تعد امكانية تواصلنا مع بعضنا البعض هبه غالية منحها الله للبشر. من المذهل أن تكون لدينا القدرة على تحويل ونقل خواطرنا و مشاعرنا و افكارنا للآخرين مما يمكننا من التعليم و التعلم والتفاعل مع المحيطين بنا أو حتى مع العالم ككل.
"التواصل مع الآخرين يعتبر قيمة يجب الاستفادة منها كلما سمحت الفرصة ولنا فى رسول الله أسوة حسنة فى ذلك الأمر"
من خلال هبة التواصل أيضاً يمنحنا الله القدرة على إدراكه وإدراك رسائله من خلال رسله و انبيائه مما يوجه الناس للرشاد خلال رحلتهم الدنيوية. ففى كل حقبة من التاريخ اختار الله رسله وأنبياءه عليهم جميعاً السلام لنقل رسالته إلى الناس. إن دور الرسل كوسطاء لنقل الرسالات من الله إلى أقوامهم تطلب مهارات تواصلية فائقة : فكان عليهم الإلمام باللغة والطلاقة فى التعبير وكذلك المعرفة الجيدة بالثقافة المحيطة حتى يتسنى لهم توصيل الرسائل الموكلة لهم. وأيضاً كان لابد أن يكون لديهم من الحضور ما يجذب الناس إليهم بالانتباه والاحترام.
"كونهم أنبياء كان عليهم أن يستمعوا للآخرين بقدر ما كانوا يتحدثون إليهم"
كان يجب أن يكونوا على خلق حتى يكونوا أمثلة حية للتعاليم التى يدعون إليها وكذلك لديهم المهارة و الذكاء لاختيار الوقت المناسب للتواصل وطريقة التعبير المناسبة لكل موقف. ذلك كله بالإضافة إلى الوعى و الحكمة و الصبر و القدرة على الاستماع للأخرين بطرق فعالة تمكنهم من رؤية الأشياء والحكم عليها من منظور الآخرين حتى يمكنهم التوصل للحلول المناسبة.
المهمة المستحيلة
اختار الله محمد (صلى الله عليه و سلم) من بين جميع رسله لمهمة مطلقة ألا وهى توصيل رسالة الله إلى البشرية كلها إلى أن يرث الله الأرض و من عليها. فلم يكن محدداً بتوصيل الرسالة للمنطقة الجغرافية المحيطة به خلال فترة حياته فقط ولكن المهمة امتدت لتشمل التواصل مع كل إنسان في أرجاء الأرض منذ بداية بعثته وحتى آخر يوم فى هذه الدنيا.
عندما أفكر فى موقف التواصل المستحيل هذا أتذكر واحدة من أوائل آيات القرآن التى أنزلت فى أوائل البعثة: " إنا سنلقى عليك قولاً ثقيلا " (المزمل : 5) فهى بالفعل رسالة مهيبة ليس فقط لمحتواها العظيم ولكن أيضاً لمهارات التواصل الكبيرة و المتعددة المطلوبة لتوصيلها لصفوف لا متناهية من أناس تفصلهم أماكن و أزمنة متعددة ومن خلال حواجز زمنية وثقافية وكل ما لايمكن تخيله مما قد تأتى به البشرية أو قد يطرأ عليها بمرور الزمن.
الإسلام اليوم هو أسرع الديانات انتشاراً حيث قارب العدد حوالى 2 مليار مسلم. من المذهل أن نرى نجاح محمد (صلى الله عليه و سلم) فى توصيل رسالته على الرغم من وجود الكثير من العوائق الرهيبة.
هنا لا نملك إلا أن نتعجب : ما هى المهارات والصفات التواصلية التى ملكها هذا الرجل الفريد والتى أهلته لشرف و صعوبات هذه المهمة المستحيلة.
أود أن أستكشف معكم سلسلة من المقالات تناقش العديد من أساليب التواصل فى حياته (صلى الله عليه و سلم) ربما ساعدنا ذلك على تحسين حياتنا اليومية فى أرض الله الواسعة.
جميعاً فى نفس المركب
سيبقى محمد (صلى الله عليه و سلم) مثالاً خالداً للبشرية بمرور الزمن فى مسألة التواصل مع الآخرين حيث أحاط نفسه بستة مجالات تعمل بشكل متوازى إلى جانب بعضها البعض وهى : الاتصال بالله ثم بعائلته ثم بأصحابه ثم بالمجتمع الإسلامى ثم بأعدائه ثم بالعالم أجمع. وقد استطاع النجاح فى المجالات الستة بكفاءة مذهلة.
فى عالمنا المادى متسارع الخطوات نرى تحول هذه المجالات للأسف وتقلصها حتى أصبحت معتمدة فقط على احتياجاتنا ومخاوفنا و طموحاتنا. فى سباقنا للتملك و النجاح الفردى نشعر بعدم أهمية إيجاد الوقت للتواصل فنركز على أنفسنا ونقلل من مساحة التواصل مع الآخرين. والنتيجة عالم على حافة الإنهيار بسبب زيادة معدل الأنانية عند البشر التى أدت لقلة التواصل ، محاولة كل فرد اخذ أكثر من حقه وقلة الاهتمام بالآخرين حتى فى حق تنفس هواء نظيف.
لاستعادة التوازن يحتاج العالم لأناس لديهم حس أكبر بكون البشر أمة واحدة مما يتطلب التركيز على صالح الآخرين وعلى الاهتمام بالبيئة والمستقبل الواحد والمشترك للبشرية كلها. فيجب إدراك أنه عند ذوبان الثلج فى جرينلاند يمكن أن تغرق دلتا النيل فى مصر، وأن تدمير طبقة الأوزون أعلى الولايات المتحدة يعنى زيادة معدل الإصابة بالسرطان فى استراليا لأنه على الرغم من المسافات المتباعدة فإننا جميعاً "فى مركب واحد" ولمواجهة المد يجب على الناس ضرورة تبادل القيم الجيدة فيما بينهم بفاعلية.
فن القياس (ايضاح الشئ بذكر شبيهه مباشرة أو من خلال الترميز)
كان من أكبر التحديات وجود الرسول (صلى الله عليه و سلم) فى عالم غير سوي حيث الدعوة المباشرة غير كافية لتعديله، لذلك استخدم علم القياس كطريقة فريدة وفعالة لتغيير مفاهيم العالم. ومن أمثلة ذلك قوله:
" مثل القائم في حدود اللّه والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم اعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرورا على من فوقهم، فقالوا لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإذا تركوهم و ما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم، نجوا ونجوا جميعا " رواه البخاري.
هذا القياس الرائع يعطينا صورة عقلانية جداً للتفكر والتذكر فنخرج بمفهوم الدرس بسلاسة بل ان ذلك يعطينا فكرة يمكن الاستفادة منها فى تربية أبنائنا لتنمية الوعى بالبيئة المحيطة بهم و بمستقبلهم.
إشتكت إحدى صديقاتى المسلمات فى دولة غربية أن الأطفال فى الجوار يتصرفون بطرق غير لائقة إطلاقاً حتى أنهم يستخدمون زجاجات الطلاء لرسم و كتابة أشياء خارجة على الحوائط. وكانت تتسائل إذا ما كان الموضوع يستحق العناء لتحسين هذا الوضع أو أنها يجب أن تهتم بأبنائها وتحميهم من الاختلاط مع نظرائهم وتركز على بيتها أكثر من الاهتمام بتحسين بيئتها المحيطة. وبالقياس على قصة السفينة أقترح عليها أن تشرك معها الآباء فى المنطقة مع الإمام فى أن يجعلوا جميع الأطفال يقوموا بتنظيف وإعادة طلاء الحوائط التى تم تلويثها ثم دعوة الجميع لحضور لقاء يشرح فيه الحديث السابق. فمن المهم توضيح أننا جميعاً مسافرين فى نفس السفينة فلو اعتبر كل منا البيئة المحيطة به بكل من فيها كسفينة "بعضهم أعلاها" بما لديهم من العلم والأخلاقيات و المسؤوليات الاجتماعية و"بعضهم أسفلها" فيجب علينا وضع أيدينا فى أيدي البعض لتعليم الأقل حظاً حتى نتمكن من إنقاذ السفينة.
بهذا المثال البسيط استطاع الرسول (صلى الله عليه و سلم) أن يبعث إلينا برساله غير محددة بزمن أو بثقافة معينة ، رسالة عالمية للكبير و الصغير، للرجال و النساء، للعلماء و الجهلاء تدعونا للنظر خارج أنفسنا وللتغلب على اختلافاتنا وأن نوسع دائرة اهتماماتنا إلى خارج بيوتنا حتى يمكننا إحداث فرق وحماية عالمنا الجميل من المسيئين.