يتحدث الباحث "وليم موير" عن معاملة النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ أعداءه تلك المعاملة التي اتسمت بالرحمة والعفو، حين فتحه مكة (في رمضان 8هـ/ يناير 630 م) ، فيقول :
"عامل حتى ألد أعدائه بكل كرم وسخاء حتى مع أهل مكة ، وهم الذين ناصبوه العداء سنين طوالاً ، وامتنعوا من الدخول في طاعته ، كما ظهر حلمه وصفحه في حالتي الظفر والانتصار ، وقد دانت لطاعته القبائل التي كانت من قبل أكثر مناجزة وعداء له " [1] .
كذلك يقول واشنجتون إيرفنج[2]:"كانت تصرفات الرسول ~ صلى الله عليه و سلم ~ في [أعقاب فتح] مكة تدل على أنه نبي مرسل لا على أنه قائد مظفر. فقد أبدى رحمة وشفقة على مواطنيه برغم أنه أصبح في مركز قوي. ولكنه توّج نجاحه وانتصاره بالرحمة والعفو" [3] .
فهو الفاتح الرحيم، بالحق والعدل، لا الغازي الطاغية أو الظالم..
"وفي إمكان المرء أن يتخيل المعاملة التي كان يجدر بفاتح دنيوي النزعة أن يعاملهم بها. ولكن صفح الرسول ~ صلى الله عليه و سلم ~ كان لا يعرف حدوداً . فقد غفر لهم ثلاثة عشر عاماً من الاضطهاد والتآمر " .. وهم الذين عذبوه وعذبوا أصحابه وهجَّروه وهجّروه أصحابه، وقتلوا منهم نفراً ليس بالعديد القليل ..
يقول "جان باغوت غلوب" معقباً " وهكذا تم فتح مكة دون إراقة دماء إلى حد كبير ... إلا أنه اكتسب قلوب الجميع بما أظهره من رحمة وعفو في يوم انتصاره " [4] .
هذا، ويقول المستشرق إميل درمنغم متحدثاً عن الفاتح والقائد الرحيم نبينا محمد ~ صلى الله عليه و سلم ~ في حال انتصاراته :
"فقد برهن محمد ~ صلى الله عليه و سلم ~ في انتصاره النهائي، على عظمة نفسية؛ قلَّ أن يوجد لها مثال في التاريخ؛ إذ أمر جنوده أن يعفوا عن الضعفاء والمسنين والأطفال والنساء، وحذرهم أن يهدموا البيوت، أو يسلبوا التجار، أو أن يقطعوا الأشجار المثمرة، وأمرهم ألا يجردوا السيوف إلا في حال الضرورة القاهرة، بل رأيناه يؤنب بعض قواده ويصلح أخطاءهم إصلاحاً مادياً ويقول لهم: إن نفساً واحدة خير من أكثر الفتوح ثراء ! " [6] .
"وهكذا ظهر الرسول ~ صلى الله عليه و سلم ~ الذي كان رحمة للعالمين، وحرر الإنسانية من أصفاد الجهل والخرافة والفساد" .. بل ظهر كما وصفه المفكر البلجيكي هنري ماسيه :"يتصف بالرحمة الخالصة" ` . تلك الرحمة الخالصة التي غلبت دوماً – كما يبين مارسيل بوازار – على أحاديث النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ وسيرته، فلا "تنفك الأحاديث الشريفة والسيرة النبوية تصور في الأذهان كرم الرسول وتواضعه، كما تصور استقامته ونقاءه ولطفه وحلمه . وكما يظهره التاريخ قائداً عظيماً ملء قلبه الرأفة، يصوره كذلك رجل دولة صريحاً قوي الشكيمة (ديمقراطياً).." [7] .
وفوق أخلاق الرحمة التي تخلق بها النبي ~ صلى الله عليه و سلم ~ لما انتصر على أعدائه وتمكن منهم، في المعارك والفتوحات، نراه أيضاً رحيماً بمجرمين وأعداء – داخل الدولة - أمضوا حياتهم في دس الفتن بين المسلمين، والعمل الدائب من أجل هدم الدين والدولة، فضلاً عن عمالة هؤلاء المجرمين لأعداء المسلمين خارج حدود الدولة ..
"وسماحة الرسول ~ صلى الله عليه و سلم ~ نحو أعدائه يعز نظيرها في تاريخ العالم . فقد كان عبد الله بن أبي عدواً للإسلام ، وكان ينفق أيامه ولياليه في وضع الخطط لإيقاع الأذى بالدين الجديد، محرضاً المكيين واليهود تحريضاً موصولاً على سحق المسلمين . ومع ذلك فيوم توفي عبد الله دعا الرسول ~ صلى الله عليه و سلم ~ ربه أن يغفر له ، بل لقد قدم رداءه إلى أهله كي يكفنوه به" .
إن نبي الرحمة ~ صلى الله عليه و سلم ~ لم ينتقم في أيما يوم من الأيام من امرىء أساء إليه! صحيح أنه أنزل العقوبة ببعض أعدائه في أحوال نادرة جداً، وفي فترات جد متباعدة . ولكن تلك الحالات كانت تنطوى كلها على خيانات بشعة قام بها أناس لم يعد الصفح يجدي في تقويمهم وإصلاحهم . والحق أن ترك أمثال هؤلاء المجرمين سالمين غانمين كان خليقاً به ألا يظن البعض أنه استحسن الأذى والإفساد .. والرسول ~ صلى الله عليه و سلم ~ لم يلجاً إلى العقوبة قط حيثما كان ثمة مجال لنجاح سياسة الصفح كرادع إن لم نقل كإجراء إصلاحي [8] .
----------------------------------------------
[1] وليم موير : حياة محمد، 88
[2] واشنجتون إيرفنج : مستشرق أمريكي، أولى اهتمامًا كبيرًا لتاريخ المسلمين في الأندلس. من آثاره: (سيرة النبي العربي) مذيلة بخاتمة لقواعد الإسلام ومصادرها الدينية (1849)، و(فتح غرناطة) (1859)، وغيرها.
[3] واشنجتون إيرفنج: حياة محمد ، ص 72
[4] جان باغوت غلوب : الفتوحات العربية الكبرى ، ص 156-157.
[6] انظر: بشرى زخاري ميخائيل : محمد رسول الله هكذا بشرت به الأناجيل، ص50.
[8] هنري ماسيه : الإسلام ، ص 11.
[7] مارسيل بوزار : إنسانية الاسلام ، ص 46.