حرمة النبي بعد موته ، وتوقيره وتعظيمه
قال القاضي أبو الفضل رحمه الله : واعلم أن حرمة النبي بعد موته ، وتوقيره وتعظيمه ، لازم كما كان حال حياته، وذلك عند ذكره ، وذكر حديثه وسنته، وسماع اسمه وسيرته، ومعاملة آله وعترته ، وتعظيم أهل بيته وصحابته .
وقال أبو إبراهيم التجيبي : واجب على كل مؤمن متى ذكره ، أو ذكر عنده ـ أن يخضع ويخشع ، ويتوقر ويسكن من حركته ، ويأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه ، ويتأدب بما أدبنا الله به .
وهذه كانت سيرة سلفنا الصالح وأئمتنا الماضين رضي الله عنهم .
*حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الأشعري ، وأبو القاسم أحمد ابن بقي الحاكم ، وغير واحد ، فيما أجازونيه ، قالوا : أنبأنا أبو العباس أحمد بن عمر ابن دلهاث ، قال : حدثنا أبو الحسن علي بن فهر ، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد ابن الفرج ، حدثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب ، حدثنا يعقوب بن إسحاق ابن أبي إسرائيل ، حدثنا ابن حميد ، قال ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله ، فقال له مالك : يا أمير المؤمنين ، لا ترفع صوتك في هذا المسجد ، فإن الله تعالى أدب قوماً فقال : (لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) (الحجرات : 2 ). ومدح قوماً فقال (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (الحجرات : 3 ).
وذم قوماً فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (الحجرات : 4 ) وإن حرمته ميْـتاً كحرمته حياً . فاستكان لها أبو جعفر ، وقال : يا أبا عبد الله ، أأستقبل القبلة وأدعوا أم أستقبل رسول الله ؟ فقال : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة ؟ بل استقبله واستشفع به ، فيشفعه الله ، قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً) (النساء : 64 )
-وقال مالك ـ وقد سئل عن أيوب السختياني : ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه :
وقال : وحج حجتين ، فكنت أرمقه ولا أسمع منه ، غير أنه كان إذا ذكر النبي بكى حتى أرحمه .
فلما رأيت منه ما رأيت ، و إجلاله للنبي كتبت عنه .
-وقال مصعب بن عبد الله : كان مالك إذا ذكر النبي يتغير لونه ، وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه ، فقيل له يوماً في ذلك ، فقال لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون ، ولقد كنت أرى محمد ابن المنكدر ، وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه .
ولقد كنت أرى جعفر بن محمد الصادق ، و كان كثير الدعابة والتبسم ، فإذا ذكر عنده النبي اصفر . وما رأيته يحدث عن رسول الله إلا على طهارة . وقد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال : إما مصلياً ، وإما صامتاً ، وإما يقرأ القرآن ، ولا يتكلم فيما لا يعنيه ، وكان من العلماء والعباد الذين يخشون الله عز و جل .
-ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم ، وقد جف لسانه في فمه هيبةً لرسول الله
-ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذ ا ذكر عنده النبي بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع .
-ولقد رأيت الزهري ـ وكان من أهنأ الناس وأقربهم ، فإذا ذكر عنده النبي فكأنه ما عرفك ولا عرفته .
-ولقد كنت آتي صفوان بن سليم ، وكان من المتعبدين المجتهدين ، فإذا ذكر النبي بكى ، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه و يتركوه .
-وروي عن قتادة أنه كان إذا سمع الحديث أخذه العويل والزويل .
-ولما كثر على مالك الناس قيل له : لو جعلت مستملياً يسمعهم ؟ فقال : قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيَِّ) (الحجرات : 2 ) وحرمته حياً وميْتاً سواء .
-وكان ابن سيرين ربما يضحك ، فإذا ذكر عنده حديث النبي خشع .
-وكان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث النبي أمرهم بالسكوت ، وقال :( لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيَِّ) (الحجرات : 2 ) ويتأول أنه يجب له من الإنصات عند قراءة حديثه ما يجب له عند سماع قوله .