ؟ فمن فضلوا صحبة رسوله وقربهم منه وسكناه بينهم على الأموال والمكاسب ،أيصح أن يقال فيهم : إنهم إنما جاهدوا للأموال والمكاسب ؟
ولا معنى لأن يقال : لماذا جعل الاسلام الغنائم من نصيب المحاربين ، ولم يجعلها من نصيب الدولة كما في عصرنا هذا ؟ لأن القول بذلك غفلة عن طبيعة الناس ، وتقاليد الحروب في تلك العصور ، فلم يكن الجيش الاسلامي وحده دون الجيش الفارسي أو الرومي هو الذي يقتسم أفراده أربعة أخماس الغنائم ، بل كان ذلك شأن الجيوش كلها ، ولو أن مجتهداً اليوم ذهب إلى أن غنائم الجيش الإسلامي في عصرنا الحاضر تعطي للدولة ، لما كان بعيداً عن فقه هذه المسألة وفق مبادئ الاسلام وروحه .
ثانياً ـ أن إغداق العطاء للذين أسلموا حديثاً ، يدل على حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعرفته بطبائع قومة ، وبعد نظره في تصريف الأمور ، فهؤلاء الذين ظلموا يحاربون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويمتنعون عن قبول دعوته ، حتى فتح مكة ، والذين أظهر بعضهم الشماتة بهزيمة المسلمين أول المعركة ، لا بد من تأليف قلوبهم على الاسلام وإشعارهم بفضل دخولهم فيه من الناحية المادية التي كانوا يحاربونه من أجلها ، إذ كانوا ـ في الحقيقة ـ إنما يحاربونه وهم أشراف القوم إبقاء على زعامتهم ، وحفاظاً على مصالحهم المادية ،فلما خضد الاسلام من شوكتهم بفتح مكة ، كان من الممكن أن يظلوا في قرارة أنفسهم حاقدين على هذا النصر ، واجدين من هزيمتهم وانكسارهم ، والاسلام دين هداية وإصلاح ، فلا يكتفي بفرض سلطانه بالقهر والغلبة ، كما تفعل كثير من النظم التي تعتمد في قيامها وبقائها على القوة دون استجابة النفوس والقلوب ، بل لا بد من تفتح القلوب له ، واستبشارها بهدايته ، وتعشقها لمبادئه ومثله ، وما دام العطاء عند بعض الناس مفيداً في استصلاح قلوبهم وغسل عداوتهم، فالحكمة كل الحكمة أن تعطي حتى ترضى ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولقد علم الله أن دعوته التي انتصرت اخيراً في جزيرة العرب ، لا بد من أن تمتد إلى شرق الدنيا وغربها ، فلا بد من إعداد العرب جميعهم لحمل هذه الرسالة ، والتضحية في سبيلها فإذا صلحت نفوس أشرافهم بهذه الاعطيات ، وتفتحت قلوبهم بعد ذلك لنور الدعوة ، وحمل أعباءها ، وهذا هو الذي حصل ، فانه بعد أن تألف رسول الله صلى الله عليه وسلم قلوب هؤلاء الزعماء ، زالت من نفوسهم كل موجدة وحقد على الاسلام ودعوته ، فلما أنساح الجيش الاسلامي في الأرض للتبشير بمبادئ الاسلام ، إخراج الناس من ظلمتهم إلى نوره ، كانت الجزيرة العربية مستعدة لهذا العمل التاريخي العظيم ، وكان هؤلاء الرؤساء المؤلفة قلوبهم من أوائل الراضين المندفعين لخوض معركة التحرير ، وقد أثبت التاريخ بلاء كثير منهم في الفتوحات بلاءً حسناً ، كما كان لكثير منهم بعد ذلك فضل كبير في تثبيت دعائم الإسلام خارج الجزيرة ، وإرادة مملكته الواسعة ، وقيادة جيوشه المتدفقة .
ولا يضر هؤلاء المجاهدين أنهم كانوا في أول إسلامهم ممن ألفت قلوبهم على الإسلام ، أو تأخر دخولهم فيه عن فتح مكة ، فكثيراً ما يلحق المتأخر بالسابق ، ويدرك الضعيف فضل القوى ، ويخلص العمل من لم يبدأ مخلصاً ، وقد قال الحسن رحمه الله : طلبنا هذا العلم لغير الله ، فأبى إلا أن يكون لله . وقال غيره : طلبنا هذا العلم ولم تكن لنا فيه نية ، ثم حضرتنا النية بعد . وحسب المتأخرين أن الله وعدهم بالحسنى ،كما قال تعالى ؟ ( لا يَسْتَوى مِنْكُمْ مَنْ أنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلْ أوْلئِكَ أعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الذِينَ أنفَقُوا مِنْ بَعْدُ ، وَقَاتلُوا ، وَكُلاً وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى ، وَاللهُ بِمَا تَعْمَلونَ خَبِيرٌ ) [ الحديد : 10] .
ثالثاً ـ وفي جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار واسترضائهم على حرمانهم من المغانم ، دليل على حسن سياسته صلى الله عليه وسلم ، ودماثه خلقه ، فهو حين بلغه ما قاله بعضهم بشأن الغنائم ، اهتم باسترضائهم وجمعهم لذلك ، وقال لهم ذلك القول الحكيم مع أنه يعلم أنهم يحبونه ويتبعونه ، وقد بذلوا في سبيل الله دماءهم وأموالهم ، فليس يخشى عليهم ما ينقص من أيمانهم ، ، ولكنه أحب أن يزيل ما علق في أذهان بعضهم حول هذا الموضوع ، وتلك سنة حميدة يجب أن يتبعها القادة والزعماء مع أنصارهم ومحبيهم ، فإن الأعداء متربصون لاستغلال كل حادثة أو قول يضعف تعلق المحبين بقادتهم ، والشيطان خبيث الدس ، سريع المكر ، فلا يهمل القادة استرضاء أنصارهم مهما وثقوا بهم .
ثم أنظر إلى ذلك الأسلوب الحكيم المؤثر الذي سلكه عليه الصلاة والسلام لاسترضائهم وإقناعهم بحكمه ما فعل ، فقد ذكر فضلهم على دعوة الإسلام ، ونصرتهم لرسوله ، ومبادرتهم إلى التصديق به حيث كذبه قومه وطاردوه ، بعد أن ذكرهم بفضل الله عليه في إنقاذهم من الضلالة والشتات والعداوة ليسهل عليهم كل ما فاتهم من مال الدنيا بجانب ما ربحوه من السعادة والهداية ، وبذلك أكد لهم أمرين : أنه لم ينحز إلى قومه وينسى هؤلاء ، أنه كان حين حرمهم الغنائم ، إنما كان يعتمد على قوة دينهم ، وعظيم إيمانهم ، وحبهم لله ولرسوله ، و ليس بعد هذا الأسلوب أسلوب أبلغ في استرضاء ذوي الفضل والسبق في الدعوة ممن آمنوا بها مخلصين صادقين ، لا يرجون جزاءً ولا شكوراً . فصلى الله وسلم عليه ما أصدق قول الله فيه: ( وَإنَّكَ لعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) [ ن : 5].
رابعاً ـ ان موقف الأنصار بعد أن سمعوا كلامه ، أروع الأمثلة في صدق الإيمان ، ورقة القلوب ، وتذكر فضل الله في الهداية والتقوى ، فقد ذكروا أن الفضل لله ولرسوله فيما قاموا به من النصرة والتأييد والجهاد ، وأنهم لولا الله لما اهتدوا ، ولولا رسوله لما استضاءت قلوبهم وبصائرهم ، ولولا الإسلام لما جمع الله شملهم بعد الشتات ، وصان دماءهم بعد الهدر ، وأنقذهم من سيطرة اليهود إلى عز الإسلام وخلصهم من جيرانهم المستغلين ، ثم أعلنوا إيثارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل ما تفيض به الدنيا من مال ومتاع ، ولما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحمة لهم ، ولأولادهم ولأولاد أولادهم . سالت مدامعهم فرحاً بعناية رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ودعوته المستجابة لهم ، فهل بعد هذا دليل على صدق الإيمان ، وهل هناك حب اسمي وأروع من هذا الحب ؟ رضي الله عنهم وأرضاهم ، وخالد ذكراهم في العالمين ، وألحقنا بهم في جنات النعيم ، مع رسوله الحبيب العظيم ، والذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والمقربين .
وأخيراً فان هذا الموقف وما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنصار ، مما يجب أن يتذكره كل داعية ، وأن يحفظه كل طالب علم ، فانه مما يزيد في الإيمان ، ويهيج لواعج الحب والشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين .