لا يُعلم أحدٌ مرَّ به من المصائب والمصاعب والمشاقِّ والأزمات، ما مرَّ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو صابرٌ محتسب.
☼ صَبَر على اليتم، والفقر، والجوع، والحاجة.
☼ ثُمَّ كُذِّب فصَبَر؛ قالوا له: شاعِرٌ كاهِنٌ ساحِرٌ مجنُونٌ كَاذبٌ مُفْتَرٍ؛ فصَبَر، آذَوْهُ، شَتَمُوه، سَبُّوه؛ فصَبَر!!
☼ مات عمُّه أبو طالب؛ فصَبَر، وماتت زوجتُه؛ فصَبَر، أخرجوه، حاربوه...؛ فصَبَر، وقُتل عمُّه حمزة؛ فصَبَر، وتُوفي ابنه؛ فصَبَر، ورُميَت زوجتُه الطاهرة العفيفة بالفاحشة كذبًا وبهتانًا؛ فصَبَر.
☼ صَبَر على قتل القرابة، والفتك بالأصحاب، وتشريد الأتباع، وتكالب الأعداء، وتحزُّب الخصوم، واجتماع المحاربين.
☼ وصَبَر على تجهُّم القريب، وتكالُبِ البعيدِ، وصَولةِ الباطلِ، وطُغْيَانِ المُكَذِّبين...
☼ صَبَر عن الدنيا بزينتها وزخرفها؛ فلم يتعلق منها بشيء.
☼ فهو صلى الله عليه وسلم الصابرُ المُحتَسِبُ في كلِّ شَأنٍ من شئون حياتِه، فالصبر دِرعُه وتُرسُه وصاحبُه وحَليفُه.
كلما أزعجه كلام أعدائه؛ تذكَّر:
[طه: 130]."فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ..."
وكلما راعه هول العدو، وأقضَّ مضجعَه تخطيطُ الكفَّار؛ تذكَّر:
"فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ..."
[الأحقاف: 35].
☼ وهل يُتعلَّم الصبرُ إلا منه؟! وهل يُقتدى بأحد في الصبرِ إلا به؟!
فهو مضرب المثل في سعة الصدر، وجليل الصبر، وعظيم التجمُّل، وثبات القلب، وهو إمام الصابرين، وقدوة الشاكرين صلى الله عليه وسلم (محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه، للشيخ عايض القرني).
☼ وصَبْرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في أمر الدعوة مضربُ المثل والقدوة الحسنة، حتى أقام الله عزَّ وجلَّ صروحَ هذا الدين .
☼ يقول صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ أُوذِيتُ فِي الله عَزَّ وَجَلَّ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَأُخِفْتُ في الله وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلاثُونَ؛ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَمَا لِي وَلِعِيَالِي طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا مَا يُوَارِي إِبِطَ بِلَالٍ» (أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني).
☼ وعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ الله بْنَ عَمْرٍو، عَـنْ أَشَـدِّ مَــا صَنَعَ المُشْرِكُونَ بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي، فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ، فَقَالَ: " أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ " (أخرجه البخاري).
☼ وذات يوم كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ؛ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض: أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ، فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ؛ فَجَاءَ بِهِ، فَنَظَرَ حَتَّى سَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ.
يقول عبد الله بن مسعود: وَأَنَا أَنْظُرُ، لَا أُغْنِي شَيْئًا، لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ.
قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ، وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ لَا يَرْفَعُ رَأْسـَهُ، حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عَـنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (البخاري ومسلم).
و(سَلى الجزور): السلى: هي اللفافة التي يكون فيها الولد في بطن الناقة، وهي عند الآدميات تسمى مشيمة، والجزور: الواحد من الإبل، و(أشقى القوم): أكثرهم خبثًا، و(مَنَعَة): قوة وشدة.
☼ وعن أنسٍ رضي الله عنه، قال: لقد ضربوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حتى غُشيَ عليه، فقام أبو بكر رضي الله عنه فجعل ينادي، ويقول: ويلكم! أتَقْتُلونَ رجلاً أن يَقولَ ربِّيَ الله؟!! قالوا: مَنْ هذا؟ قالوا: هذا ابنُ أبي قُحَافَة المجنون (أخرجه الحاكم في المستدرك)!!
وهكذا عانى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه الشدَّة والأذى والغلظةَ والفظاظةَ، وهو صابرٌ محتسبٌ، ثم خرج إلى الطائف رجاءَ نصرة أهلِها؛ فكان موقفهم منه أشدَّ إيلامًا وأذىً لنفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم، وترك هذا الموقف في نفسه أعمق الجرح.
☼ فعن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟
قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ؛ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ.
فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَـرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ الله قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ.
فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، وَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ الله قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ؛ فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الأَخْشَبَيْنِ؟».
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ الله مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ الله وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» (البخاري ومسلم).
(الأخشبان): الجبلان المحيطان بمكة، وهما أبو قُبَيْس والأحمر
☼ ولاشك أن صَبْرَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم على أمـرِ الدعـوةِ مدعـاةٌ إلى التأسِّي به، والسيرِ على نهجِه صلى الله عليه وسلم، وعدمِ الانتصارِ للنَّفس.
☼ ولم يقف الأمر عند هذا الحدِّ، ولم يدركوا مثلَ هذا الصبر عليهم، ولم يُقَدِّروا صفحَه عنهم؛ بل تآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم، فلما أجمعوا أمرهم على ذلك؛ آذنه الله بالهجرة، فهاجر إلى المدينة؛ لينتقل صلى الله عليه وسلم إلى نوع آخر أشد من الأذى والابتلاء؛ من اليهود ومن المنافقين، الذين كانوا يكيدون له، ويَحِيكُون المؤامراتِ ضده، ويتتبعون عوراتِ المسلمين، ويدلُّون المشركين عليها، ويحملون له وللمسلمين حقدًا دفينًا؛ فيقابله بمزيد من الصبر.
☼ وينتقل إلى نوع آخر من الصبر في مواجهة المشركين؛ صبر في ميادين القتال والمنازلة، صبر على كلوم الأسنة والرماح والسيوف، إنه صبر أولي العزم من الرسل.
فلم ينفد صبره صلى الله عليه وسلم، ولم ينثنِ عزمه، فمضى مجاهدًا صابرًا من معركة إلى أخرى ومن محنة إلى أختها.
☼ وفي يوم أحد كُسرت رَباعيته، وشُجَّ وجهـه الشريف، وأثخنته الجراح ـ بأبي هو وأمي ونفسي وولدي ـ وهو صـابرٌ محتسبٌ؛ يحكي عنه ابن مسعود رضي الله عنه، يقول: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» (البخاري ومسلم).
وصدق الله: " وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ".
* * *