في أهم الأحداث التي وقعت بعد فتح مكة
إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
أ ـ غزوة حنين
بعد أن فتح الله مكة على رسوله والمسلمين فانهارت بذلك مقاومة قريش التي استمرت إحدى وعشرين سنة منذ بدء الرسالة ، تجمعت هوازن لقتال الرسول صلى الله عليه وسلم ، فكانت معركة حنين التي تجد تفاصيلها في " سيرة ابن هشام " .
ونذكر من دروس هذه المعركة ما يلي:
1- ما كان من غزور مالك بن عوف وعدم استماعه لنصيحة دريد ابن الصمة حرصاً منه على الرئاسة ، واغتراراً منه بصواب فكره ، وتكبراً عن أن يقول قومه ـ وهو الشاب القوي المطاع ـ : قد أستمع إلى نصيحة شيخ كبير لم يبق فيه رمق من قوة ، ولو أنه أطاع نصيحة دريد لجنب قومه الخسارة الكبيرة في أموالهم ، والعار الشنيع في سبي نسائهم ، ولكنه الغرور وكبرياء الزعامة يوردان الشعوب موارد الهلكة ويجعلان عاقبة أمرها خسراً ، فقد أبى له غروره أن يستسلم لقوة الاسلام التي ذلت لها كبرياء قريش بعد طول كفاح وشديد بلاء ، وظن أنه بما معه من رجال وما عنده من أموال ، يستطيع أن يتغلب على قوة الاسلام الجديدة في روحها ، وفي أهدافها ، وفي تنظيمها عليه وعلى قومه ، ثم أبى له غروره إلا أن يخرج معه نساء قومه وأموالهم ليحول ذلك دون هزيمتهم ، وعدا نصيحة دريد الذي قال له : إن المنهزم لا يرده شيء ، فإنه غفل عن أن المسلمين الذين سيحاربهم لا يستندون في رجاء النصر على مال ولا عدو ولا عدة ، وإنما يستندون إلى قوة الله العزيز الجبار ، ووعده لهم بالنصر والجنة ، ولا يمتنعون عن الهزيمة رغبة في الاحتفاظ بنسائهم وأموالهم ، بل رغبة في ثواب الله وخوفاً من عقابه الذي توعد المنهزمين في ميادين الجهاد بأليم العذاب وشديد الانتقام ( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَؤْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أوْ مُتَحَيِّزاً إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ، وَمَأوَاه جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المَصِيرِ) [ الأنفال : 16 ] .
وهكذا حلت الهزيمة بمالك وقبيلته هوازن ومن معه ، ولم يقتصر شؤم غروره وكبريائه عليه وحده ، بل أصاب قومه جميعاً ، لأنهم أطاعوه في هذا الغرور ، ولما أنذرهم بأنهم إن لم يستجيبوا له ، بقر بطنة بالسيف ، سارعوا إلى طاعته ، ولو أنهم ابتغوا نصيحة شيخهم المجرب ،وكفكفوا من كبرياء زعيمهم الشاب ، ولما أصابهم ما أصابهم ، لقد خافوا من غضب هذا الزعيم المغرور عليهم ، ولو أنهم سألوا أنفسهم : ماذا يكون لو أغضبناه ؟ لكان الجواب : انهم يفقدون زعيمهم ! وماذا في هذا ؟ ماذا في ذهاب زعيم مغرور أناني يريد أن يستأثر بشرف المعركة دون من هم أقدم وأخبر منه بالمعارك وشؤونها ؟ وهل توازي حياة شخص حياة قبيلة أو أمة من الناس بأكملها؟ لقد حذرنا الله في القرآن من نتيجة هذا الاستسلام الجماعي لأهواء المغرورين من الكبراء والزعماء ، يقول الله تعالى في قصة موسى مع فرعون ( فَاسْتَخَفَّ قَومَهُ فَأطَاعُوهُ ، إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَاً فَاسِقِينَ ، فَلمَّا آسَفُونَا ( أغضبونا باعراضهم عن الحق واتباعهم لطاغيتهم المغرور ) انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأغْرَقْنَاهُمْ أجْمَعِينَ . فَجَعْلنَاهُمْ سَلفاً (قدوة للعقاب ) وَمَثَلاً لِلآخَرِينَ ) [ الزخرف : 54 ـ 56 ] .
2- ما كان من استعارة الرسول صلى الله عليه وسلم من صفوان وهو مشرك مائة درع مع ما يكفيها من السلاح من الكافر ، أو استعارته على أن لا يؤدي ذلك إلى قوة الكافر واستعلائه ، واتخاذه من ذلك وسيلة لأذى المسلمين وإيقاع الضرر بهم ، فقد استعار الرسول من صفوان السلاح بعد فتح مكة ، وكان صفوان من الضعف والهوان بحيث لا يقوى على فرض الشروط على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يدل على ذلك قوله للرسول حين طلب منه ذلك : أغصباً يا محمد ؟ فأجابه الرسول : " بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك " .
وفي هذا أيضاً مثل من أمثلة النبل في معاملة المسلمين لأعدائهم المنهزمين ، فلو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يأخذها منه غصباً لاستطاع ، ولما قدر صفوان أن يقوم شيئاً ، ولكنه هدي النبوة في النصر ومعاملة المغلوبين ، والعف عن أموالهم بعد أن تنتهي المعركة ويلقواالسلاح ، وما علمنا أن أحداً فعل هذا قبل محمد صلى الله عليه وسلم ولا بعده ، وفيما شهدناه من معاملة الجيوش المنتصرة للمغلوبين وسلب أموالهم وكراماتهم وحقوقهم أكبر تأييد لما قلنا ( وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) [ الأحزاب : 4] .
3- حين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال في هذه المعركة ،وكان معه أثناء عشر ألفاً : ممن خرجوا معه من المدينة فشهدوا فتح مكة ، وهم المهاجرون والأنصار ، والقبائل التي كانت تجاور المدينة ، أو في طريق المدينة ، ألفان ممن أسلموا بعد الفتح ، وكان أكثر هؤلاء ممن لم تتمكن هداية الاسلام في قلوبهم بعد ، وممن دخلوا في الإسلام بعد أن أنهارت كل آمالهم في مقاومته وإمكان التغلب عليه ، ففي هذا الجيش كان المؤمنون الصادقون الذين باعوا لله أرواحهم وأنفسهم في سبيل إعزاز دينه ، وفيه كان الضعاف في دينهم ، والمنافقون الذين أسلموا على مضض وهم ينطوون على الحقد وعدم، الإيمان بالاهداف التي يحاربون من أجلها ، وفيه الراغبون في غنائم النصر ومكاسبة ، ولذلك كانت الهزيمة أول الأمر شيئاً غير مستغرب ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى كثرة من معه : " لن نغلب اليوم من قلة " أي : إن مثل هذا الجيش في كثرة عدده لا يغلب إلا من أمور معنوية تتعلق بنفوس افراده ، تتعلق بإيمانهم وقوة أرواحهم واخلاصهم وتضحياتهم ، وقد وضع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قاعدة جليلة ، وهي أن النصر لا يكون بكثرة العدد ،ولا بجودة السلاح ، وإنما يكون بشيء معنوي يغمر نفسي المحاربين ، ويدفعهم إلى التضحية والفداء ، وقد أكد القرآن الكريم على هذا في غير موضع ، فقال تعالى : ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةٍ بِإذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرينَ ) [ البقرة : 249 ] .
وفي الآيات التي نزلت بعد انتهاء المعركة ما يشير بصراحة إلى هذا المعنى ( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلمْ تُغْنِ ِعَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَليْكُمْ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ، ثُمَّ أنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلى المُؤْمِنِينَ وَأنْزَلَ جُنُوداً لمْ تَرَوهَا وَعَذَّبَ الذِينَ كَفَرُوا ، وَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرينَ ) [ التوبة : 25-26] .
4- وفي قول بعض المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في طريقهم إلى المعركة : يا رسول الله لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، وفي جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لهم :" قلتم ـ والذي نفس محمد بيده ـ كما قال قوم موسى لموسى " ( اجْعَلْ لَنَا إلَهَاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلونَ ) [ الاعراف : 138 ] إنها السنن ، لتركبن سنن من كان قبلكم : .
في هذا إشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما ستسلكه هذه الأمة من تقليد الأمم السابقة لها ، وفيه تحذير من ذلك ، وأنها لا تسلكه إلا من غلبة الجهالة عليها ، فالأمم التي تعرف وجوه الخير والفساد ، وطريق الضرر والنفع ، تأخذ الخير وتتسمك به ، وتعرض عن الفساد و تفر منه ، وتأبى أن تسلك أي طريق يضر بها ولو سلكته الأمم وسارت فهي ، فإذا سارت في طريق التقليد غير عابئة بنتائجه ، كانت قد وضعت الشيء في غير موضعه ، وهذا هو الجهل الذي قال عنه : ( إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلون ) ، والأمة الواثقة بنفسها ، المعتزة بشخصيتها ، المطمئنة إلى ما عندها من حق وخير تأبى أن تسير وراء غيرها فيما يؤذيها وينافي مبادئها ، فاذا قلدت ، كانت ضعيفة الشخصية ، مضطربة التفكير ، مستسلمة للأهواء ، متردية في الضعف والانحلال ، وتلك هي الجاهلية التي أنقذنا الله منها برسوله وكتابه وشريعته ، ليس العلم والجهل في نظر دعوات الاصلاح هما القراءة والأمية ، وإنما هما الهدى والضلال ، والوعي الغباوة ، فالأمة الواعية لما يفيدها وما يضرها ، هي الأمة العالمية ولو كانت أمية ، والأمة التي لا تهتدي إلى الخير سبيلا ، هي الأمة الجاهلة ولو كانت تعرف شتى العلوم ، وتحيط بمختلف الثقافات .
إن الذي هو ويهوي بالامم ـ أي أمة كانت ـ انما هو استيلاء الجاهلية على عواطف أبنائها وأهوائهم ، واسألوا التاريخ : هل انهارت حضارة اليونان والرومان الا بسيطرة الجاهلية عليها . إن المقلدين جهال مهما تعلموا ، أطفال مهما كبروا ، وسيظلون أولاداً جهالاً حتى يتحرروا .
5- في هذه المعركة بعد أن انهزم المسلمون أول الامر ، وتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ظن شيبه بن عثمان أنه سيدرك ثأره من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبوه قد قتل في معركة أحد ، قال شيبة : فلما اقتربت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لاقتله أقبل شيء حتى تغشى فوادي ، فلم أطق ذاك ، وعلمت أنه ممنوع مني .
ولقد تكررت في السيرة مثل هذه الحادثة ، تكررت مع أبي جهل ، ومع غيره في مكة ، وفي المدينة ، وكلها تتفق على أن الله قد أحاط رسوله بجو من الرهبة أفزع الذين كانوا يتآمرون على قتله ، وهذا دليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة ، وعلى أن الله قضى بحفظ نبيه من كل كيد ، وببقائه حياً ، حتى يبلغ الرسالة ، ويؤدي الأمانة ، وينقذ جزيرة العرب من جاهليتها ، ويقف بأبنائها في وجه الدنيا ، يعلمون ، ويهذبون ، وينقذون ، ولولا حماية الله لرسوله ، لقضي المشركون على حياته منذ أوائل الدعوة ، ولما كمل الدين ، وتمت النعمة ، ووصل إلينا نور الرسالة وهدايتها ورحمتها ، ولما تحول مجرى التاريخ تحوله الذي خلص الانسانية من عمايتها وشقائها بانتشار الاسلام ، وانتهاء عهود التحكم بالشعوب ، والاستبداد بتصريف شؤونها ، من ملوك ورؤساء أقاموا سلطانهم على البغي والظلم ، ومنع الشعوب من أن تشعر بكرامتها ، أو تثأر لظلامتها ، ولقد تم كل هذا بفضل حماية الله لرسوله ، حتى أدى الأمانة كاملة غير منقوصة .
لا جرم أن فضل الله كان على رسوله عظيماً ( وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَليكَ عَظِيمَاً ) [ النساء : 113 ] . وأن فضل رسول الله على البشر كان عظيماً ، ( وَمَا أرْسَلنَاكَ إلا رَحْمَةً لِلعَالمِينَ ) [ الأنبياء : 107 ] . ولا جرم في أن نجاة دعاة الحق من كيد أعدائه ومن تربصهم بهم ، هو استمرار لذلك الفضل العظيم الذي ابتدأ بحماية رسوله .
وأن على الدعاة أن يلجؤوا دائماً ـ بعد الاحتراس والحذر ـ إلى كنف الله ، ويحتموا بعزته وسلطانه ، ويثقوا بأن الله معهم نصير ، ولهم حافظ وأن من أراد الله له النجاة من كيد أعداء الهداية سينجو مهما يكن سلطانهم شديد الوطأة ، عظيم الكيد والتآمر والإجرام ، فالحماية حماية الله ، والنصر نصره ، والخذلان خذلانه ، والنافذ قضائه وأمره ، ( إنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ ) [ آل عمران : 160] ومهما يعظم كيد الانسان الظالم ، فإن نصر الله العدل أعز وأعظم ، فلا يجبن داعية ولايخف مصلح ، ولايتأخر عن تأدية الحق مؤمن بالله واثق بعونه وتأييده ( وَكانَ حَقاً عَليْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ ) [ الروم : 47 ] ( إنَّ الذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أولئِكَ فِي الأذَلِّينَ ، كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أنَا وَرُسُلِي إنَّ اللهَ قَوَيٌّ عَزِيزٌ ) [ المجادلة : : 20 ـ 21 ] ولا ينافي هذا نجاح أعداء الله في الوصول إلى بعض أئمة الهدى من دعاة الاصلاح ، وتمكنهم من القضاء عليهم ، أو إيقاع الأذى بهم ، فإن الموت حق ، وهو نصيب ابن آدم لامحالة ، فمن يكتب عليه الموت بأيدي الظالمين ، فانما هي كرامة أكرمه الله بها ، وفضل أنعم به عليه ، وكل موت في سبيل الله شهادة ، وكل أذى في دعوة الحق شرف ، وكل بلاء بسبب الإصلاح خلود ( ذَلِكَ بِأنَّهُمْ لا يُصِيبَهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئَاً يَغِيظُ الكُفَّارَ ، وَلا يَنَالونَ مِنَ عَدُوٍّ نَيلاً إلا كُتِبَ لهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ،إنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ ) [ التوبة: 120 ] .
6- فوجئ المسلمون أول المعركة بكمين أعدائهم لهم ، مما أدى إلى وقوع الخلل في صوف المسلمين وأضطرابهم وتفرقهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يثبت معه إلا القليل ، ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ينادي: إلى أيها الناس ! هلموا إلى ، أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبدالله ، فلم يسمع الناس صوته ، فطلب من العباس ـ وكان جهوري الصوت ـ أن ينادي في الناس ، : يا معشر الأنصار ، يا معشر أصحاب السمرة ! فأجابوا : لبيك لبيك ، فيذهب الرجل ليثني بعيره ، فلا يقدر على ذلك ، فيأخذ درعه ، فيقذفها في عنقه ، ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره ويخلي سبيله ، ثم يؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا اجتمع اليه منهم مائة استقبلوا الناس فاقتتلوا ثم كان النصر
في هذا الموقف عدة من العبر والدروس يجدر بدعاة الحق وجنوده أن يقفوا عندنا طويلاً ، فإن أنهزام الدعوة في معركة قد يكون ناشئاً من وهن في عقيدة بعض ابنائها وعدم أخلاصهم للحق ، وعدم استعدادهم للتفاني في سبيلة كما أن ثبات قائد الدعوة في الأزمات ، وجرأته ، وثقته بالله ونصره ، له أثر كبير في تحويل الهزيمة إلى نصر ،وفي تقوية قلوب الضعاف والمترددين ممن معه ، وللثابتين الصادقين من جنود الحق والتفافهم حول قائدهم الجريء المخلص أثر كبير أيضاً في تحويل الهزيمة إلى نصر ، إن الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة أول المعركة ، ثم الذين استجابوا لنداء الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتجاوزوا مائة ، وعندئذ ابتدأ التحول في سير المعركة ، وابتدأ نصر الله لعبادة المؤمنين ، وابتدأ التحول في سير المعركة وابتداء نصر الله لعبادة المؤمنين ، وابتداء تخاذل أعدائه ، ووقوع الوهن في قلوبهم وصفوفهم ،وكلما تذكر قائد الدعوة وجنودها أنهم على حق ، وأن الله مع المؤمنين الصادقين ، أزدادت معنوياتهم قوة ، و ازداد إقدامهم على الفداء والتضحية .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " أنا رسول الله " ، وفي رواية غير بن هشام أنه قال : " أنا النبي لا كذب " أنا ابن عبد المطلب " دلالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة وثقته بنصر ربه ، وهكذا ينبغي أن يكون القائد دائما وأبداً في الشدائد ، واثقاً من نفسه ، وملتجئاً إلى ربه ، متأكداً من نصره له وعنايته به ، فإن لثقة القائد بهدفه وغايته ورسالته كبر الأثر في نجاته ولاتفاف الناس حوله ، ولها أكبر الأثر في تخفيف الشدائد على نفسه وتحمل آلامها راضياً مطمئناً .
7- وفي موقف أم سليم بنت ملحان مفخرة من مفاخر المرآة المسلمة في صدر الاسلام ، فقد كانت في المعركة مع زوجها أبي طلحة وهي حازمة وسطها ببردلها وهي حامل ، ومعها جمل لابي طلحة قد خشيت أن يفلت منها ، فأدخلت يدها في خزامته ( وهي حلقة من شعر تجعل في أنف البعير ) مع الخطام ، فرآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لها : أم سليم ؟ قالت : نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! أقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقاتل الذين يقاتلونك ، فإنهم لذلك أهل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو يكفي الله يا أم سليم ! وكان معها خنجر ، فسألها زوجها أبو طلحة عن سر وجوده معها ! فقالت : خنجر أخذته ، إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به ! فأعجب بها ابو طلحة ، ولفت نظر الرسول إلى ما تقول .
هكذا كانت المرأة المسلمة، هكذا ينبغي أن تكون : جريئة تسهم في معارك الدفاع بحضورها بنفسها حتى إذا احتيج إليها أودنا منها الأعداء ، ردت عدوانه بنفسها كيلا تؤخذ أسيرة مغلوبة ، وللمرأة المسلمة في تاريخ الإسلام حين نشوئه صفحات مشرقة من الفداء والبلاء والتضحية والشجاعة ، مما يصفع أولئك المتعبين من المشترقين وغيرهم من الغربيين الذين زعموا لقومهم أن الإسلام يهين المرأة ويحتقرها ، ولا يجعل لها مكانهاً للائق في المجتمع في حدود رسالتها الطبيعة ، بل تمادى بهم الإفك إلى الادعاء بان الإسلام لا يفسح مجالاً للمرأة في الجنة ، فلا تدخلها مهما علمت من خير ، وقدمت من عبادة وتقوى !!
وبقطع النظر عن نصوص القرآن والسنة الصريحة في رد هذا الأفتراء ، فإن تاريخ الإسلام نفسه ، قد سجل للمرأة المسلمة ، من المآثر في نشره ، والدعوة اليه والتضحية في سبيله ما لم يسجله للمرأة دين من الأديان قط وما وقع من أم سليم في هذه المعركة ( معركة حنين ) مثال من مئات الأمثلة الناطقة بذلك ، ونحن لا يهمنا الرد على أعداء الإسلام المتعصبين في هذا الموضوع بقدر ما يهمنا أن نتخذ من حادثة أم سليم هنا درساً بليغاً يحفزنا دعوة المرأة المسلمة من جديد للقيام بدورها الطبيعي في خدمة الاسلام ، وتربية أجيالنا المقبلة على هدية ومبادئه ، إن المرأة المسلمة اليوم ، بين صالحة مستقيمة تكتفي من صلاحها باقامة الصلوات ، وقراءة القرآن ، والبعد عن المحرمات ، وبين منحرفة في تيار الحضارة الغربية ، قد أستبدلت بآداب الاسلام آدابها ، وبأخلاق المرأة العربية المسلمة أخلاق المرأة الغربية التي جرت عليها وعلى اسرتها وشعبها البلاء والشقاء ،
وإذا كان بعض الناس قد أخذوا على عاتقهم تجريد المرأة العربية المسلمة من اخلاقها وخصائصها التي ربت بها أكرم أجيال التاريخ سمواً ونبلاً وخلوداً في المآثر المكرمات ، فإن الإسلام وتاريخه وبخاصة تاريخ رسوله صلى الله عليه وسلم ،يهيب بها اليوم أم تتقدم من جديد لتخدم الإسلام والمجتمع الإسلامي في حدود وظيفتها الطبيعية ، ورسلتها التربوية ، وخصائصها الكريمة ، من نبل وعفة ، وحشمة ، وحياء ، ترى هل تعيد فتياتنا المسلمات المتدينات تاريخ خديجة ، وعائشة ، وأسماء ، والخنساء وأم سليم ، وأمثالهن ؟ هل يعدن إلينا اليوم تاريخ هؤلاء المؤمنات الخالدات ، والنجوم الساطعات ؟ هل يصعب أن يوجد فيهن اليوم عشرات من خديجة ، وعائشة ، وأسماء ، وأم سليم ؟ كلا ، ولكن التوجيه الصحيح ، والإيمان الواعي المشرق ، كفيل بذلك وأكثر منه ، فمن التي تفتح سجل الخلود للمرأة العربية المسلمة في عصرنا الحاضر ، غير عابئة بتضليل المضلين ، واستهزاء المستهزئين من أعداء الخير والحق والفضيلة والدين؟