ويجيب عن هذا السؤال رجل مسيحى هو “توماس كارليل”:
كانت نية هذا النبى قبل عام 622 م أن ينشر دينه بالحكمة والموعظة الحسنة وقد بذل فى سبيل ذلك كل جهد ، ولكنه وجد الظالمين لم يكتفوا برفض رسالته ودعوته ، بل عمدوا إلى إسكاته بشتى الطرق من تهديد ووعيد واضطهاد حتى لا ينشر دعوته.
وهذا ما دفعه إلى الدفاع عن نفسه والدفاع عن دعوته وكأن لسان حاله يقول: أما وقد أبت قريش إلا الحرب فلتنظر إذن أى قوم نحن ...
واستطرد قائلاً يرد على القائلين بأن هذا النبى نشر الإسلام بالسيف فيقول: “أرى أن الحق ينشر نفسه بأية طريقة حسبما تقتضيه الحال ... ألم تروا أن النصرانية كانت لا تأنف أن تستخدم السيف أحياناً ، وحسبكم ما فعله شارلمان بقبائل الساكسون ... أنا لا أحفل أكان انتشار الحق بالسيف أم باللسان أم بأية طريقة أخرى ... فلندع الحقائق تنشر سلطانها بالخطابة أو بالصحافة أو بالنار ... لندعها تكافح وتجاهد بأيديها وأرجلها وأظافرها فإنها لن تنهزم أبداً ... ولن يُهزم منها إلا ما يستحق الفناء ... ”.
ولنسأل السؤال بصورة أخرى: لقد حارب محمد أعداءه وقاوم من حاربوه وأعلنوا عليه الحرب. ولكن لماذا حارب المسلمون خارج ديارهم فى بلاد أخرى ، فقد اشتبكوا مع الفرس والروم فى معارك كبرى .. أليس ذلك دليل على اتهام الإسلام بالميل إلى العنف ، والاعتماد فى دعوته على السيف؟
نفهم من هذا السؤال أن السائل لا يفهم أن دعوة الإسلام دعوة عالمية منذ يومها الأول .. ولم تكن كدعوة الأنبياء السابقين أو دعوة عيسى عليهم جميعا السلام. فقد أمر عيسى عليه السلام حوارييه قائلاً : “لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ”. (متى 15 : 24)
“إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. 6بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ.” (متى 10 : 5 – 6)
: 24 – 27)24ثُمَّ قَامَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ وَدَخَلَ بَيْتاً وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لاَ يَعْلَمَ أَحَدٌ فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَخْتَفِيَ 25لأَنَّ امْرَأَةً كَانَ بِابْنَتِهَا رُوحٌ نَجِسٌ سَمِعَتْ بِهِ فَأَتَتْ وَخَرَّتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ. 26وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ أُمَمِيَّةً وَفِي جِنْسِهَا فِينِيقِيَّةً سُورِيَّةً - فَسَأَلَتْهُ أَنْ يُخْرِجَ الشَّيْطَانَ مِنِ ابْنَتِهَا. 27وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهَا: «دَعِي الْبَنِينَ أَوَّلاً يَشْبَعُونَ لأَنَّهُ لَيْسَ حَسَناً أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَبِ». (مرقس 7 : 24 – 27)
أما الإسلام فدعوته عالمية، فقد قال الله تعالى: ( وما أرسلناك إلا كافة للناسِ بشيراً ونذيراً ) (س سبأ 28) ، وكذلك: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (س الأنبياء 107)
فالقول بخروج الروم أو الفرس أو غيرهم من نطاق هذه الدعوة يتعارض مع الحكمة الإلاهية فى إرسال نبيه ولا يتفق كذلك مع المعنى الواسع لرحمة الله التى تشمل جميع المخلوقات.
وهنا يطرح نفسه سؤال آخر: ألم يكن من الأليق عرض هذه الدعوة بالتفاهم بدلاً من اللجوء إلى القتال والحرب؟
هذا ما حدث بالفعل ، فقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم دعاة على أعلى درجة من الفهم وانضج والإلتزام بأقصى درجات الصدق والأمانة فى النقل
كان من أهم هؤلاء السفراء “عبد الله بن حذافة السهمى” سفير النبى إلى كسرى ملك الفرس، لقد كتب النبى إلى كسرى يقول له : “من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس ... سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله ، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله . وأدعوك بدعاية الله عز وجل. فإنى رسول الله إلى الناس كلهم لأنذر
من كان حياً ويحق القول على الكافرين..أسلم. تسلم. فإن توليت فإنما عليك إثم المجوس..”
لقد جُنَّ جنون كسرى بعد قراءة هذه الرسالة. ثم مزقها .. وكتب إلى أمير اليمن التى كانت خاضعة له آنذاك قائلاً : “بلغنى أن رجلاً من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبى .. فسر إليه فاستتبه فإن تاب وإلا فابعث إلى برأسه .. ثم ختم رسالته بقوله: أيكتب إلى هذا وهو عبدى”
وبالتالى أرسل أمير اليمن فارسين إلى النبى ومعهما كتاب كسرى فقدما إليه وقالا له: شاهنشاه بعث إلى الملك بازان يأمره أن يبعث إليك من يأتى بك .. فإن أبيت .. هلكت .. وأهلكت قومك .. وخسرت بلادك ..
إذن لقد أعلن ملك الفرس الحرب؟ وقد تعلم أى قوم نحن !!
أما بانسبة لقيصر فقد أرسل إليه الرسول صلى الله عليه وسلم “دحية الكلبى” وقد كان أحكم من كسرى ملك الفرس لأنه كان عنده علم من الكتاب من النبوءات الكثيرة التى وردت فى التوراة والإنجيل تبشر بقرب ظهور النبى محمد عليه الصلاة والسلام.
تحدثنا الروايات إن قيصر عندما تسلم رسالة النبى صلى الله عليه وسلم بحث عن رجال من أهل مكة ليسألهم عن صاحب هذه الرسالة ، فلم يجد غير أبى سفيان – العدو الأكبر للنبى فى هذا الوقت – وجماعة معه.
فأمر قيصر أن يدنوا منه أكثرهم نسبا للرسول (وهو أبو سفيان) وأمر أن يجلس أصحاب أبى سفيان وراء ظهره. وقال لترجمانه: قل لأصحابه: إنى سائل هذا عن هذا الرجل (يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فإن كذبن فكذبوه ..
واضطر أبو سفيان يومئذ لقول أن يصدقه حياءً أن يؤثر عنه الكذب – كما قال هو .. وكان رد قيصر حين انتهى من كل ما أراد أن يعرفه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن قال :
قلت لى: أنه ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث فى أنساب قومها.
وقلت لى: أن أحداً قبله لم يزعم ما قاله فلوكان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله.
قلت لى: إنكم لم تتهموه مرة بالكذب. فعرفت أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.
قلت لى: لم يكن من آبائه ملك أو سلطان. وإلا لقلت إنه رجل يطلب ملك أبيه.
قلت لى: إن ضعفاءَكم هم الذين اتبعوه وكذلك الضعفاء هم أتباع الرسل.
قلت لى: إن عدد أتباعه يزيدون. أقول لكم وكذلك الإيمان حتى يتم .
قلت لى: إنه لا يرتد أحد اتبعه ويرجع إلى دينه القديم. أقول لك وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
قلت لى: أن حربه وحربكم تكون دولاً. أقول لكم وكذلك الرسل تُبتلى ، ثم تكون لها العاقبة.
قلت لى: أنه يأمركم أن تعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، ويأمركم بالصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، وهذه صفات نبى قد كنت أعلم أنه خارج.
ولكن لم أظن أنه منكم .. وإن يكن حقاً ما قلت فيوشك هذا الرجل أن يملك موضع قدمى هاتين ..
والله لو أعلم أنى أخلص إليه لتجشمت لقاؤه .. ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر فقرىء ، فإذا به:
بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى .. أما بعد ..
فإنى أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين. فإن توليت فعليك إثم الأريسيين
(يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) (آل عمران: 64)