التشويق من خلال تكرار الكلمة أكثر من مرة .
من المعلوم أنَّ التكرار يولِّد القرار ، ويُورث الحفظ والفهم ، وقد يكون التكرار لإثارة الانتباه وجذب السامع ،
وجعله يصغي لما سيقال ، وتكرار الكلمة كان أسلوباً من أساليب الخطاب النبوي ،
إذ روت السيدة عائشة (رضي الله عنها) أنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) (( كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه ))
وعند مطالعتنا لكتب السُّنة نجد تطبيقاً عملياً لهذا ، إذ روى مسلم وغيره عن أبي ذرٍ (رضي الله عنه) أنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :
(( ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ، ثلاث مرات ، ))
ونجد أنَّ هذا الأسلوب قد آتى ثماره إذ إنَّ الراوي وهو
أبو ذرٍ قد تفاعل بشدةٍ من خلال تكرار النبي (صلى الله عليه وسلم) لهذه الكلمات ، فقال : خابوا وخسروا ، من هم يا رسول الله ؟
وهناك أمثلة كثيرة على تكرار الكلمة ثلاث مرات . ومما يقرب من هذا الأمر
أنَّه (صلى الله عليه وسلم) كان يجعل السائل والمستفسر عن شيء يكرره ثلاث مرات حتى يلفت انتباه من يسمعه من الحاضرين، وبالتالي ينتبهون لما سيجيبه به (صلى الله عليه وسلم) به ،
لأنَّ غالب الأمور التي كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يطلب فيها من السائل أو المستفسر الإعادة هي من المهمات ،
والتي ينبغي لأكبر عدد ممكن أن يسمعها ويعيها ، لذا كان يطلب التكرار .
ومثال ذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال:
(( خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال : أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل : أكل عامٍ يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ....))
ونظير هذا ما رواه مسلم كذلك عن أبي هريرة ٌقال : (( ثم قيل للنبي (صلى الله عليه وسلم) :
ما يعدل الجهاد في سبيل الله- عز وجلَّ- ؟ قال :
لا تستطيعوه ،
قال : فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً ، كل ذلك يقول
لا تستطيعونه ،
وفي الثالثة قال:
مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت بآيات الله لا يفتر من صيامٍ ولا صلاةٍ حتى يرجع المجاهد في سبيل الله ))
وهذا المثال كسابقه من حيث جعل السائل يكرر سؤاله أكثر من مرةٍ ، لكن فيه أسلوب إثارةٍ إضافي وهو أنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يعقِّب على سؤالهم بقوله :
(لا تستطيعونه ) ،
ليزيد من انتباههم ويشوقهم لما سيقال
وقد يكون التكرار أكثر من ثلاث مرات ، خروجاً عن المعتاد في التكرار ، ولا شكَّ أنَّ في هذا إثارةً أكبر، وتشويقاً أعظم ، وهذا لا يتكرر ويتأتى إلا لهدف عظيم ؛ لحثٍ على أمرٍ عظيم ، أو لتغيير أمرٍ جدُّ ذميم . ومثال ذلك ما أخرجه البخاري عن أبي بكرة قال : قال النبي (صلى الله عليه وسلم)
( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر (ثلاثاً) ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وجلس وكان متكئاً فقال : ألا وقول الزور ، قال فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ))
ونظير هذا ما رواه عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) قال:
(( قرأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) على المنبر:{ والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } ،قال : يقول الله –عز وجل- :أنا الجبار، أنا المتكبر،أنا المتعال ، يمجد نفسه ، قال : فجعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يرددها حتى رجف به المنبر ، حتى رجف به المنبر ، حتى ظننا أنَّه سيخر به ))
فهذان الحديثان يظهران أنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) ظلَّ يكرر هذه الألفاظ حتى يثير انتباه أكبر عدد ممكن ، وهذا ما كان من خلال وصف الراوي لدقائق هذا التكرار
الخروج عن المعتاد في الكلام والتصرفات
.
والخروج عن المعتاد في الخطاب هو أحد أساليب التشويق وإثارة الانتباه ، ولكن الخروج عن المعتاد يتناوله أكثر من أمرٍ ، ومن ذلك : أولاً : الخروج عن المعتاد في صفة الكلام :
حيث إنَّ كلام النبي (صلى الله عليه وسلم) كان فيه ترتيل وترسيل وفصل ،
يفهمه كل من سمعه ، فهو ليس بالجهير العالي الّذي يؤذي سامعه
ولا بالخفيض الّذي لا يسمعه من يقابله ، وإنَّما كان فصلاً ،
وكيف يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفة لا يمدحها ولا يحبها ؟
حيث روى الطبراني بإسناد ضعيف وحسّنه السيوطي ،عن أبي أمامة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم :
(( كان يكره أن يرى الرجل جهيراً رفيع الصوت ، وكان يحب أن يراه خفيض الصوت )) .
وقال المناوي في شرح هذا الحديث :
(( أُخذ منه أنَّه يُسن للعالم صون مجلسه عن اللغط ، ورفع الأصوات ، وغوغاء الطلبة ، وأنَّه لا يرفع صوته بالتقرير فوق الحاجة ، وقال ابن بنت الشافعي : ما سمعت أبي أبداً يُناظر أحداً فيرفع صوته ، قال البيهقي : أراد فوق عادته ، فالأولى أن لا يجاوز صوته مجلسه
والخلاصة
أنَّه ينبغي للمتكلِّم والقاريء أن يتكلم بكلام يُسمع فيه نفسه وغيره ،
ولا يرفع صوته أكثر مما يحتاجه الموقف ولا يخفضه أكثر من اللازم إلا لسبب وضرورة ،
وعليه أن يسلك أمراً وسطاً ، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
ولهذا لو كان الكلام بغير هذا لعُدَّ خروجاً عن المعتاد ،
واستحق أن يذكر ويُنعت بدقةٍ كأسلوب من أساليب الإثارة والتشويق
.
ومثال ذلك ما رواه جابر قال :
(( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه ، وعلا صوته،واشتد غضبه ،حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومسّاكم ))
فعلو الصوت مع اشتداد الغضب واحمرار الوجه ، لم يكن من عادته صلى الله عليه وسلم وإنما كانت تحصل في حالات خاصة لهدف محدد ، قال ابن عثيمين في شرحه للحديث :
(( وإنما كان يفعل ذلك لأنَّه أقوى في التأثير على السامع ))
لهذا كانت مؤثراتٍ تشدُّ السامع لما سيقال ، وبهذا يكون هذا الحديث قد اشتمل على أكثر من مؤثر . ثانيا : الخروج عن المعتاد في التَّصرُّف .
ونظير هذا ما رواه الإمام أحمد عن أبي بكر الصديق قال :
(( أصبح رسول الله ذات
يوم فصلى الغداة ثم جلس ، حتى إذا كان الضحى ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم جلس مكانه حتى صلى الأولى والعصر والمغرب ،
كل ذلك لا يتكلم ، حتى صلى العشاء الآخرة ثم قام إلى أهله))
، فقال الناس لأبي بكرٍ :
ألا تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شأنه صنع اليوم شيئاً لم يصنعه قط ؟ قال : فسأله ، فقال :
(( نعم عرض عليَّ ما هو كائن من أمر الدنيا والآخرة ، فجمع الأولون والآخرون بصعيد واحد ......الحديث ))
ففي هذا المثال يتبين كيف أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد تعمد هذه الإثارة ، وكأنه يشير إليهم أن سلوا ،
ولكنهم هابوا أن يسألوا عن حالٍٍ من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم فدفعوا أبا بكرٍ لهذه المهمة ،
لما يعرفون من مكانته من النبي صلى الله عليه وسلم ،
ولا شك أنهم سينتظرون الجواب بترقبٍ واهتمام ،
سيما وأنَّ فترة هذه الإثارة قد طالت – من الفجر إلى ما بعد العشاء – حتى يلاحظها كل أحدٍ ،
ويسمع عنها أكبر عددٍ ممكن ، فيأتي ليعرف سبب هذا التصرف غير المعتاد من النبي صلى الله عليه وسلم ويحصل بهذا المقصود .
ويلتحق بهذا اللون من التشويق تغيُّر اللون أثناء الكلام ،
إذ يُعدُّ ذلك أسلوباً من أساليب الإثارة ، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة قال :
(( كنا نمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا على قبرين ، فقام فقمنا معه ، فجعل لونه يتغير حتى رعد كم قميصه ، فقلنا : مالك يا نبي الله ؟ قال : أتسمعون ما أسمع ؟ قلنا : وما ذاك يا نبي الله ؟ قال : هذان رجلان يعذبان ...الحديث ))
وكذلك ما رواه علي(رضي الله عنه) قال
( ذكرنا الدَّجال عند النبي صلى الله عليه وسلم فاستيقظ محمرَّاً وجهه فقال: وغير ذلك أخوف عليكم .... الحديث ))
فهذان المثالان
يدلان على أنَّ تغير اللون أثناء الكلام أسلوبٌ من أساليب التَّشويق وإثارة الانتباه ،
ولهذا انتبه لها الرَّاوي فذكرها مع الحديث الذي سيقت لأجله . ومن الخروج عن المألوف مناداة من لا يعقل ، أو من هو في غياب عن الواقع
،كمناداة النبي صلى الله عليه وسلم لقتلى بدر ،
عندما ألقاهم في القليب ، مما أثار الصحابة (رضوان الله عليهم) فسألوه : كيف يناديهم وقد ماتوا وجيفوا ؟ ،
فيخبرهم النبي (صلى الله عليه وسلم) بأنهم ليسوا بأسمع له منهم ، ولكنهم لا يستطيعون الإجابة فحسب .
لقد كان من أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في إثارة انتباه الصحابة وتشويقهم ،
أن يكلمهم ببعض ما لا يعرفون أو يفهمون ،
وهو يعلم أنَّهم لا يفهمون كلامه حتى يطلبون التوضيح منه ،
والإفادة عما ذكر ،
وهذا أسلوب ناجع جداً ،
فلو أنَّ المعلم وصل إلى حث سامعيه على الاستفسار لقلنا أنه حقق نجاحاً في مهمته ،
فكيف إذا حثهم على التساؤل وأثار فضولهم من خلال ذكره لأمور يجهلونها ولا يعرفونها .
ومن ذلك الحديث الذي مرَّ معنا عن علامات الساعة ، وذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم
(ويكثر الهرج) ،
والهرج كلمة لم تكن معلومة لديهم لذا سألوا عنها ،
كما مرَّ معنا عند الاستشهاد بهذا الحديث على التحول من الكلام إلى الإشارة ،
وأزيد هنا فأقول : روى البخاري عن أبي موسى راوي الحديث أنَّه قال :
(( الهرج ؛ القتل بلسان الحبشة )) .
وكذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( اتقوا اللعانين، قيل:وما اللعانان يا رسول الله ؟ قال:الّذي يتخلّى في طريق الناس وظلهم)) .
ومن ذلك أيضاً استعماله صلى الله عليه وسلم لمصطلحاتٍ لا يعرفونها لإثارة انتباههم والسؤال عنها ،
كقوله صلى الله عليه وسلم :
(( من استطاع منكم أن يكون مثل صاحب فَرَق الأرز فليكن ، قالوا : يا رسول الله ، وما صاحب فَرَق الأرز ؟ ٌقال ...ثم ساق الحديث )) .
ونظير ذلك ما رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
( تعوذوا بالله من جبِّ الحزن ، قال يا رسول الله وما جبُّ الحزن ؟ قال : وادٍ في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يومٍ مائة مرة ....)) .
ففي هذه الأحاديث ذكرٌ لاصطلاحات لم تكن معلومة لديهم ، وأرى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تعمّد ذكرها
ليحثهم على التفاعل والتساؤل ، وهذا ما كان ، مما يؤكد أنَّ هذه الطريقة آتت ثمارها
.
ثالثا : ورود ما يُثير التعجب الاستغراب
وبالتالي الانتباه والتساؤل . وهي أقوال أو أفعال تثير الاستغراب بين السامعين ، نظراً لعدم توقعم صدورها عمن صدرت عنه ،
ومن ذلك حديث جبريل الطويل ، عندما سأل النبي (صلى الله عليه وسلم) عن الإسلام ، فأخبره فقال له : صدقت ، وهذا أمر يثير الدهشة والعجب ،ولهذا عبَّر الراوي بقوله : فعجبنا له يسأله ويصدقه ، إذ من المعلوم أنَّ السائل يسأل النبي (صلى الله عليه وسلم) فيجيبه فيمتثل لما أجابه ، أما أن يُعقِّب على الإجابة بقول : أصبت أو أحسنت ،فهذا يدل على أنَّ السائل يعلم إجابة ما سأل عنه ،
وهذا ما أثار استغراب الحاضرين وشوقهم لسماع بقية حواره مع النبي (صلى الله عليه وسلم) ،
ومحاولة معرفة هوية هذا السائل الغريب الّذي يسأل ويعرف إجابة ما سأل عنه من خلال تعليقه على الإجابة ،
قال القرطبي : (( إنما تعجبوا من ذلك لأنَّ ما جاء به النبي (صلى الله علي وسلم) لا يعرف إلا من جهته ، وليس هذا السائل ممن عرف بلقيه النبي (صلى الله عليه وسلم) ،
ولا بالسماع منه ، ثم هو سأل سؤال عارف محقق مصدق فتعجبوا من ذلك تعجب المستبعد لأن يكون أحدٌ يعرف تلك الأمور المسؤول عنها من غير جهة النبي صلى الله عليه وسلم )) ومثال ذلك أيضاً ما رواه البخاري عن عدي بن حاتم قال : قال النبي (صلى الله عليه وسلم) :
(( اتقوا النار ، ثم أعرض وأشاح ، ثم قال : اتقوا النار ، ثم أعرض وأشاح (ثلاثاً) ، حتى ظننا أنَّه ينظر إليها ، ثم قال : اتقوا النار ولو بشق تمرة )) .
المقال السابق
المقال التالى