عندما أشرف الحسينُ على العراق، رأى طليعة لابن زياد، فلما رأى ذلك رفع يديه فقال:"اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي من كل أمر نزل ثِقةً وعُدَّة، فكم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، فأنزلته بك وشكوته إليك رغبة فيه إليك عمن سواك، ففرجته وكشفته وكفيتنيه، فأنت لي وليُّ كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل غاية"..
وكان قوام هذه الطليعة ألف فارس بقيادة الحر بن يزيد التميمي، فقال لهم الحسين: أيها الناس إنها معذرة إلى الله وإليكم إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم ورسلكم أن أَقْدِمْ علينا فليس لنا إمام لعل الله أن يجعلنا بكم على الهدى؛ فقد جئتكم فإن تعطوني ما أطمئن إليه من عهودكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلنا منه فلم يجيبوه بشيء في ذلك، ثم قال له الحر: إنا أُمِرْنا إذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله بن زياد، فقال الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك, ثم أمر أصحابه فركبوا لينصرفوا فمنعهم الحر من ذلك، فقال الحسين: ثكلتك أمك ما تريد؟ فقال: أما واللهِ لو غيرُك من العرب يقولها ما تركت ذِكْرَ أمه بالثكل كائنًا من كان، ولكني والله مالي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يقدر عليه, ثم لازمه حتى لا يتمكن من العودة إلى المدينة، ثم أتى الجيش الذي أرسله عبيد الله بن زياد وعدته أربعة آلاف فارس، والتقوا في كربلاء جنوبي بغداد، ويدل التقاؤهم في هذا المكان على أن الحسين كان متجهًا إلى طريق الشام وقد عدل عن الكوفة، وعندما التقوا خيَّرهم الحسينُ بين ثلاث فقال: "إما أن تَدَعُوني فأنصرف من حيث جئت، وإما أن تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإما أن تدعوني فألحق بالثغور".
وكان أمير الجيش عمر بن سعد بن أبي وقاص، وكان ابن زياد قد هيأه ليرسله في حملة إلى الديلم، وقد عصى أهلها ثم حوله إلى الحسين، فاستعفى عمر من هذه المهمة، فلم يُعْفِهِ منها وهدده، فاستمهله إلى اليوم الثاني فأمهله، وقَبِلَ في اليوم الثاني أن يسير إليه.
وعندما سمع عمر بن سعد كلام الحسين استحسنه، وأرسل إلى ابن زياد بذلك يحسِّن له أن يختار أحد الاقتراحات الثلاثة، وكاد عبيد الله أن يقبل لولا أن شمر بن ذي الجوشن ـ وهو من الطغاة أصحاب الفتن ـ قال له: "لئن رحل من بلادك، ولم يضع يده في يدكم، ليكوننَّ أولى بالقوة والعز، ولتكوننَّ أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة، فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه فإن عاقبت فأنت ولي العقوبة، وإن غفرت كان ذلك لك"..
وقد استثار شمر بكلامه هذا ابن زياد، فهو جبار لا يقبل أن يوصف بالوهن والضعف، فوافق على كلام شمر، وأرسله ومعه كتاب إلى عمر بن سعد مضمونه أن الحسين إذا لم يستسلم ويأت إلى عبيد الله فليقاتَل، وإذا لم يُرِدْ عمر أن يقاتله، فليتنحَّ عن إمرة الجيش وليسلمها إلى شمر.
وعندما ورد شمر على على عمر بن سعد بن أبي وقاص وأفهمه رسالته؛ خاف عمر على نفسه من ابن زياد، ولم يقبل بأن يتنحَّى لشمر.
واستمر قائدًا للجيش، فطلب إلى الحسين تسليم نفسه، لكن الحسين لم يفعل ونشب القتال، ويجب أن نلحظ هنا أن الحسين لم يبدأ بالقتال بل إن موقفه كان عدم الاستسلام فقط.
وقع القتال بين فئة صغيرة لا تبلغ الثمانين رجلاً وبين خمسة آلاف فارس وراجل، على أنه انضم إلى الحسين أفراد رأوا أن أهل العراق خانوا الحسين، وأن من واجبهم الاستماتة بين يديه، فانتقلوا إليه مع معرفتهم بالموت الذي ينتظرهم، وكانت الواقعة فقُتِلَ رجال الحسين عن بكرة أبيهم (حوالي 72 رجلاً) وقتل الحسين معهم.
ونرى خلال القتال ما كان يُستحث به أهل العراق على حرب الحسين فكان يقال لهم: "يا أهل الكوفة الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل من مَرَقَ من الدين وخالف الإمام".. فكان أهل الكوفة إذًا يستحثون على الطاعة ولزوم الجماعة، ويُبيَّن لهم أن الحسين وأصحابه إنما هم مارقون من الدين.
وانتهت الموقعة بشكل يدعو إلى الأسف والأسى والحزن، وحُزَّ رأسُ الحسين، وأرسل إلى عبيد الله بن زياد، وقد روى البخاري في صحيحه بسنده إلى أنس بن مالك قال: أُتِيَ عبيد الله بن زياد برأس الحسين؛ فجعل في طست ينكت عليه, وقال في حسنه شيئًا، فقال أنس: إنه كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مخضوبًا بالوسمة"..
وفي رواية أخرى عن البزار قال له أنس: "إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثم حيث يقع قضيبك، قال: فانقبض..
وقد نَدِمَ عبيدُ الله بن زياد على قتله الحسين، فلذلك نجده يأمر لنساء الحسين وبناته وأهله بمنزل في مكان معتزل، وأجرى لهنَّ الرزق، وأمر لهن بنفقة وكسوة، ويظهر هذا الندم واضحًا في الموقف الذي يصوره لنا ابن كثير في "البداية والنهاية" فيروي أنه انطلق غلامان ممن كانا مع الحسين من أولاد عبد الله بن جعفر؛ فأتيا رجلاً من طييء فلجآ إليه مستجيرين به، فضرب أعناقهما وجاء برأسيهما لابن زياد، فغضب ابن زياد، وهَمَّ بضرب عنقه وأمر بداره فهدمت..
ثم بعث ابن زياد بالرؤوس ومن بينها رأس الحسين إلى يزيد بن معاوية بالشام، وانظر إلى هذا المشهد الأليم الذي يصوره لنا ابن كثير عن أحد شهود العيان بأرض الشام وهو "الغاز بن ربيعة الجرشي من حمير" قال: والله إني لعند يزيد بن معاوية بدمشق إذ أقبل زُحَر بن قيس فدخل على يزيد، فقال له يزيد: ويحك ما وراءك؟ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله عليك ونصره، وَرَدَ علينا الحسين بن علي بن أبي طالب وثمانية عشر من أهل بيته، وستون رجلاً من شيعته، فسرنا إليهم فسألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال، فاختاروا القتل، فغدونا إليهم مع شروق الشمس فأحطنا بهم من كل ناحية حتى أخذت السيوف مأخذها من هام القوم، فجعلوا يهربون إلى غير مهرب ولا وزر، ويلوذون منا بالآكام والحفر، لواذًا كما لاذ الحمام من صقر، فوالله ما كانوا إلا جزر جزور أو نومة قائل حتى أتينا على أخرهم فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مزملة وخدودهم معفرة، تصعرهم الشمس وتسفي عليهم الريح، زوارهم العقبان والرَّخم..
فدمعت عينا يزيد بن معاوية وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين, لعن الله ابن سمية (عبيد الله بن زياد) أَمَا واللهِ لو أني صاحبُه لعفوت عنه، ورَحِمَ اللهُ الحسين. ولم يصل الذي جاء برأسه بشيء، ثم أنشد قول الحسين بن الحمام المري الشاعر:
يفلقن هامًا من رجالٍ أعزةٍ علينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
ثم أكرم يزيد بن معاوية نساء الحسين وأهله وأدخلهنَّ على نساء آل معاوية وهُنَّ يبكين ويَنُحْنَ على الحسين وأهله, واستمر ذلك ثلاثة أيام، ثم أرسل يزيد بن معاوية إليهن يسأل كل امرأة عما أُخِذَ منها ؟ فليس منهنَّ امرأةٌ تدَّعي شيئًا بالغًا ما بلغ إلا أضعفه لها.
ثم أمر يزيد بن معاوية النعمان بن بشير أن يبعث معهنَّ رجلاً أمينًا معه رجال وخيل يصحبهن أثناء السفر إلى المدينة.
وعندما ودعهن يزيد قال لعلي بن الحسين ـ علي الأصغر ـ قبَّح الله ابن سمية, أما والله لو أني صاحب أبيك ما سألني خصلة إلا أعطيته إياها، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكنَّ الله قضى ما رأيت، ثم جهَّزه وأعطاه مالاً كثيرًا, وكساهم وأوصى بهم ذلك الرسول، وقال لعلي: كاتِبْنِي بكل حاجة تكون لك. |