كَانَ النبيُّ صلى الله عليه و سلم أشجعَ النَّاس، يدلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّه قَامَ فِي وجْهِ الكفْرِ وَحدَهُ، يدعُو إِلى التوْحِيدِ وَإِخْلاصِ العِبادَةِ للهِ تَعَالى، فتصدَّى لهُ أَهْلُ الكفْرِ جميعًا، وَحَارَبُوه عَنْ قَوْسٍ وَاحدةٍ, وَآذَوْه أشدَّ الإيذَاء, وتآمَرُوا عَلى قتلِه مِرَارًا, فَلَمْ يُرْهِبْه ذَلِك، وَلَم يُلِنْ لَهُ قناةً, بَل زَادَه إِصْرَارًا عَلَى دعوَتِه, وتمسُّكًا بالحقِّ الَّذِي مَعه. وَقَالَ فِي إِباءٍ وشُموخٍ مُتحدِّيًا طَواغِيتَ الأرْضِ: "وَاللهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ مَا تَرَكْتُهُ, حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ، أَوْ أَهْلِكَ دُونَهُ".
وَعَنْ أَنسِ بْنِ مالِكٍ رضي الله عنه قَال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم أَحْسَنَ النَّاسِ، وَكانَ أَجودَ النَّاسِ, وَكانَ أشْجَع النَّاسِ، ولقَدْ فَزِعَ أهلُ المدِينةِ ذَاتَ ليلةٍ, فَانْطلَق ناسٌ قِبَل الصوْتِ, فتلقَّاهُمْ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم رَاجِعًا، وَقَدْ سَبقهُمْ إِلَى الصَّوْتِ, وَهُو عَلى فَرَسٍ لأبِي طَلْحةَ عُرْيٍ، فِي عُنقِه السيفُ، وَهُوَ يقُول: "لَمْ تُرَاعُوا، لَـمْ تُراعُوا"[مُتَّفقٌ عليه]أَيْ لَا تَخَافُوا, لَا تَخَافُوا.
قَال النَّوويُّ: وَفِيه فَوَائِدُ: مِنْهَا بيانُ شجاعتِه صلى الله عليه و سلم مِنْ شِدَّةِ عَجَلتِه فِي الخُروجِ إِلى العدوِّ, وَقَبْلَ النَّاسِ كُلِّهم، بحيثُ كَشفَ الحالَ، وَرَجَعَ قَبْل وُصول النَّاسِ.
وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا يومَ الخَنْدَقِ نَحْفِرُ، إذْ عَرضَتْ كُديةٌ
([1])شَدِيدةٌ. فَجاءُوا بالنبيِّ صلى الله عليه و سلم فَقَالُوا: هَذِهِ كُديَةٌ عَرضَتْ فِي الخَنْدقِ. فَقالَ صلى الله عليه و سلم: "أَنَا نَازِلٌ"ثُمَّ قَام، وبطنُه معصوبٌ بحجَرٍ، ولبثْنَا ثلاثةَ أَيَّامٍ لا نذُوقُ ذَوَاقًا, فأخذَ النبيُّ صلى الله عليه و سلم المعْوَلَ، فَضربَ في الكُديةِ، فَعاد كثيبًا أَهْيَل أَوْ أَهْيمَ"[رواه البخاريُّ]والمعنَى أَنَّ هذهِ الصخرَةَ الصُّلْبَةَ, الَّتي لَم يستَطعْ الصَّحابةُ كَسْرَها، تَحَوَّلتْ إِلى كَثيبٍ مِنَ الرَّمْلِ المبعْثَرِ لشدَّةِ ضَرْبَةِ النَّبيِّ صلى الله عليه و سلم وَهَذا دَليلٌ عَلى قُوَّتهِ صلى الله عليه و سلم.
وَقَدْ كَان عليهِ الصلاةُ والسلامُ مِنَ الشَّجاعَةِ وَالْإقدَامِ والثَّباتِ أَمامَ الْأهْوَالِ فِي أشُدِّها، بِالمكَانَةِ العُلْيَا الَّتِي لَا يُدَانِيهِ فِيها أحَدٌ، وَلَا يَعْلَمُ مِقْدارَ سُمُوِّهَا إِلَّا مَن وَهبَها لَه جلَّتْ قُدرَتُه.
وَلهذَا حَضَر النبيُّ صلى الله عليه و سلم مَا حَضرَ مِن الغَزوَاتِ فِي كلِّ حَياتِه الجِهَادِيَّةِ, وَمَا حُفظَ عَنه مَرَّةً أَنَّه هَمَّ بالتأخُّرِ عَنْ مَقَامِهِ قَدَمًا أو أُصْبَعًا, الأمْرُ الَّذي جَعله بَينَ أَصحَابِهِ مِلءَ العُيونِ والصُّدورِ، قَائدًا مُطاعًا يَبتَدِرُ الصغيرُ مِنْهم والكبيرُ إِشارتَهُ, لَا لأنَّه رسُولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم فَقَطْ، بَلْ ولما كَانُوا يَرَون مِنْه مِنَ الشَّجَاعَةِ الَّتِي كَانُوا يَرَوْنَ أنفُسَهُمْ بِالنِّسبةِ لَها عَدمًا صِرْفًا، مَع أَنَّ فِيهمُ الأبْطالَ الَّذِينَ كَانتْ تُضرَبُ بشجَاعَتِهمُ الأمْثَالُ([2]).
وَفِي هَذا قالَ عَليُّ بنْ أبي طالبٍ رضي الله عنه: كُنَّا إِذَا احمرَّ البأْسُ، ولَقِيَ القومُ القومَ, اتَّقيْنا برسُولِ اللهِ صلى الله عليه و سلم، فَما يَكُونُ مِنَّا أحدٌ أَدْنَى إِلَى العدوِّ مِنْهُ. [رَوَاهُ أحْمدُ وَالنِّسائيُّ].
وَقَالَ عليٌّ أَيضًا: "لَقَدْ رأيتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ, وَنَحْنُ نَلُوذُ بالنَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم، وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلى العَدُوِّ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَأْسًا"[رَواه أحمدُ].
وَفي غزوَةِ أُحدٍ تَقدَّم اللعينُ أُبيُّ بْنُ خلَفٍ عَلى فَرسِه يُريدُ قتلَ النبيِّ صلى الله عليه و سلم ويقُولُ: أيْ مُحمَّدُ! لَا نجوْتُ إِن نجوْتَ. فَقالَ القومُ: يَا رسولَ اللهِ! أَيعطِفُ عَليه رجلٌ مِنَّا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم: "دَعُوه"فَلَمَّا دَنَا، تَنَاوَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه و سلم الحربةَ مِنَ الحارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ، فَانتفَضَ بِها انتفاضَةً, تَطايَرَ الصَّحابةُ رَضي اللهُ عَنْهمْ لَها، ثُمَّ استقبَلَهُ صلى الله عليه و سلم فطَعَنهُ فِي عُنُقِه طَعنةً تَدَأْدَأ مِنها عَنْ فَرسِه مِرارًا –أَيْ تقلَّب وتدحْرَج –فَرجَع إِلى قُريْشٍ يَقُولُ: قَتلَنِي مُحمَّدٌ, وَهُمْ يقولُونَ: لَا بأْسَ عليْكَ. فَقَالَ: لَوْ كَانَتْ بِجَمِيعِ النَّاسِ لقَتَلَتْهُمْ, أَلَيْس قَد قَال: أَنَا أَقْتُلك, واللهِ لَو بَصَقَ عَليَّ لقتَلنِي. فَماتَ فِي طَريقِ عَوْدَتِه([3]).
وَفِي غَزْوَةِ حُنين فرَّ المسلِمُون حِين باغتَتْهم هَوازِنُ بالسِّهامِ وَثبتَ النبيُّ صلى الله عليه و سلم فِي وَجْهِ العدوِّ وَهُوَ يقول:
أَنَـا النَّبِيُّ لَا كَـذِبْ أَنَــا ابْـنُ عَبْـدِ المطَّلِبْ([4]).
فَاللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّم على نبيِّك وَحَبِيبكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و سلم وَاجْمعْنا بِهِ في دارِ كَرامَتِك, واسْقِنا مِنْ يَدِهِ الشَّرِيفةِ شَرْبَةً هَنيِئةً لاَ نَظَمأُ بَعَدَها أَبدًا.
([2]) محمد rالإنسان الكامل ص(188, 189).
([3]) السيرة النبوية لابن هشام (3/174).
([4]) انظر: أخلاق النبي rفي القرآن والسنة (3/1341).