النداء الثالث و الأربعون : الأمرُ بالوصية قبل الموت
قال تعالى : { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) } سورة المائدة
قِيلَ إنَّ حُكْمَ هَذِهِ الآيَةِ مَنْسُوخٌ . وَلَكِنَّ الأَكْثَرِيَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أنَّهُ مُحْكَمٌ . وَهَذِهِ الآيَةُ تَتَضَمَّنُ حُكْمَ مَنْ تُوُفْيَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ - وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوْلِ الإِسْلاَمِ ، وَالنَّاسُ كُفْارٌ ، وَالأَرْضُ أَرْضَ حَرْبٍ - وَكَانَ النَّاسُ يَتَوَارَثُونَ بِالوَصِيَّةِ ، ثُمَّ نُسِخَتِ الوَصِيَّةُ ، وَفُرِضَتِ الفَرَائِضُ ، وَعَمِلَ النَّاسُ بِهَا .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ مَا يَلِي : ( خَرَجَ بَدْيِلٌ ، مَوْلَى عَمْرِو بْنِ العَاصِ ، مَعَ تَاجِرَينِ نَصْرَانِيَّينِ هُمَا تَمِيمٌ الدَّارِيُّ وَعُدِيُّ بْنُ بَدَاءَ ، فِي تِجَارَةٍ إلَى الشَّامِ ، وَفِي الطَّرِيقِ اشْتَكَى بَدِيلٌ فَكَتَبَ وَصِيَّتَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ دَسَّهَا فِي مَتَاعِهِ ، وَأَوْصَى إلَيْهِما . فَلَمَّا مَاتَ فَتَحَا مَتَاعَهُ فَأَخَذا مِنْهُ شَيْئاً ثُمَّ حَجَرَاهُ كَمَا كَانَ . وَقَدِمَا عَلَى أهْلِهِ فِي المَدِينَةِ فَدَفَعا مَتَاعَهُ ، فَفَتَحَ أهْلُهُ المَتَاعَ فَوَجَدَا كِتَابَهُ وَعَهْدَهُ ، وَمَا خَرَجَ بِهِ ، وَفَقَدُوا جَاماً مِنْ فِضَّةٍ مُطَعَّمَةٍ بِالذَّهَبِ ، فَسَألْوهُمْا عَنْهُ فَقَالا : هَذا الذِي قَبَضْنَا لَهُ ، وَدَفَعَ إلينا . فَقَالُوا هذا كِتَابُهُ بِيَدِهِ . قَالاَ : مَا كَتَمْنَا لَهُ شَيْئاً . فَتَرَافَعُوا إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه كوسلم فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فَأمَرَ النَّبِيُّ أنْ يَسْتَحْلِفُوهُمَا ، دُبُرَ صَلاةِ العَصْرِ ، بِاللهِ الذِي لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ مَا قَبَضْنَا غَيْرَ هَذا وَلاَ كَتَمْنَاهُ . فَحَلَفَا . ثُمَّ وَجَدَ أَهْلُهُ الجَامَ فِي مَكَّةَ ، فَقَالَ لَهُمْ مَنْ وَجَدُوهُ عِنْدَهُ : إنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ عَدِيٍ وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ . فَقَالَ هَذانِ : نَعْمْ ، وَلَكِنَّا اشْتَرَينَاهُ مِنْهُ ، وَنَسِينا أنْ نَذْكُرَهُ حِينَ حَلَفْنَا ، فَكَرِهْنَا أنْ نَكْذِبَ فِي نُفُوسِنا . فَتَرَافَعُوا إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتْ الآيَةُ التَّالِيَةُ { فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ } فَأَمَرَ النَّبِيُّ رَجُلَينِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ المَيِّتِ أن يَحْلِفَا عَلَى مَا كَتَمَ تِمِيمٌ وَعَدِيٌّ وَغَيَّبَاهُ وَيَسْتَحِقَّانه .
ثُمَّ إنَّ تَمِيماً الدَّارِيَّ أسْلَمَ ، وَبَايَعَ النَّبِيِّ ، وَكَانَ يَقُولُ صَدَقَ رَسُولُ اللهِ ، أنَا أخَذْتُ الإِنَاءَ .
( وَيَرَى ابْنُ عَبَّاسٍ أنْ يَحْلِفَ الشَّاهِدانِ ، إنْ كَانَا غَيْرَ مُسْلِمَينِ ، بَعْدَ صَلاَةِ أهْلِ يِينِهِمَا ، لأَنَّهُ لاَ مَعْنَى لِتَحْلِفِهِمَا بَعْدَ صَلاَةِ العَصْرِ ، لأنَّهُما لا يُبَالِيَانِ بِصَلاَةِ ظُهْرٍ وَلاَ عَصْرٍ ، وَلا يُؤْمِنَانِ بِهَا ) .وَقَدْ أضَافَ اللهُ تَعَالَى الشَّهَادَةَ لِنَفْسِهِ الكَرِيمَةِ تَكْرِيماً لَهَا وَتَعْظِيماً .
فَإِذَا ظَهَرَ أنَّ الشَّاهِدَينِ قَدْ خَانَا الأَمَانَةَ ، أَوْ غَلاَّ شَيْئاً مِنَ المَالِ المُوصَى بِهِ إلَيْهِمَا ، فَلْيَقُمِ اثْنَانِ مِنَ الوَرَثَةِ المُسْتَحِقِّينَ لِلْتَّرِكَةِ ، وَلْيَكُونَا مِنْ أَوْلَى مَنْ يَرِثُ ذَلِكَ المَالِ ، فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ بِالقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ مِنْ شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ الآخَرَيْنِ ، وَإنَّ قَوْلَنَا إنَّهُمَا خَانَا أحَقُّ بِالقُبُولِ ، وَأَصَحُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا المُتَقَدِّمَةِ ، وَمَا اعْتَدَيْنَا فِيمَا قُلْنَا فِيهِمَا مِنَ الخِيَانَةِ ، وَإنْ كُنَّا كَذَبْنَا عَلَيْهِما وَافْتَرَيْنَا إذَاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ .
وبيان هذا الحكم الذي تضمنته الآيات الثلاث:أن على من يحس بدنو أجله , ويريد أن يوصي لأهله بما يحضره من المال , أن يستحضر شاهدين عدلين من المسلمين إن كان في الحضر , ويسلمهما ما يريد أن يسلمه لأهله غير الحاضرين . فأما إذا كان ضاربا في الأرض , ولم يجد مسلمين يشهدهما ويسلمهما ما معه , فيجوز أن يكون الشاهدان من غير المسلمين .
فإن ارتاب المسلمون - أو ارتاب أهل الميت - في صدق ما يبلغه الشاهدان وفي أمانتهما في أداء ما استحفظا عليه , فإنهم يوقفونهما بعد أدائهما للصلاة - حسب عقيدتهما - ليحلفا بالله , أنهما لا يتوخيان بالحلف مصلحة لهما ولا لأحد آخر , ولو كان ذا قربى , ولا يكتمان شيئا مما استحفظا عليه . . وإلا كانا من الآثمين . . وبذلك تنفذ شهادتهما .
فإذا ظهر بعد ذلك أنهما ارتكبا إثم الشهادة الكاذبة واليمين الكاذبة والخيانة للأمانة . قام أولى اثنين من أهل الميت بوراثته , من الذين وقع عليهم هذا الإثم , بالحلف بالله أن شهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين . وأنهما لم يعتديا بتقريرهما هذه الحقيقة . وبذلك تبطل شهادة الأولين , وتنفذ الشهادة الثانية .
ثم يقول النص:إن هذه الإجراءات أضمن في أداء الشهادة بالحق ; أو الخوف من رد أيمان الشاهدين الأولين , مما يحملهما على تحري الحق . (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها , أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم) . وينتهي إلى دعوة الجميع إلى تقوى الله , ومراقبته وخشيته , والطاعة لأوامره , لأن الله لا يهدي من يفسقون عن طريقه , إلى خير ولا إلى هدى:(واتقوا الله واسمعوا . والله لا يهدي القوم الفاسقين) . .
قال القرطبي في تفسيره عن سبب نزول هذه الآيات الثلاث: " . . . ولا أعلم خلافا أن هذه الآيات الثلاث نزلت بسبب تميم الداري , وعدي بن بداء روي البخاري والدارقطني وغيرهما عن ابن عباس قال:كان تميم الداري وعدي بن بداء , يختلفان إلى مكة ; فخرج معهما فتى من بني سهم , فتوفي بأرض ليس بها مسلم , فأوصى إليهما , فدفعا تركته إلى أهله , وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب . فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما كتمتما ولا اطلعتما " . ثم وجد الجام بمكة . فقالوا:اشتريناه من عدي وتميم . فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي , ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا . قال:فأخذ الجام . وفيهم نزلت هذه الآية [ لفظ الدارقطني ]
وواضح أن لطبيعة المجتمع الذي نزلت هذه الأحكام لتنظيمه دخلا في شكل الإجراءات . وربما في طبيعة هذه الإجراءات . فالإشهاد والائتمان على هذا النحو , ثم الحلف بالله في مجتمع بعد الصلاة . لاستجاشة الوجدان الديني , والتحرج كذلك من الفضيحة في المجتمع عند ظهور الكذب والخيانة . . كلها تشي بسمات مجتمع خاص . تفي بحاجاته وملابساته هذه الإجراءات .
ولقد تملك المجتمعات اليوم وسائل أخرى للإثبات , وأشكالا أخرى من الإجراءات , كالكتابة والتسجيل والإيداع في المصارف . . وما إليها . .ولكن . أو فقد هذا النص قدرته على العمل في المجتمعات البشرية ?
إننا كثيرا ما نخدع بيئة معينة , فنظن أن بعض التشريعات وبعض الإجراءات قد فقدت فاعليتها , ولم تعد لها ضرورة , وأنها من مخلفات مجتمعات مضى زمنها ! لأن البشرية استجدت وسائل أخرى ! أجل كثيرا ما نخدع فننسى أن هذا الدين جاء للبشرية جميعا , في كل أقطارها , وفي كل أعصارها . وأن كثيرة ضخمة من هذه البشرية اليوم ما تزال بدائية أو متدرجة من البداوة . وأنها في حاجة إلى أحكام وإجراءات تواكب حاجاتها في جميع أشكالها وأطوارها , وأنها تجد في هذا الدين ما يلبي هذه الحاجات في كل حالة . وأنها حين ترتقي من طور إلى طور تجد في هذا الدين كفايتها كذلك بنفس النسبة ; وتجد في شريعته ما يلبي حاجاتها الحاضرة , ثم يرتقي بها إلى تلبية حاجاتها المتطورة . . وأن هذه معجزة هذا الدين ومعجزة شريعته ; وآية أنه من عند الله , وأنها من اختياره سبحانه .
على أننا نخدع كذلك مرة أخرى حين ننسى الضرورات التي يقع فيها الأفراد من البيئات التي تجاوزت هذه الأطوار ; والتي يسعفهم فيها يسر هذه الشريعة وشمولها , ووسائل هذا الدين المعدة للعمل في كل بيئة وفي كل حالة . في البدو والحضر . في الصحراء والغابة . لأنه دين البشرية كلها في جميع أعصارها وأقطارها . . وتلك أيضا إحدى معجزاته الكبرى . .
إننا نخدع حين نتصور أننا - نحن البشر - أبصر بالخلق من رب الخلق . . فتردنا الوقائع إلى التواضع ! وما أولانا أن نتذكر قبل أن تصدمنا الأحداث . وأن نعرف أدب البشر في حق خالق البشر . . أدب العبيد في حق رب العبيد . . لو كنا نتذكر ونعرف , ونثوب . .